اخبار اليوم الصحيفة, حين سقطت دمشق اخبار اليوم الصحيفة, حين سقطت دمشق
“ما اشبه اليوم بالبارحة”، تلك عبارة يرددها من يقرا التاريخ، لكن من يقرا تاريخ امة العرب والمسلمين خاصة يعلم مدى صدق العبارة، فالمدن التي سقطت اليوم وستسقط غدا تحت جيوش الطغاة والجبابرة والملوك، قد سقطت بالامس تحت ارجل فرسان سلّطهم القدر على مدن ظلت ابراجها منتصبة لالف عام فلم تمنعها من السقوط والانهيار عندما تفشى الظلم والاستبداد وانعدم العدل وفشا التقاتل والتفرق بين الممالك والطوائف.
فيقف التاريخ كثيرا مع حادثة سقوط بغداد على يد المغول في القرن السابع الهجري، وهي الفاجعة التي كان لها اثرها المباشر على الحضارة الاسلامية، وايضا على التغيير الثقافي الذي حدث حين ذاك، بل والتغير الديمغرافي بظهور الهجرات الاسيوية من الداخل الى منطقة الشرق الاوسط. لكننا لا نكاد نقف مع حادثة تشبه في فجاعتها ما حدث مع بغداد العباسية.
تلك الحادثة كانت سقوط دمشق على يد تيمورلنك ذلك القائد العسكري المغولي الذي استطاع ان يعيد لملمة دولة المغول، وينطلق من سمرقند الى الهند وايران ووسط اسيا وجنوب الاناضول والعراق حتى اصطدم بقوة مصر العسكرية في زمن السلطان المملوكي الظاهر برقوق المؤسس الاول لدولة المماليك الجراكسة في مصر والشام.
القائد العسكري المغولي تيمورلنك
(مواقع التواصل)
لكن ارتقاء شاب صغير السن لم يكن له اي تجربة او خبرة سياسية وعسكرية لسدة الحكم بعد وفاة السلطان برقوق سنة 801هـ غيّر من المعادلة تغييرا جذريا، هذا الشاب الاهوج كان السلطان فرج بن برقوق الذي قسّم السياسة المملوكية على نفسها، وادخلها في حروب اهلية اعادت الامل لنفس تيمورلنك لغزو الشام والاناضول الجنوبي بعدما كاد يفقده بسبب قوة وذكاء السلطان برقوق.
فما طبيعة شخصية تيمورلنك، وكيف كانت نشاته واطماعه في المنطقة العربية، وكيف تمكنت سياسة السلطان المملوكي الظاهر برقوق من صدّ تقدمه مدة حياته؟
من هو تيمورلنك؟
كان تيمورلنك (736 – 807هـ/1336- 1405م) من سلالة احد وزراء المغول، وكان مولده باحدى قرى سمرقند في وسط اسيا، يعود نسبه الى احد القبائل المغولية القديمة التي كانت تدين بالطاعة لجنكيزخان واولاده، لُقّب تيمور بالاعرج وتعني “لنك”، لعرج وشلل كان في قدمه، ورغم تلك الاعاقة تميز منذ نشاته الاولى بالشجاعة والجراة وحب المغامرة، ويروي تيمور عن نفسه قائلا: “منذ كنت في الثانية عشرة من عمري سافرت عبر البلدان وقاتلت المصاعب وعملت المغامرات وقهرت الاعداء، وواجهت اعمال العصيان، وصرت معتادا على لغة عدم الطاعة، وتصديت لهم بالتغافل والتحمل، وخاطرت بنفسي في ساعة المخاطر الى ان تمكنت اخيرا من قهر الولايات والممالك، واسست المجد لاسمي”
التحق تيمور بخدمة حاكم سمرقند وهو احد خانات المغول، وتدرج في المراتب السياسية والعسكرية حتى تمكن من اخضاع سمرقند لنفوذه وحكمه، وبدا في التوسع لدولته الجديدة فضم خوارزم وهراة وسستان سنة 785هـ، وكذلك شمالي فارس بعدها بسنة، ثم اذربيجان وجورجيا بين عامي 788 و790هـ، وبلاد مغول القفجاق المعروفة ببلاد الدشت الواقعة على جانبي حوض نهر الفولجا جنوب روسيا اليوم، بل قاد تيمور حملة عسكرية على روسيا ذاتها سنة 797هـ، ثم تحرّك نحو العراق واطراف الدولة المملوكية في الشام وجنوب والاناضول
كان تيمور ذا شخصية قوية اخاذة، ظهرت عليه علامات الزعامة والسلطنة منذ صغره، حيث كان شديد الايمان بنفسه وقوته، ويقارنه المؤرخ النمساوي فامبري من حيث طموحه الذي لم يكن له حدود، وعبقريته الحربية، وقوة ارادته بقيصر، والاسكندر المقدوني، وجنكيزخان، ويضيف قائلا: “لولا ما كان له من عبقرية عسكرية لا تنكر الى جانب مواهبه الشخصية العالية ما بلغ درجة غزاة العالم، ويذكر من اقوال تيمور في الشخصية: ان الحاكم الذي يهاب الناس سوطه اكثر من شخصيته غير جدير بمنصبه. ويؤكد هذا بعض المؤرخين المسلمين مثل شمس الدين السخاوي الذي قال: ان تيمور كانت هيبته لا تُدانى حيث كان يسلك الجد مع القريب والبعيد ولا يحب المزاح واللهو والكذب، وكان نقش خاتمه: راستي روستي؛ اي الصدق منجاة.
ويؤكد هذا ابن عربشاه المؤرخ الدمشقي الذي اخذه تيمور اسيرا، وارّخ له في كتابه المهم “عجائب المقدور في نوائب تيمور” حيث عدّد صفاته ومميزاته رغم جبروته وقسوته ودمويته يقول: “وكان تيمور مغرما باقراء التواريخ واستماعها”، وفي موضع اخر: “كان تيمور لا يعجبه العجب، ولا يستهويه اللهو والطرب”، وبعد حديثه عن اتساع امبراطوريته في اسيا من الصين الى العراق يقول: “ثم انه مع اتساع مملكته وانتشار هيبته وصولته وشيوع اراجيفه في الاقطار، وبلوغ تخاويفه تجاويف الاقاليم والامصار، وثقل اثقاله، وعدم اختفاء توجهه الى جهة وانتقاله، كان يجري في جسد العالم، مجرى الشيطان من ابن ادم، ويدب في البلاد، دبيب السم في الاجساد”[4] دلالة على نشاطه وسرعة انتقاله في هذه الامبراطورية الفسيحة الارجاء.
وبهذه الصفات التي حكاها التاريخ يمكن ان نفهم شخصية تيمورلنك، تلك الشخصية التي سعت الى بناء مجدها الشخصي على جماجم القادة المخالفين وعموم الناس على السواء، وهو في سعيه لتحقيق حلمه بتكوين امبراطورية مترامية الاطراف اتسم بالجد والقوة والمهابة والذكاء، وكان له الحد المناسب من الثقافة التي تؤهله للتعرف على تجارب السابقين عليه من الحكام، لذا كان مغرما بقراءة التاريخ والاطلاع عليه، والتاريخ العامل الاهم والابرز في صناعة السياسي والعسكري الخبير في كل زمان.
التوحّد لمواجهة الخطر التيموري
جاءت اخبار تيمورلنك العسكرية وفتوحاته اول مرة الى مسامع السلطان الظاهر برقوق في القاهرة سنة 788هـ/1386م على يد سفير من امير ماردين جنوب الاناضول جاء فيها: “بان احد التتار الجغطاوية يُقال له تيمورلِنك قد استولى على البلاد، ووصلت اوائل جيوشه الى تبريز وخرّبتها”([5])، وارسل الخان احمد بن اويس الجلائري امير العراق رسالة الى القاهرة تتضمن التحذير ذاته من خطر تيمورلنك وضرورة التوحد لمواجهته([6]).
ومع ذلك امتد التوسّع التيموري شرقا، فوصل الى مدينة الرُّها (اورفة الان في جنوب تركيا) سنة 789هـ وخرّبها، واستطاع تيمورلنك هزيمة امير التركمان قره محمد امير اذربيجان، ثم تقدمت القوات التيمورية الى مدينة مَلَطْية (وسط تركيا اليوم) المدينة التي كانت تخضع للسلطنة المملوكية في القاهرة.
ثم ارسل تيمورلنك رسالة شديدة اللهجة الى امير سيواس وقيصرية في وسط الاناضول القاضي برهان الدين احمد امره فيها باعلان الخضوع للدولة التيمورية، وضرب السكة “العُملة” باسمه، فامر القاضي برهان الدين بضرب رقاب سفراء تيمورلنك، وارسل قسما منها الى السلطان العثماني بايزيد الاول في عاصمته بورصة، والى السلطان برقوق في عاصمته القاهرة يطلب منهما النجدة لمساعدته، وكان مما جاء في رسالته الاستغاثية: “اعلموا اني جاركما، ودياري دياركما، وانا ذرة من غباركما، وقطرة من بحاركما… اين لي مقاومته، وانّى يتيسـر لي مصادمته؟ وقد سمعتُم احواله، وعرفتم مشاهده وافعاله”([7]).
🗡
حاصر تيمورلنك التتري مدينة سيواس عام 1400م فاستسلم المدافعون عنها ( 3000 مقاتل ) بشرط الا تُراق دمائهم ، فكان تيمورلنك وفياً بوعده فدفنهم احياء ..!
👺
*العبرة الطغاة على مر العصور ليس لديهم لا امان ولا ذمة* pic.twitter.com/iu8szAd4Mu
— manchester (@WE_MANCHESTER) ? ابريل، ????
وافق بايزيد على امداد امير سيواس وقيصارية بمساعدة عسكرية عاجلة، وكذلك فعل برقوق؛ لان الخطر التيموري الذي دخل الى اعماق الاناضول كان يهدد الدولتين العثمانية والمملوكية على السواء، فخرجت حملة عسكرية مملوكية “تجريدة” من القاهرة سنة 789هـ/1387م وتوجّهت الى حلب، فدُعّمت بفرقة تركمانية من امارة الشاة السوداء شمال العراق التي كانت موالية للمماليك حينذاك ومنها شرقا الى ديار بكر، ولقيت الحملة المملوكية في طريقها بعض فرق الجيش التيموري التي كانت تتجول في تلك المناطق، واستطاعت هذه الحملة ان تنزل الهزيمة بهؤلاء المغول، بل استطاعت اسر واحد من اهم قادة تيمورلنك وهو القائد العسكري اطلاميش، فجاءت به الى القاهرة سنة 790هـ/1388م في اغلاله، الامر الذي جعل السلطان برقوق يحتفل بهذا النصر العسكري المهم ([8]).
الحلف العسكري المشترك
امام ذلك الخطري العسكري التيموري، انشا السلطان برقوق حلفا عسكريا اسلاميا موحدا بقيادة السلطنة المملوكية مع كل من العثمانيين في وسط وغرب الاناضول والتركمان في جنوب وشرق الاناضول ومغول القفجاق جنوب روسيا، والواقع ان برقوق كان في غاية السـرور من هذه الجبهة الاسلامية القوية، لكنه في قرارة نفسه كان اكثر خشية من نمو قوة العثمانيين عن الخطر التيموري، ولكي يوضّح عطفه على اعداء تيمور، رحّب برقوق بالتجاء الخان احمد بن اويس الجلائري صاحب بغداد في القاهرة، واكرمه، وتزوج من ابنة اخيه([9]).
كان سقوط بغداد في يد تيمورلنك سنة 795هـ كارثة مزعجة للسلطان برقوق في القاهرة؛ لان تيمور بسيطرته على العراق، ووجود قواعد عسكرية ثابتة لقواته في كل من ديار بكر وماردين في جنوب الاناضول وجنوب شرق الاناضول وغيرها تصبح معه الدولة المملوكية في خطر مباشر امام تيمورلنك، وانها بهذه القواعد تصبح الهدف التالي مباشرة، وكان ظن السلطان برقوق في محله، حيث ارسل تيمورلنك رسالة قوية الى برقوق يطالبه فيها بالخضوع واعلان تبعية مصر والشام، وكان مما جاء في تلك الرسالة: “فالويل كلّ الويل لمن لم يمتثل امورنا فانا خرّبنا البلاد، واهلكنا العباد، واظهرنا في الارض الفساد، قلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال، خيولُنا سوابق، ورماحنا خوارق، ومُلكنا لا يُرام، وجارنا لا يُضام، فان انتم قبلتم شرطنا، واصلحتم امرنا، كان لكم ما لنا، وعليكم ما علينا، وان انتم خالفتم وابيتم، وعلى بغيكم تماديتم، فلا تلومُن الا انفسكم”([10]).
لم يستسلم برقوق لهذه الحرب النفسية، وارسل رسالة تبدو منها المنطقية والعقلانية، ويتضح فيها ثبات موقف برقوق العسكري، بل وتستهزئ بمنطق تيمورلنك، جاء فيها: “ومن العجب العجاب تهديد الليوث باللتوت، والسباع بالضباع، والكماة بالكراع، نحن خيولنا بحرية، وهممنا علية، والقناة شديدة المضارب، ذكرها في المشارق والمغارب، ان قتلناكم نعم البضاعة، وان قتلتمونا بيننا وبين الجنة ساعة”([11]).
ولم يكتف السلطان برقوق بهذه الرسالة، حيث خرج بنفسه في العام التالي سنة 798هـ/1396م على راس حملة عسكرية لاعادة السلطان احمد بن اويس الجلائري اميرا على بغداد، ومحاربة تيمور، وظل برقوق في حلب بضعة اشهر، ولما عاد تيمور الى بلاده، عاد برقوق بدوره الى القاهرة، فتاجل الصدام العسكري المرتقب بين المماليك وتيمور، وفي تلك الاثناء توفي برقوق سنة 801هـ، الامر الذي ادخل السعادة والسرور على تيمورلنك كثيرا، وكان منشغلا انذاك باخضاع الهند، وهذا ما يكشفه ابن عربشاه (ت854هـ) بقوله: “وفد عليه المبشّر من جانب الشام، ان القاضي برهان الدين احمد السيواسي (امير قيصارية وسيواس) والملك الظاهر ابا سعيد برقوق انتقلا الى دار السلام، فسُرَّ بذلك وانشرح، وكاد ان يطير الى جهة الشام من الفرح، فنجز بسـرعة امور الهند، ونقل الى مملكته من فيها من العساكر والجند”([12]).
اما حالة السلطنة المملوكية في مصر والشام بعد وفاة السلطان برقوق الذي كان حائط الصد المنيع عسكريا وسياسيا امام تيمورلنك في المنطقة العربية، وصعود نجله عديم الخبرة السلطان فرج الى سدة الحكم، الذي اسهمت سياسته الطائشة على المستويين الداخلي والاقليمي في فتح المجال امام الغزو الخارجي التيموري في بلاد الشام، فهي ما فجرت الماساة التي حدثت في دمشق منذ سبعة قرون خلت!حين سقطت دمشق على يد تيمورلنك