اخبار اليوم الصحيفة, ابو مسلم الخراساني.. اخبار اليوم الصحيفة, ابو مسلم الخراساني..
ما طار طيرٌ وارتفع * الا كما طارَ وقَعْ *من شعر الامام الشافعي
المكان: المدائن بوسط العراق، الزمان: عام 137هـ. .انتظر ابو جعفر المنصور العباسي هذه اللحظة منذ سنوات، وقد كاد يظن انها لن تاتي. اذ ليس من السهل ابدًا – مهما كنت داهية -، ان تتغلب على من اجتمع في قلبه همّة الاسكندر الاكبر، وبطش الاكاسرة، واقدام خالد، وسفك الحجّاج! خصوصًا وهو صديقك اللدود، وسيفك الاقوى
ضد خصومك!
ولكن لكلٍّ مُبتدى نهاية، وهاهي المصيدة قد احكمت حلقاتها حول الفريسة، والتي اعتورتْها سيوفُ حرس الخليفة حتى حوّلْتها كومةً من الدم واللحم والعظم. كان لسان حال ابي جعفر: «ها انا قد اذقتُك يا غلام ابي موسى السراج، من نفس الكاس التي اذقْتها لعشرات الالاف باسم دعوتنا! والان فقط.. قامت دولة العباسيين خالصة مُخلّصة.. والان فقط اصبحتُ خليفَتها».
لم يبقَ الان من هذه الملحمة التاريخية سوى تنظيف
قصر الخليفة من الجثة واثار دمائها. وهكذا انطوت صفحة
ابي مسلم الخراساني الملقب بـ«صاحب دولة العباس».. وقتيلها الاشهر كذلك.. والان نعود سنواتٍ الى الوراء لنتعرف الى اصل الحكاية.
الامويون على مقصلة التاريخ
كانت «الثورة الاصلاحية» التي حاول بها عمر بن عبد العزيز الاموي 99 هـ – 101 هـ ارساء العدالة، وتوحيد الامة التي مزّقتها الاحقاد التي زرعتها مظالم الامويين، وبطش وُلاتِهم بالخصوم، خاصة من ال بيت الرسول، والذين فقدوا صفوة رجالهم في كربلاء وغيرها، وعلا سب رموزهم على المنابر، على
مدار 60 عامًا، كانت هي اخر محاولة جريئة وحقيقية لاعادة الامور الى نصابها.
كان البيت الاموي بالمرصاد للرجل، فلم تكد تمر سنتان من حكمه، حتى دسّوا له السم – على ارجح الروايات التاريخية -، ليعتلي العرش بعده يزيد بن عبد الملك، الذي اعاد الامور كثيرًا الى ما قبل المرحلة العمرية. لم يقتل سم الامويين عمرَ وحدَه، بل قتلوا انفسهم به وما كانوا يعلمون.
استمرت حكومتهم على نفس السياسة القديمة التي اثارت كثيرًا من المظالم، فبدات المزيد من الجذوات تحتشد تحت الرماد. ورغم التماسك النسبي الذي كفله حكم هشام بن عبد الملك 105هـ
– 125هـ، والذي اعاد سيرة الامويين الاقوياء كمعاوية، وكابيه عبد الملك بن مروان، الا ان سياسة البطش بالخصوم، التي حافظ عليها، قد اضافت المزيد من الاحن والمرارات ضد الامويين، خاصة لدى ال البيت ومناصريهم، والذين اذاقهم هشام كربلاء جديدة، عندما قتلت جيوشُه الثائَر زيد بن علي بن الحسين، الذي خرج ينشد ثار اهله.
بدا العد التنازلي للمصير المحتوم مع تولي الوليد بن يزيد بعد عمه هشام. كان الوليد سيء السيرة، منصرفًا للهو والعبث. كما اخذ يبطش بابناء عمومته الذين اظهروا عدم الرضا من حكمه، مما سبب ثورتهم ضده بقيادة ابن عمه يزيد بن الوليد، حتى قتلوه عام 126هـ ولم يكمل عامَه الاول.
حاول يزيد اعادة سيرة العادل عمر، الا انَّه مرض وتوفي بعد اقل من عام. تكررت الحرب الداخلية بين الامويين على العرش مجددًا، وانتهت بانتصار مروان بن محمد عام 127هـ، والذي وان كان اميرًا قويًا، فانه اتى بعد ان اتسع الخرق على الراتق،
فقد اضعفت النزاعات شوكة الامويين، وضرب الفساد مفاصل الدولة، والاخطر ان نذر الثورة العارمة بدات تلوح في الافق، من جهة الشرق، حيث تكدست مظالم الحكم الاموي، فانفجرت ينابيع الحقد الشديد عليهم.
خراسان.. والخراساني
ارى بينَ الرماد وميضَ نارٍ * ويوشِكُ ان يكون لها ضِرامُ
فان لم يُطفِها عقلاءُ قومي * يصيرُ وقودُها جثثٌ وهامُ
هذه الابيات السابقة كانت لنصر بن سيَّار (والي خراسان للامويين)، في رسالة شهيرة للخليفة مروان بن محمد ينذره بتفاقم دعوة ابي مسلم الخراساني. كان اقليم خراسان – يقع في ايران وافغانستان حاليًا – حيث تعيش غالبية من الفرس، يتلظَّى بالحقد على الامويين، فقد ذاق اهله الامرّيْن من الانحياز الاموي للقبائل العربية، وايثارهم بالنفوذ والمال، بالتواطؤ مع الدهاقنة الفرس (كبار الاقطاعيين اصحاب الارض). فكانت غالبية الناس، خصوصًا صغار المزارعين تعيش في فقرٍ مدقع، بينما يتنعَّم السادة العرب والفرس بمعظم خيرات شقائهم.
كذلك كان همّ الولاة جباية اكبر قدر من الاموال من الناس، لكي يتمكنوا من ارضاء «ولاة الامر» في دمشق بارسال حصيلة كبيرة من الخراج تحتاجها الدولة لتوسعاتها العسكرية والعمرانية، ولرفاهية امرائها، ولكي يتبقى لهم بعدها القدر الكافي لمراكمة ثرواتهم الشخصية. بلغ بهم الحرص على هذه الجباية الى حد عدم اسقاط الجزية عن الالاف الذين اسلموا من الفرس! حاول عمر بن عبد العزيز ابطال هذا بشعاره الشهير «انما بُعِثَ محمد داعيًا وليس جابيًا»، لكن الامور عادت بعد وفاته اشد من السابق بعد عهده.
مقطع تمثيلي لابي مسلم الخراساني – صقر قريش
في هذا المناخ المشحون بالمظالم، وبالتمييز ضد العنصر الفارسي، نشا الشاب الفارسي الطموح، المعتد بنفسه وباصله، (عبد الرحمن بن مسلم) الذي حُفِرَ اسمُه بعد ذلك في التاريخ باسم ابي مسلم الخراساني.. تختلف الروايات في نسبه، وفي تفاصيل طفولته، لكن الارجح انه ولد عام 100هـ، وكانت طفولته فريسة للفقر وشظف العيش، الا انها لم تفُت في طموحه، وشغفه بالاطلاع، فقرا الكثير، خاصة في كتب الاخبار والتواريخ. وكانت تستهويه بشغفٍ خاص قصص الاكاسرة الفرس العظام، واحداث قيام الدول، وسقوطها، والملاحم الحربية … الخ.
انتهت الحال بهذا الفتى المثقف عاملًا في ورشة ابي موسى السرّاج. لكن لم يكن ابي موسى مجرد صانع لاسرجة الاحصنة، انما كان ترسًا صغيرًا في ماكينة ضخمة، تدور في صمتٍ شديد، سيستمر 30 عامًا، قبل ان تدوِّي في صفحة الواقع والتاريخ. هذه الماكينة كانت دعوة الرضا من ال البيت (الدعوة العباسية). والتي قررت ان تتخذ من اقليم خراسان البعيد عن دمشق، والذي يموج بالحقد على الامويين، مهدًا للثورة والانتقام.
ائمة الدعوة العباسية
ادت الفواجع المتتالية التي اصابت ال بيت الرسول في الصدامات المفتوحة مع الامويين، الى استبدالِ بعضهم المواجهةَ المرة، بالنزوعِ الى التقيَّة والكتمان، واعتبارها فرضًا دينيًا على اتباعهم الذين بدؤوا يحشدونهم في صمتٍ لدعوتهم الى «الرضا من ال البيت»، والتي تدعو الى ان يحكم المسلمين امامٌ يُرتضى من ال بيت الرسول، الذين يتشرفون بالقرب منه دمًا وعلمًا، فيقيم الدين والعدل، ويقمع ائمة الجور.
كانت الدعوة تتمُّ باسم امامٍ مستور، لا يُصرّح باسمه الا لاقرب الدوائر فقط، حتى لا تنكشف هويته الى الوشاة، في اواخر القرن الاول الهجري، كان ذلك الامام هو ابو هاشم
بن محمد بن علي بن ابي طالب (ابوه هو المشهور بمحمد بن الحنفية). مرض الرجل مرضًا شديدًا عام 98هـ، ولم يكن له عقِب، فخاف من اندثار الدعوة بموته، فاوصى من بعده بابن عمه محمد بن علي بن عبد الله بن العباس (العباس هو عم الرسول). وبذلك خرجت دعوة الهاشميين من نسل علي بن ابي طالب، الى نسل العباس.
استمرت الدعوة والبيعة بشكلٍ فرديّ من رجل لاخر، وتفهّمَ اكثر الاتباع حجب هوية الامام، لما يرون من بطش الولاة بالمعارضين. كذلك بلغ بالقائمين على الدعوة الحرص والحذر، رفضهم الانضمام لاية ثورة ضد الامويين حتى ثورات الهاشميين كزيد بن علي بن الحسين، وذلك لعدم استنزاف قواهم قبل المعركة المنتظرة.
ومن عجائب تدبيرهم، ان الامام محمد بن علي العباسي كان يقيم في قرية «الحميمة» بالشام معقل الامويين، ومنها يبعث الرسل في سريّةٍ تامة الى دعاته في الشرق خاصة خراسان، والكوفة بالعراق. بل كان يزور هو واولاده احيانًا الخليفة الاموي في دمشق، ويتقبّلون عطاياه لهم لكونهم من قريش. ولما تولى ابنه ابراهيم الامامة بعد وفاته، ظلَّ مقيمًا في نفس القرية، حتى عام 131هـ ، عندما تم كشف امره، وقتله مروان بن محمد الاموي، بينما كانت دعوته قد ظهرت في خراسان، واستولت عليها.
الجوهرة تتلالا
لم يُرَ ضاحكًا، ولا مازحًا الا في وقته.. تاتيه الفتوحات العظام ، فلا يظهر عليه اثر السرور، وتنزل به الفادحة الشديدة، فلا يُرى مكتئبًا. *شمس الدين بن خلكان متحدثًا عن ابي مسلم الخراساني.
لا شيء يفجّر براكين الطموح المشوب بالحقد كان يوضع من هو في مثل الشاب عبد الرحمن بن مسلم في مقامٍ اقلّ كثيرًا من امكاناته وطموحاته. لم يطُل انتظاره طويلًا، فبينما كان يخدم سيده ابي موسى في اجتماعٍ سريّ مع كبار الدعاة العباسيين، ترامى الى سمعه حديثهم عن الدعوة والثورة ضد الامويين، فاجهش بالبكاء!، فسمعوه، وكان فيهم سليمان بن كثير كبير الدعاة.
تاثر القوم بما احسُّوه من صدق الشاب الباكي، فدعوه للانضمام وللبيعة. ولما اشاد سيدَه بذكائه وفطنته وامانته، رشَّحَه القوم لاهم مهمة في حياته، وهي ان يكون خادم الامام ابراهيم بن محمد بن علي. لم يمر وقتُ طويل، حتى اصبح الشاب موضع ثقة «الامام»، والذي غير اسمه الى ابي مسلم، ومنحه لقب «الخراساني». بدا الامام يكلفه بالمراسلات الخطيرة، بينه وبين الدعاة في خراسان، واعتبره – بطموحه واخلاصه واطلاعه وعلمه – جوهرةً مكنونة شاءت الاقدار ان تلتمع بين يديه.
ثم صدم الامام كبار الدعاة عندما اوكل الى خادمه ابي مسلم العودة الى خراسان لقيادة الدعوة، رغم معارضة شديدة خصوصًا من اخي الامام عبد الله بن محمد – والذي سيعرفه التاريخ فيما بعد بلقب الخليفة ابي جعفر المنصور -، ان يتصدّر غلام فارسي على كبار الدعاة ومنهم القرشيون واواسط العرب.
بالفعل امتعض بعض كبار الدعاة، خاصة سليمان بن كثير، من ترؤس هذا الشاب لهم، لكن سانده بعضهم خصوصًا ابو سلمة الخلال، وكان فارسيًا، فاصبح اقرب الناس الى ابي مسلم، والذي بجهوده، وقوة شكيمته، والكاريزما الطاغية التي كان يمتلكها، حظيت الدعوة بانتشارات وانجازات تنظيمية لم تحققها في 30 عامًا سبقت وصوله الى قيادتها.
عام 129هـ، ارسل الامام ابراهيم لابي مسلم يامره باظهار الدعوة مع الاستمرار في ستر هوية الامام، وتحرير خراسان من حكم الامويين. استغل ابو مسلم انشغال الوالي (نصر بن سيار) في بعض الحروب والنزاعات الداخلية التي انهكت جيوش الامويين، وبدا يستولي على منطقة تلو اخرى، حتى انحسرت سيطرة الامويين الى مرو عاصمة الاقليم.
لم يلبث نصر بن سيار ان فرَّ تاركًا مرو، فاكتلمت سيطرة العباسيين عليها، وبذلك خرج اول اقليم كبير من حكم دمشق، وجاء الدور على العراق، المعقل الدائم للحقد ضد الامويين. اتخذت الدعوة العباسية من السواد شعارًا لها حتى لقبوا بالمُسوِّدة، وهذا الاختيار لسببيْن. الاول هو التلاعب على وتر العاطفة الدينية، انطلاقًا من بعض الاثار المنقولة عن الرسول بخصوص «راياتٍ سود ستنحدر من الشرق في اخر الزمان». اما الثاني، فلان البياض كان شعار الامويين.
رحى ابي مسلم تطحن الجميع
اجعل سوطَكَ السيف، وسجنكَ القبر. نصيحة احد مساعدي ابي مسلم الخراساني له عندمااستشاره في عقاب بعض الاسرى
في حملة يمكن تسميتها بـ«الرعب الاسود» – قياسًا على اسم حملة الرعب الاحمر الشهيرة التي شنّها البلاشفة بعد الثورة الروسية – وباسم الحفاظ على «الثورة»، وتطهير الصفّ من عملاء الامويين، نصب ابو مسلم المشانق للالاف من مؤيدي الامويين، او من شكَّ في كونهم مؤيدين للامويين، او حتى من داخل صف الدعوة الذين يُظن انهم غير مخلصين لها. كذلك انشا ما يمكن اعتباره «جهازًا لامن الدعوة»، يبث عيونه في كل مكان، وياتيه بالمعلومات عن كل صغيرة وكبيرة في ارجاء خراسان وجوارها.
اخذت الاخبار تتوالى على «الحميمة» بالانتصارات المدوية في خراسان، فيفتخر الامام بفراسته في خادمه العبقري، بينما يزداد حقد الخصوم خاصة ابي جعفر، الذي تتواصل محاولاته دون جدوى للايقاع بين الامام وابي مسلم، من منطلَقيْن،
تضخُّم ذات ابي مسلم مع كل انجاز، مما قد يغذي اطماعه الشخصية، وكذلك مبالغته في سفك الدماء باسم الدعوة، والتي طالتْ حتى بعض الدعاة العباسيين الكبار كلاهز بن قريظ، والذي قتله ابو مسلم بتهمة خيانة الدعوة، لانه نصح نصر بن سيار بشكلٍ خفيّ اثناء المفاوضات قبل الاستيلاء على مرو، بعدم التسليم لابي مسلم لانه ينوي قتله، عندما عرّض له باية سورة القصص «ان الملا ياتمرونَ بك ليقتلوكَ، فاخرجْ اني لكَ من الناصحين».
مقطع تمثيلي لابي مسلم الخراساني يقتل لاهز بن قريظ – من مسلسل صقر قريش
كذلك حدثت واقعة بارزة، اسهمت بشكل كبير في تاجيج ما بين ابي جعفر وابي مسلم. اذ اعدمَ ابو مسلم الخراساني، سليمانَ بن كثير الداعية الكبير، بتهمة خيانة الدعوة بمحاولة الاتصال ببعض احفاد علي بن ابي طالب ليصرف الدعوة لهم بدلًا من الامام العباسي. استشاط ابو جعفر غضبًا لانه كان في ذلك الحين في خراسان مبعوثًا من الامام لتفقد الامور، ولم يستشِرْهُ ابو مسلم قبل تنفيذ هذا الحكم الخطير. لكن ظلّ الامام ابراهيم على ثقته التي لا تتزعزع في «غلامه» العبقري.
توالتِ الانتصارات، واستولت الجيوش العباسية التي ارسلها ابو مسلم بقيادة قحطبة بن شبيب على اقليم همذان، ومدينة نهاوند، وغيرهما من اراضي ايران الحالية، ثم دخلت العراق، وانتصرت على الجيوش الاموية غير مرة، حتى دخل الحسن بن قحطبة ظافرًا الى الكوفة بعد مقتل ابيه في بعض المعارك. وتولى ابو سلمة الخلال (صديق ابي مسلم الحميم) ولاية العراق للعباسيين.
في تلك الاثناء كان الامام ابراهيم قد قُتل في سجن الامويين بعد انكشاف امره كما ذكرنا، وكان قد اوصى بان يخلفه اخوه عبد الله ابو العباس (والذي لقِّب بالسفاح فيما بعد). فرَّ ابو العباس ومن بقي من العباسيين بالشام قبل ان يعتقلهم الامويون، ودخلوا الكوفة بالعراق سرًّا. لم يقتنع ابو سلمة الخلال برواية الوصية من الامام ابراهيم لابي العباس، وحاول التواصل مع بعض العلويين لينقل لهم الدعوة والبيعة، لكن فشل مخططه، وخرج ابو العباس واعلن عن نفسه بوصفه امامًا للدعوة والدولة التي بدات تتشكل. وجزاءً لابي سلمة على ما فعل، اوكِلت الى صديقه ابي مسلم مهمة التخلص من صاحبه «الخائن»، فدبّر قتله غيلة، وقد افلح التدبير.
«نحو جزاء سنمار»
اما بعد.. فاني اتخذتُ رجلًا امامًا ودليلًا على ما افترض الله على خلقه، وكان في محلّة العلم نازلًا، وفي قرابته من رسول الله ? قريبًا، فاستجهلني بالقران، فحرَّفه عن مواضعه، وكان كالذي دلّنى بغرور، فامرني ان اجرد السيف، وارفع المرحمة، ولا اقبل المعذرة، ولا اقيل العثرة، ففعلت.. توطيدًا لسلطانكم، حتى عرّفكم الله من كان يجهلكم، واطاعكم من كان عدوكم، واظهركم الله بي بعد الاخفاء والحقارة والذل، ثم استنقذني الله بالتوبة. *من مراسلات ابي مسلم الخراساني الى ابي جعفر المنصور بعد تفاقم الخلاف بينهما، مدافعًا فيها عن اسرافه في البطش بانه ما كان الا من امر الامام وتدبيره
بقيادة عبد الله بن علي عم الخليفة «السفاح»، استولى العباسيون على الشام بعد ان هزموا جيوش مروان في موقعة الزاب 132هـ، ثم طاردوا مروان هاربًا حتى قتلوه بمصر. تتبع عبد الله فلول الامويين، وقتل منهم المئات دون شفقة حتى ممن لم يشتركوا في قتال، واصبح هو وابو مسلم الخراساني اقوى رجال الدولة، وتضخَّم نفوذهما بشكل كبير، عزَّزه كون الخليفة ابي العباس مريضًا، واعتماده الكامل عليهما.
في عام 136هـ طلب ابو مسلم من الخليفة ان يسمح له بالحج، وكان ابو جعفر هو امير الموسم. اخذ ابو مسلم يُسرفُ في توزيع العطايا، واكتساب الناس اثناء موسم الحج، حتى غطَّى ذكره على ذكر اخي الخليفة، فغضب ابو جعفر بشدَّة من نديَّة ابي مسلم، ومن تضخُّم ذاته. ولم تكد مواكب الحج تنهي رحلة العودة، حتى جاءت الاخبار بوفاة الخليفة المريض، ووصيته بالبيعة لاخيه ابي جعفر خليفةً من بعده.
غضب الرجلان القويان من تولية ابي جعفر، وكلٌّ بطريقته. ارسل ابو مسلم لابي جعفر يعزّيه دون السلام عليه بالخلافة او بيعته. بينما اعلن عمه عبد الله بن علي التمرُّد العسكري عليه، وبدا ياخذ البيعة لنفسه من جيوشه. دبَّر ابو جعفر قلب المشهد لصالحه، فاخذ يسترضي ابا مسلم، ويعترف بفضله، واوكل له حرب عمِّه المتمرد، وبذلك يستنزف كلّ منهما بالاخر، وكالعادة انتصر ابو مسلم انتصارًا ساحقًا.
هكذا اصبح طرفا «المباراة النهائية» الفاصلة على الحكم الفعلي للدولة العباسية هما ابو جعفر المنصور، وابو مسلم الخراساني. يمتلك ابو جعفر الفرصة الاقوى بشرعية بيعته خليفة، وبكون ابي مسلم فارسيًا، والناس انذاك لا تطيع خليفة غير عربيٍّ قرشيّ.
بدا ابو جعفر الهجوم بالالتفاف، فحاول اقناع ابي مسلم بولاية الشام ومصر بدلًا من خراسان، حيث معقل نفوذه الاهم. لكن فطن ابو مسلم لغرضه ورفض، وعزم على العودة الى خراسان ليتحصن بها ويدبر الامور، خاصة وان عداوة ابي جعفر له
لم تعد خافية على احد.
راى ابو جعفر ان ابا مسلم ان وصل خراسان، سيبدا الثورة ضده، وياتيه في العراق بكامل جنده الخراسانية لينتزع منه مكانه، فاعمل حيلته ودهاءه لمنعه من هذا. ارسل ابو جعفر لابي مسلم يستدعيه للقائه، فرفض ابو مسلم، فاخذ ابو جعفر يرسل له واحدًا تلو الاخر من الدعاة العباسيين الذين كان لهم دالَّة على ابي مسلم ليقنعوه بمقابلته.
المشهد الاخير
ابو مسلم : استبقني يا امير المؤمنين لاعدائك..
ابو جعفر: وايُّ عدوٍ لي اعدى منك؟!
جزء من حوار اللحظات الاخيرة بين ابي مسلم الخراساني وابي جعفر المنصور
جاءت الضربة الاقوى لابي مسلم، عندما بعث له من استخلفه على خراسان ليحذره من مغبَّة عصيان الخليفة صاحب الدعوة، وينذره بانه سيمنعه من دخول خراسان، ما لم يقابل الخليفة ابي جعفر المنصور اولًا – كان المنصور قد استقطب هذا الوالي، ووعده بولاية خراسان مكان ابي مسلم! -. وهكذا حُشر ابو مسلم في الزاوية، واوشكت رحى الثورة العباسية ان تطحن اكبر طحَّانيها.
مقطع تمثيلي لمقتل ابي مسلم الخراساني من مسلسل صقر قريش
ذهب ابو مسلم لمقابلة ابي جعفر بالمدائن، فلم يسمح له حرس الخليفة الا بالدخول وحيدًا على ابي جعفر، دون حرسه، ودون حتى سيفه. اخذ ابو جعفر يقرِّع ابا مسلم، ويذكره بفضل الدعوة العباسية عليه في نقله من خادم الى صاحب دولة، واخذ ابو مسلم يذكر ابا جعفر بانجازاته الفريدة في خدمة الدعوة، تصاعد الجدال بين الرجلين، وفي لحظة معينة صفَّق ابو جعفر كما اتفق مع بعض خواص حرسه، فهجم الحرس على ابي مسلم وقتلوه. وبهذا طويت صفحة ابي مسلم الخراساني الذي ازال دولة، واقام اخرى، لتزيل اسمه من صفحة الدنيا، لكن بعد ان حُفر في صفحة التاريخ.ابو مسلم الخراساني.. الخادم الفارسي الذي اقام دولةً فقتلتْه!