اخبار اليوم الصحيفة, كانت طقسا دينيا اخبار اليوم الصحيفة, كانت طقسا دينيا
تنبعث سحب الدخان من صور المثقفين والفنانين، فالسيجارة دائما هناك، تحجز مكانا لا يستبدله شيء بين الاصابع وبين الشفاه. نجدها في يد محمود درويش وهو يجلس على اريكته في اريحية وينظر الى عين الكاميرا، تلك الاريحية نفسها التي تقطر بها كلماته حين كتب: “مركب على النيل يوم الثلاثاء. قهوة/وشاي ودخان سجائر. وكلام عن الدنيا”، [1]فسجائره لا تتركه في صباحات الصحبة والسمر، ولا في ليل الشعر الطويل. كما تجلس دائما بين شفتي البير كامو، الذي لم يبال بدرنه الرئوي، واخذ يدخن طوال حياته بشراهة؛[2] في صورته الاشهر، نجدها في مكانها المحفوظ، تخرج مائلة قليلا من فمه، بينما يلتفت الينا نصف التفاتة وبريق عينيه يحدق فينا عبر كل تلك العقود. ونجدها ايضا في يدي نزار قباني المعروقتين، تتحرك وتنفعل معه وتشاركه الايماءة والكلام؛ وككل شيء في دنياه، لم يتركها دون ان يخلق منها شعرا ويجعل منها قصيدة، ستضفي عليها جاذبية لا تقاوم: “واصل تدخينك يُغريني… رجل في لحظة تدخين / ما اشهى تبغك والدنيا… تستقبل اول تشرين”. [3]
تتحدث الاديبة المغربية رجاء الطالبي عن صور المثقفين مع سجائرهم وتُضيف: “تحضرني صورة محمد الماغوط وسيجارته المشهورة بين شفتيه وهو يمج امتعاضه من واقع ومن مهنة للعيش لم تعد تعجبه، وصورة غسان كنفاني وهو يكتب بينما السيجارة بين اصابعه، كتّاب كثيرون مدمنون على سيجارتهم لا يفارقونها -او غليونهم لا يفارقونه-، هي عصب تفكيرهم واشتغالهم، كتاب كثيرون لا يستطيعون الكتابة من دون ان يدخّنوا، اذكر المفكر العدمي اميل سيوران الذي صرّح انه الّف كتُبَه بمساعدة القهوة والتبغ، وان كتابته سقطت نحو الصفر بمجرد ما استحال عليه ان يدخن”.[4]
الامثلة على صورة الكاتب او الفنان او المثقف برفقة السيجارة يكاد لا يمكن حصرها، حتى استحال التدخين احد اركان الصورة النمطية عن المبدع. فقد ارتسمت له في اذهاننا صورة ككيان مضطرب، ينظر الى الافق نظرة تملؤها التساؤلات، ينفث دخان السجائر ويشرب اكوابا لا تنتهي من القهوة بينما يحاول ان يسبر اغوار الوجود باحثا عن الالهام. تلك الصورة المتكررة للمبدع برفقة سجائره، وما نعرفه عن عادات تدخين الكثير من المفكرين الذين لم يكن التبغ يفارقهم، يجعلنا نتساءل: ما السبب يا ترى وراء ذلك الربط النمطي للمثقف بالسيجارة؟ وما سر تعلق ذلك العدد الكبير من المفكرين، وغيرهم من الاشخاص بالطبع، بعادة صار معروفا لنا مدى خطورتها على الصحة؟ لنجيب عن ذلك السؤال علينا ان نرحل قرونا للوراء، وان نلقي نظرة على تاريخ السيجارة، وعلى تمثيلاتها العديدة في الفن التي اضفت عليها معاني وظلال جعلت منها اكثر بكثير من مجرد اسطوانة محشوة بالتوباكو.
السيجارة في البداية: رمز ديني ثم طبقي
في فم الالهة المنتشية في لحظة تجلٍّ، وضع شعب المايا قديما السجائر في لوحاتهم. فقبائل المايا التي ادمنت دخان السجائر ورات فيه سحابا سحريا ياخذها بعيدا عن الارض، جعلت الهتها تدخن مثلها. فقد بدا تدخين السجائر اول ما بدا كجزء من الطقوس الدينية في اميركا الجنوبية، حيث كان الشامانات ينفثون الدخان في محاولة للوصول لحالة من الغيبوبة يتواصلون خلالها مع عالم الارواح، وقد تركوا لنا في رسوماتهم ونقوشهم صورا كثيرة لالهة ورجال دين يدخنون. كان ذلك في عصور قديمة بدات منذ العام 5000 قبل الميلاد، واستمرت حتى القرن السادس عشر حين احتلت القوات الاوروبية اميركا الجنوبية.[5] [6]
عرفت اوروبا بعدها التبغ ملفوفا على هيئة سيجار انيق، يجلس بين شفاه الاغنياء والنبلاء. اما السجائر، فكان لها اصل اكثر تواضعا ظل يلاحقها لقرون. ففي مدينة اشبيلية في اسبانيا، داب الفقراء والشحاذون على جمع ما تبقى من اعقاب سيجارات الاغنياء الملقاة على الارض، ولفها في ورق لتدخينها. لهذا السبب، ظلت السيجارة مرتبطة في الاذهان بشكل لا فكاك منه بالطبقات المُعدمة. ولهذا ايضا، كان شيئا جالبا للمعرّة ان يُرى في فم رجل من الطبقة البرجوازية سيجارة بدلا من سيجار. وجد هذا المعنى طريقه للفن التشكيلي في القرن السابع عشر، حيث كان وضع سيجارة بين يدي رجل كافٍ ليعرف المتلقي ان هذا الرجل ينتمي الى الطبقات الدنيا من المجتمع.[7]
في نهايات القرن التاسع عشر، عندما اخترع الاميركي جيمس بوزناك مكينة قادرة على لف مئتي سيجارة في الدقيقة، تحولت السيجارة من شيء عشوائي الصنع وضيع الاصل الى منتج يُباع في الاسواق. ظلت طبقة الاغنياء على حالها تُدخن السيجار، اما السجائر، فعرفت طريقها من ايادي المعدمين لايادي الطبقة العاملة. نستطيع ان نرى الرمزية الطبقية التي مثلتها السيجارة مقارنة بالسيجار في الملصق الدعائي لاحد العروض الموسيقية الذي رسمه الفنان الفرنسي ثيوفيل اليكسندر ستينلين.[8] [9]
في هذا الملصق، يقف الرجل البرجوازي على يسار الصورة في كامل هندامه واناقته طويلا ومفرود القامة، بينما يمد طرف سيجاره الكبير لطرف السيجارة الضئيلة التي يمسك بها احد رجال الطبقة العاملة، الذي يظهر على يمين الصورة قصيرا ومحني القامة، في ثياب متواضعة. ترى الباحثة باتريشا بيرمان في ذلك المُلصق “كاريكاتيرا لعلاقات الطبقة والقوى. فبينما تُشعِل السيجار البرجوازي سيجارة الطبقة العاملة، نرى علاقة اجتماعية معقدة، يعتمد فيها رجل الطبقة العاملة على عطايا النبيل، بينما يقوم النبيل بهذا الفعل كنوع من الاحسان والسيطرة في الان نفسه”.[10]
لكن على تخوم النظام الطبقي السائد في المجتمع، وقفت جماعة رفضت كل ما كان مُسيطرا على الطبقة البرجوازية من تزمت فكري واخلاقي واحتقار للطبقات الادنى. كانت تلك الجماعة هي جماعة الفنانين والمثقفين، الذين شكلوا قوام الثقافة البوهيمية في اواخر القرن التاسع عشر، والذين اخذوا يمارسون كل ما كان مغضوبا عليه من البرجوازية، كنوع من التمرد، ورغبة في الاختلاف عمّن لا يشاركونهم افكارهم ومُثلهم. وعلى راس الاشياء التي اعلنت بها تلك الجماعة تمردها عن القيم البرجوازية جاء تدخينها للسجائر. وهكذا، سرعان ما وجدت السجائر طريقها للوحات الرسامين البوهيميين، لتتشكّل النقوش الاولى في الصورة النمطية عن ارتباط المثقف بالسيجارة.
السيجارة في الفن التشكيلي: خروج على الاعراف
لنفهم كم كان في تدخين المثقفين والفنانين للسجائر في اوروبا القرن التاسع عشر انحراف شديد عن اخلاقيات الطبقة الوسطى، علينا اولا ان نلقي نظرة على الصورة شديدة السلبية التي رات بها تلك الطبقة تدخين السجائر؛ فقد سيطر عليها خوف غير مفهوم منها، وبغض شديد لها، رات معه في تدخينها تجسدا للانحلال الاخلاقي. نرى ذلك بوضوح في احدى قصص الكاتب الروسي انطون تشيخوف التي تناولت في جزء منها هذه المسالة، وتقول في احدى فقراتها: “كان التدخين يثير في نفوس المدرسين والاباء رعبا غريبا، غير مفهوم تقريبا. كان ذلك رعبا بالفعل. وكانوا يضربون الاولاد بقسوة، ويفصلونهم من المدرسة، ويفسدون عليهم مستقبلهم، رغم ان احدا من المدرسين او الاباء لم يكن يعرف بالضبط ما الضرر من التدخين وما الجريمة في ذلك. وحتى اذكى الاشخاص لم يترددوا في مكافحة الرذيلة التي لم يكونوا يفهمونها”.[11]
وقد تعالت في تلك الفترة اصوات المنظرين الاخلاقيين من المفكرين المحافظين والاطباء، وهم يشنون على السجائر ومدخنيها هجوما ضاريا. فوصفها الجرّاح ثيودر بيروث بـ”الخطيئة المقززة التي تدمر الصحة، والتي ياتي الشغف بها نتيجة للفراغ والملل، وبسببها وبسبب الكحوليات يسود الاضطراب المجتمع”. ولم يكن غريبا في تلك الفترة ان تجد عنوانا في واجهة احدى الصحف يقول: “تدخين السجائر يسبب الجنون”. فوفقا لبحث باتريشا بيرمان، بسبب رخصها النسبي وسهولة الحصول عليها، راى المجتمع في السجائر عنصرا للفساد يُذهِب عقل المُدخن، ويؤدي لانحرافه اخلاقيا. من الطريف حقا ان الاطباء راوا كل تلك الاخطار في السجائر وحدها، دونا عن الاشكال الاخرى للتدخين مثل البايب والسيجار -المرتبطة كما اردفنا بطبقة النبلاء-، فوفقا لهم، كانت السجائر تعمل في الجسم والجهاز العصبي بشكل مختلف تماما عن السيجار الذي لم يروا له اضرارا تُذكر.[12]
رغم كل هذا، او بالاحرى بسببه، وجدت جماعة الفنانين والمثقفين الشباب في السيجارة افضل تعبير عن تمردهم على الطبقة الوسطى وقيمها المتزمتة. فقد راوا في الرمزية الطبقية للسيجارة شيئا بغيضا ارادوا ان يمحوه؛ فخرجوا، كشباب ينتمي للطبقة البرجوازية من حيث النشاة، عن الصورة المتعارف عليها من حصر تدخين السجائر على الطبقة العاملة، واخذوا يدخنون السجائر. وابتعدوا في تدخينهم اكثر واكثر عن المساحات المتعارف عليها والمقبولة اجتماعيا التي كان افراد البرجوازية يقضون فيها اوقات فراغهم، فعوضا عن ابهاء المنازل حيث كانت تقام المناسبات الاجتماعية، صاروا يترددون على مساحات اخرى كانت جديدة انذاك، يدخنون فيها السجائر بحرية، ويتقابلون رجالا ونساء بعيدا عن العين الصارمة والمتحفظة للمجتمع. كانت تلك المساحات هي المقاهي، والتي اقترنت، من ثم، بجماعة المثقفين البوهيميين في اواخر القرن التاسع عشر، وصارت هي الاخرى مساحة مغضوبا عليها اجتماعيا ينظر اليها المنظرون الاخلاقيون شزرا، ويرون فيها بوتقة للانحلال الاخلاقي. لكنّ شيئا كهذا لم يسبب ادنى ازعاج للفنانين، فهم لم يكونوا ليبالوا بمثل تلك الاحكام.
سيطر دخان السجائر على اماكن لقاء المثقفين، من مقاهٍ، غالبا، واستوديوهات الرسامين، احيانا. ومن ثم، وجدت طريقها للوحات التي كانت تصور حياة الفنانين في تلك الفترة. ربما من اشهر تلك اللوحات لوحة “جانب من مرسمي”، للفنان النرويجي كريستان كروج. وفيها، نرى الرسّام والممثل كالي لوشن واقفا يمين الصورة يُدخن سيجارة، وعلى المنضدة تجلس الممثلة كونستانس برون والرسامة اودا لاسون، وفي عمق الصورة، نستطيع ان نلمح الفنان النرويجي البالغ من العمر 21 عاما حينها، ادفارد مونش، هو ايضا منهمكا في تدخين سيجارته.
واولئك الاشخاص انفسهم تقريبا نراهم في نقش مونش “بوهيميي مدينة كريستيانا”، حيث يجلس جماعة من المثقفين والفنانين حول طاولة في مقهى، وفي الواجهة يجلس مونش مطاطئ الراس باعثا بدخان سيجارته في مسارات افعوانية في الهواء.
وفي احدى اشهر لوحاته، “بورتريه ذاتي برفقة سيجارة”، يقف مونش اعزلا، الخلفية الزرقاء فارغة وراءه، بلا ملمح لمكان ولا لزمان، وفي عينيه نظرة شاردة يحس معها المتلقي انها تتخطاه، تتخطى الواقع والافق، وتنظر الى شيء في فضاء اخر بعيد. لم يختر ان يحمل معه شيئا ليعبر عنه سوى سيجارة، اخذت تبعث بدخانها في فراغ الصورة ليذوب رويدا رويدا في الخلفية، وباتت تتخطى مجرد كونها لفافة محشوة بنبات مخدر، لتصير عند البعض رمزا للفقر والانحلال والتفسخ، وعند البعض الاخر وسيلة للتمرد. كان كل ذلك في اواخر القرن التاسع عشر، بعدها بسنوات قليلة سياتي القرن العشرين، وفيه سيسيطر فن اخر على الجماهير، وستتغير مع ذلك الفن رمزية السيجارة مرة اخرى، لتتعلق بها مع جموع الفنانين والمثقفين اجيال كاملة.[13] [14]
السيجارة والسينما: غواية الدخان
بعد ان رسم مونش واصدقاؤه انفسهم في المقاهي يدخنون السجائر المغضوب عليها من المجتمع بخمسين عاما، نجد انفسنا في المشاهد الاولى من فيلم “كازابلانكا” في اعماق مقهى اخر، لا يبدو اي شخص هذه المرة منزعجا من السجائر، فجميع الجالسين تقريبا يدخنونها؛ لكنّ احدا من المدخنين لا يدخن سيجارته بمثل تلك الجاذبية التي يدخن بها ريك، مالك المقهى وبطل الفيلم، سيجارته؛ فنراه اول ما نراه ياخذ السيجارة من فوق المطفاة، ويضعها في طرف فمه ليسحب منها انفاسا عميقة بينما يلعب الشطرنج.
لم تكن هذه المرة الاولى ولا الوحيدة التي يدخن فيها النجم همفري بوجارت على الشاشة، فالسيجارة لم تكد تفارقه للحظة في اي من افلامه. هي دائما معه، معه وهو يفكر تفكيرا عميقا، ومعه وهو شارد، معه وهو يجلس وحيدا، ومعه وهو برفقة الاخرين. ولم يكن بوجارت الوحيد كذلك من نجوم السينما الذي يدخن بكثافة في افلامه، فقد كانت السيجارة جزءا لا يتجزا من ادوار كثيرة؛ فالمحقق في افلام النوار يُدخّن، ورئيس العصابة في تلك الافلام نفسها يُدخّن، والفتى الوسيم الذي تتهافت عليه النساء يدخن، ونرى من ان لاخر ايضا امراة جميلة تدخن. اضفى كل هؤلاء على السيجارة جاذبية لا تقاوم، كما لعبت هي دورا محوريا في الكثير من المشاهد المهمة. ففي اي فيلم رومانسي قديم، دائما ما ياتي ذلك المشهد الذي بتنا نحفظه جميعا، حيث ينحني احد البطلين على الاخر، ويطلب منه ان يُشعل له سيجارته، او يعرض عليه الشيء نفسه. وهذا المشهد، كتدخين الوسيمين والجميلات في السينما، لم يكن اعتباطيا على الاطلاق.
في الفترة من 1930 وحتى 1968، كانت تتحكم مجموعة من القواعد الصارمة التي سُميت بـ”قانون انتاج الافلام” فيما هو مسموح او غير مسموح ظهوره على الشاشة، وعلى راس قائمة الممنوعات جاءت اي دعوة صريحة او تلميح واضح لممارسة الجنس. كان على المخرجين حينها الاتيان ببدائل ذكية، تقوم بايصال المعنى او الايحاء به دون تصريح واضح. وهنا، جاء استخدامهم للدعوة الى التدخين كمجاز عن الانجذاب الجنسي او الرغبة في ممارسته بين الشخصيات. [15]غالبا، كان الطرف الذي يدعو الاخر للتدخين او يدخن بكثافة هو الطرف الاكثر نضجا جنسيا والاكثر سيطرة في العلاقة. معظم الوقت، كان ذلك الطرف هو الرجل، لكن في احيان قليلة، يحدث العكس، فتكون المراة هي من تبادر بالدعوة للتدخين. نجد ذلك في فيلم مثل الفيلم المصري “شباب امراة” لصلاح ابو سيف، حيث تكون المراة شفاعات، الاكبر سنا والاكثر سطوة، هي من تعرض التدخين على الشاب امام، والذي ما ان ياخذ نفسا من السيجارة حتى يسعل بشدة، في تعبير عن عدم نضجه جنسيا.[16] ونجد ذلك المعنى ايضا في الفيلم الاميركي “الخريج”، والذي كانت السيدة روبنسن هي من تداب فيه على التدخين اغلب الوقت، بينما كان بينجامن نادرا ما يدخن.
لم تغب معاني النضج والجاذبية الجنسية، وان بشكل غير واعٍ، عن اذهان المُتلقين. فالفتيان على اعتاب المراهقة كانوا يتوقون للاختباء تحت استار الظلام بعيدا عن اعين ذويهم لينفثوا دخان السجائر ويشعروا انهم اخيرا صاروا رجالا، فالسيجارة باتت تُمثّل لهم طقس عبور مجازيا من عالم الطفولة البريء الى عالم الرجولة. يقول الكاتب سامر اسماعيل عن هذا: “جاءت الحداثة باحتفال تنسيبي جديد ذي طابع كوني هو التدخين. كثير من المدخنين بدؤوا هذه العادة سرا او علنا باعتبارها احتفالا بعلامات بلوغ مرحلة الشباب. حصة التمرد موجودة في السعي لاول سيجارة، حصة التحدي واشهار الرجولة”.[17] كما نلمح تلك الهالة من الجاذبية التي بات دخان السجائر يحيط بها المُدخن في قصيدة نزار قباني “صديقتي وسجائري”، التي سبق واشرنا اليها. وفيها ترجو امراة حبيبها في ان يواصل تدخينه، الذي يغريها بشدة وتقول له:
“دخن .. لا اروع من رجلٍ
يفنى في الركن .. ويفنيني ..
……..
اشعل واحدة .. من اخرى
اشعلها من جمر عيوني
ورمادك ضعه على كفي ..
نيرانك ليست تؤذيني ..”
تقول الاديبة رجاء الطالبي عن تلك القصيدة: “اُغرِمت الصبايا بالذين يشعلون سجائرهم بنزق ويطفئونها بنزق، واذا غطّوا وجوههم بصحيفة كان الغرام اشدّ اُوارا، واذا صفّوا فناجين القهوة اشتعل اكثر”[18]. لا يمكننا ان نعرف تماما، لكن اغلب الظن اخذ الكثير من الشباب الصغير قديما يتخيل نفسه وهو ممسك السيجارة في اول لقاء له معها، جيمس دين او رشدي اباظة، ينفث الدخان فيذهب بالباب الفتيات. اخذت السينما السيجارة اذن من صفوف اقلية الفنانين والمثقفين واحاطتها بغواية صار الكثيرون يبحثون عنها في سحب الدخان.
بالطبع لن يجعل التدخين احدا اكثر وسامة، ولن يكون من الكافي ابدا ان يمسك احدهم سيجارة فيتحول الى مفكر او فنان. لكن تمثيلات السيجارة الفنية، التي جاءت في حالة الفن التشكيلي انعكاسا لرغبة في التمرد، وفي السينما وسيلة لايصال معانٍ كان من المحال حينها ايصالها باي طريقة اخرى، وفي صور المثقفين نقل لادمان اثير لدى معظمهم، حاوطت ذلك الجسد الاسطواني الصغير بشبكة معقدة من المعاني والدلالات، التي باتت تخطر بشكل تلقائي في ذهن معظمنا حالما نرى سيجارة.كانت طقسا دينيا واغرم بها المثقفون والفنانون.. القصة التي لا تعرفها عن السيجارة