اخبار اليوم الصحيفة, «شمس الله تسطع اخبار اليوم الصحيفة, «شمس الله تسطع
رفضوا المقابل المالي، وفهموا العلوم المعقدة وفسروها للعالم بالمجان، ولم تنقصهم الجراة والجَلَد ليصدّروا للعالم افكارًا ثورية تصحّح النظريات السابقة المُرسخة، وقلوبهم كانت عامرة بالايمان كما ذُكر عنهم؛ فمعظمهم حفظ القران وتعلّمه، وكل واحد منهم حرص على تدوين انجازاته ونقلها للعالم كله؛ ولازال كل البشر من جميع الاديان والاجناس ينتفعون بهذا العلم حتى الان، وبفضل انجازتهم التي ابهرت البشريّة، فقد صنعوا العصر الذهبي للاسلام.
انهم الاطباء المسلمون، فكيف طوّروا الطبّ ثم منحوه للعالم بالمجان؟
بلا شك.. رئيس الجراحين!
سيوف المعركة تصم الاذان، ورمال الصحراء القاسية تتناثر على الوجوه وتخترق الاعين، والكل يهرع راكضًا مبتعدًا بخوف عن صهيل الاحصنة الجريحة، وصرخات الجنود اثر الحرب الدامية، وبين الصفوف الساعية للهروب؛ يخترق الشاب بجسده النحيل وهو يلملم عباءته الطويلة؛ محاولًا الوصول لاقرب نقطة امنة من ساحة المعركة، وقبل ان تدهسه الاقدام الهاربة، يلمح بطرف عينه جنودًا يحملون زميل الحرب والموت؛ وقد اخترق سهم فتّاك كتفه العاري الدامي، فيقرر صاحبنا ان يمدّ الخُطا اليهم حتى يُساعد، ولكن قلبه يقفز بين صدره عندما يشاهد احد الجنود يحاول اخراج السهم بيده، فنادى عليه صارخًا ان ينتظر، ثم ركض اليه وهو يحمل حقيبته القماشيّة وكانها ابنته الرضيعة.
وصل لاهثًا امام اعينهم المترقبة المندهشة، فابعدهم بيديه عن الجريح، وجلس بجواره وفتح حقيبته القماشية الممتلئة بالكثير من المعدات المعدنية الغريبة بالنسبة للجنود، فاختار الرجل اول اداة، وقام بتوسيع الجرح، ومن ثم التقط اداة اخرى وضعها بالجرح ليقيس مدى عمقه، وفي النهاية امسك باداة تبدو مخيفة اكثر من الجرح نفسه، ولكن الثقة على وجهه وفي حركات اصابعه جعلت الجنود يراقبونه في صمت، وبتلك الاداة الاشبه بالخطافة؛ اخرج السهم من كتف الرجل، ثم قام بتطهير الجرح، وامر زملاءه بالعناية بالجرح وكيّه.
«من هذا الرجل؟» سال احدهم، فاجاب «انا الزهراوي!».
امّا الحقيبة التي كان يحملها، فكانت تحتوي على اولى الادوات الجراحية التي عرفها العرب، ومن ثم صدّروها للعالم كله، ومازال اطباء العالم يستعملون نفس المعدات الجراحية، وبنفس طريقة الاستخدام مع فارق الطابع التكنولوجي الذي مد اختراعات الزهراوي بطرق تنفيذ اسرع واكثر فعالية، مثل المشارط والحقنة والمكاوي.
«Albucasis».. كما يسميه الغرب
الطبيب المسلم ابو القاسم خلف بن عباس الزهراوي، المعروف عالميًا باسم «Albucasis»، او الاب الروحي للجراحة في العالم. عاش الزهراوي في القرن العاشر الميلادي بالاندلس، واطلق عليه «ابو الجراحة»، وكان اول من استخدم امعاء الحيوانات خيوطًا للجراحة، وكان له الفضل في شرح كيفية اخراج الاجنّة المتوفية في رحم الام، وكان له الفضل ايضًا في تعريف العالم بمرض «الحمل المنتبذ»، وهي الحالة التي يكبر فيها الجنين خارج جدار الرحم.
ادوات الجراحة كما رسمها الزهراوي
مارس الطبيب المسلم تلك العمليات الجراحية بجانب عمليات اخرى حساسة، مثل معالجة قرنية العين بالجراحة، وفي الوقت الذي كان يمارس فيه الزهراوي درجة رفيعة ومتطورة من الجراحة؛ كان مصير المرضى في اوروبا في ذاك الوقت هو العزل او التعجيل بالموت.
بلا شك هو رئيس كل الجراحين
*الجراح الفرنسي بيترو ارغالاتا الذي عاش بالقرن الخامس عشر يصف الزهراوي
تميز الزهراوي في عالم الجراحة وترك ارثًا يمشي على خطاه اطباء العالم حتى الان، وكان له انجازات في فروع اخرى من الطب؛ فهو اول من اكتشف علاج بعض الامراض الجلدية مثل «الثؤلول» والمعروف بمرض «عين السمكة»، وادرك الزهراوي قدر العلم الذي وصل اليه، وكان شغوفًا باكتشاف المزيد والمزيد عن جسد الانسان وكيفية علاجه، وحمل عبء نقل تلك المعلومات للاجيال القادمة؛ ولذلك كتب كتاب «التصريف لمن عجز عن التاليف» المكوّن من 1500 صفحة، وقضى ما يقرب من 50 عامًا في تاليفه، وتحوّل هذا الكتاب فيما بعد الى واحد من اهم المراجع الطبية في العالم، وتُرجم الى لغات كثيرة منها اللاتينية على يد المترجم الايطالي جيراردو الكريموني بالقرن الثاني عشر الميلادي.
ولان الزهراوي كان همه الاول نقل العلم وتوثيقه، سواء كانت تلك الاكتشافات تخصه او تخص غيره؛ فهذا الكتاب جمع كمًا هائلًا من المعلومات الطبية للعديد من الاطباء السابقين في مجاله، وتضمن الكتاب ثلاثة ابواب، وكل باب منها احتوى على 20 فصلًا، ويعرض الكتاب الجراحة بالكي والادوات الجراحية المتعددة والتي وصلت الى 200 اداة من ابتكار الزهراوي، وتضمن الكتاب ايضًا طرق تجبير العظام و«رد الكتف». اي كيفية ارجاع الكتف والمفاصل الاخرى المتنوعة لوضعيتها الاصلية في حالة زحزحتها من مكانها الاصلي اثر الحوادث والاصطدامات.
واذا كنت تقرا هذا التقرير ويزين فكك احد الاسنان الفضية او الذهبية، فاشكر الزهراوي؛ لانه اول من وصف وشرح كيفية معالجة تشوهات الفك السفلي والعلوي، وطريقة تركيب المكملات الفضية والذهبية، واذا كانت المراة تظن ان الام ما قبل الطمث قد اكتشفها علماء الطب الغربي الحديث، فيجب ان تعيد النظر حينما تقرا ما قاله الزهراوي عن تلك المتلازمة حين قال: «قد تَعتَري بعضُ النِّساء قبل مَجيء الطَّمث اوجاعٌ في السرَّة وكسلٌ وثِقَل في البدن، ويقلُّ الوجع حتَّى ينطلق الطمثُ ويذهب الوَجع».
وقد عرف الزهراوي ايضًا خطورة مرض السرطان وصعوبة علاجه حينما وصفه قائلًا: «السَّرطان انَّما سُمِّيَ سرطانًا لشَبهه بالسرطان البحري، وهو على ضربين: مبتدئ من ذاته، او ناشئ عقب اورام حارَّة، وهو اذا تكامل فلا علاجَ له، ولا بُرءَ منه بدواء البتَّة، الاَّ بعمل اليد (الجراحة او الكي)، اذا كان في عضو يمكن استئصالُه فيه كله بالقطع».
هل جُن الرازي؟
ينظرون من خلف زجاج متاجرهم ليكتشفوا سبب الضجة، احد الرؤوس تمتد للتلصص على مصدر فضول المتجمهرين، وعين ثاقبة تراه وهو يجر عربة خشبية مُحملة بقطع لحوم كبيرة، ثم يقف في احد الاركان ليعلقها على شرفة احدهم، ويمسك العربة ويسير مسرعًا، ويعيد الكرة على احد الحوائط بالطرقات، ويركض بعربته الخشبية المحملة باللحوم الحمراء فاعلًا نفس الشيء في انحاء دمشق وبعدها جلس يستريح امام اعين اهل دمشق المندهشة.
«هل جُن الرازي؟» بالطبع لا! انه فقط يريد بناء مستشفى.
في اليوم التالي عاد الرازي يراقب اللحوم ويدوّن ملاحظاته، وفي النهاية اختار احدى البقاع، وتخيله معي يقولها بالطريقة المعتادة: «وجدتها!» وفي تلك الحالة؛ يقصد الرازي انه وجد افضل بقعة مناسبة لبناء مستشفى؛ لان تلك البقعة لم يتعفن بها اللحم الاحمر كما تعفن في باقي البقاع؛ وهذا لان المستشفى تحتاج لهواء نقي للعمل على شفاء المرضى.
«اعظم اطباء الانسانية على الاطلاق»
ولكن دعونا نعُد بالزمن لبدايات الرازي، او الطبيب المسلم فارسي الاصل؛ ابي بكر محمد بن يحيى بن زكريا الرازي القاريء النهم الذي لم تشبع روحه من المعرفة ولم يخلُ عقله من الشغف، وتوّجت موهبته العلمية بكرمه المتجسد في علاج المرضى بالمجان؛ ليكون رمزًا ليس في الطب فقط، بل في المعاملات الانسانية، وقد وصفته المستشرقة الالمانية زيغريد هونكه بكونه «اعظم اطباء الانسانية على الاطلاق» في كتابها «شمس الله تسطع على الغرب»، والذي تحدثت فيه عن انجازات المسلمين في العلوم والطب وفضلها على باقي دول العالم.
وتلك المكانة
استحقها الرازي عن جدارة؛ واذا كنت تظن انك كبرت في العمر وفات اوان الابداع في حياتك؛ فعليك ان تعلم ان الرازي حتى عامه الاربعين كان يدرس كل العلوم سويًا، ولم يقرر التخصص في الطب حتى هذا السن، وعندما تخصص فيه لم يكف عن السعي وراء تطويره وترك بصمته الشخصية على الطب.
ومن هذا الدافع كتب الرازي 200 كتاب في الطب وغيرها من العلوم، تُرجمت جميعها الى العديد من اللغات، اهمها اللاتينية، ومن اشهر تلك الكتب «الحاوي في الطب»، والذي يحتوي على ملخصات علوم الطب السابقة من مؤلفات الاغريق، بالاضافة الى ملاحظاته الخاصة عن تلك الاكتشافات والعلوم، وتُرجم الكتاب للعربية واللاتينية، وطُبع للمرة الاولى في ايطاليا بالقرن الخامس عشر.
الرازي لم يكن طبيبًا فقط، بل كان فيلسوفًا محبًا للموسيقى وللحياة، وكان مُدركًا لاثر الروح على الجسد، ولذلك كان من اوائل الاطباء الذين اكتشفوا الامراض الجسدية الناتجة عن علل نفسية، واكد من خلال تاليفه لكتاب «الطب الروحاني» الذي يشرح طبيعة تاثير الامراض النفسية على الجسد؛ مكملًا لكتاب «المنصوري في الطب»، والذي كان يشرح فيه طبيعة العلل الجسدية؛ الامر الذي يسعى الاطباء في كل العالم الان الى شرحه لمرضاهم، عن قوة الترابط بين الحالة النفسية والجسدية؛ كان الرازي منذ القرن العاشر سابقًا لكل العصور.
التجارب المعملية.. بدات على يد رجل مسلم بجلباب يصطحب قردًا
الصورة الذهنية في عقلك عن الاطباء المُشرفين على التجارب المعملية على الحيوانات؛ بردائهم الابيض وملامحهم الاوروبية والمعامل التي تشبه السُفن الفضائية؛ تلك الصورة يجب ان تتغير لتدرك الحقيقة التاريخية للامر؛ فعليك ان تعدل تلك الصورة وتستبدل بالمعمل حديث الصناعة غرفة بسيطة صغيرة واثاثًا خشبي الصُنع ورجلًا بجلباب يشبه كل رجل مسلم تراه صباح يوم الجمعة ذاهبًا للصلاة، وهذا الرجل يقف بجوار قرد صغير يناوله الدواء في فمه داعيًا الله ان ينجح الامر حتى يكون عقارًا جديدًا من اجل مساعدة البشر، وما يجب ان تعرفه ان هذا الرجل هو الرازي، والتجارب المعملية على الحيوانات كانت تُجري في غرفته الصغيرة البسيطة بمنزله المتواضع في مدينة الري.
هل يعلم طفلك ما قدمه المسلمين للعالم؟ امنح طفلك متعة مشاهدة قصة حياة الرازي من هُنا
ومدينة الري كانت مسقط راس الرازي؛ ولذلك حينما درس وتعلم في بغداد؛ عاد مرة اخرى الى مدينته واهله، حيث ادار احدى المستشفيات او (البيرامستانات) كما كانت تسمى في ذاك الوقت، وكان يستقبل العديد من المرضى الفقراء ويعالجهم دون اي مقابل مادي، وكان يصر على عودتهم مرة اخرى للمتابعة الطبية حتى لا تتدهور حالتهم. والتف حوله الاطباء الشباب يلتهمون من علمه الذي لم يبخل به عليهم، وظل متنقلًا بعد ذلك بين بغداد ومدينته مشرفًا على كبرى البيرامستانات في البلدتين، حتى توفي في عام 935 وسط اهل بلدته في مدينة الري.
ابن سينا.. الطفل الحكيم
يلعب مع قطته الصغيرة كاي طفل لم يتجاوز عمره 10 سنوات، ولكن دون ان يلحظ؛ تسقط القطة من الشرفة، ولا تتحمل قدماها الصغيرتان صدمة السقوط، ويحملها ويهرع بها الى والدته مخبرًا اياها ان قطته قد كُسرت عظام قدمها اليسرى، وفجاة يتوقف عن الكلام ويعود ذهنه للخلف؛ لليوم الذي كُسر فيه ذراع صديق والده؛ حينما جاء الطبيب ووضع قطعة من الخشب لتجبير الكسر وعلاجه، وعلى الفور اخبر امه انه سيعيد الكرة على القطة ليعالجها. تنظر له امه بفخر وتدعو الله ان يستغل ابنها ذكاءه عندما يكبر في شيء مفيد ويجعل منه رجلًا ذا مكانه. واستجابة لتلك الامنية خرج للعالم الطبيب المسلم ابن سينا.
لُقب في صغره بين اهل بدلته بالـ«الطفل الحكيم»؛ لما احصاه من علوم ومعارف في هذا السن الصغير، ومع مرور الوقت تحول الطفل الحكيم الى المراهق النابغة حين نجح في علاج امير مدينة بخارى وقتما عجز كبار الاطباء عن علاجه، وكان يعاني الامير من اوجاع المعدة والقولون، وقد وصف له الطبيب الصغير نظامًا غذائيَا مصحوبًا بجرعات من عقاقير طبية، وتعافى الامير؛ وهو الامر الذي جعل كل الاطباء الكبار في ذاك الوقت والمثقفين يفتحون له ابواب مكتباتهم العامرة بعظيم العلم حتى يستثمروا في هذا العقل الذي جمع بين حفظ القران كاملًا والريادة في العلوم الطبية قبل ان يصل عمره 20 عامًا.
الطبيب المسلم ابو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا. جمع بين علمي الفلسفة والطب، ووازن بين نهمه لمعرفة الاثنين، ولذلك كان طبيبًا يستدل بالادلة الواقعية المرئية، ولكنه ايضًا لم يحجّم خياله، وتركه سارحًا في الملكوت محاولًا اكتشاف ما يوجد وراء هذا الجسد وهي الروح، او كما اسماها في مؤلفاته «النفس» حيث وصفها بكونها القوة الكامنة وراء جسد الانسان، وشرح ان لها انواعًا متعددة، كالنفس النباتية، وهي النفس التي تسعى دائمًا للنمو والعطاء، والنفس الحيوانية، وتلك المُخصصة لادراك الماديات من حول الانسان.
وقد اخذته افكاره الثورية للعديد من المناطق التي كانت تعتبر محرمة في ذاك الوقت مثلما رجح ان الاجسام لا تقوم مع الارواح يوم القيامة. تلك النظرية بجانب نظريات فلسفية اخرى تخص الالوهية؛ تعرض بسببها فيما بعد للتكفير والتهام بالالحاد كما فعل العالم الاسلامي ابو حامد الغزالي في كتابه «المنقذ من الضلال».
ولكن ان اختلف علماء المسلمين على نظريات ابن سينا الفلسفية؛ فمن الصعب على العالم كله نكران انجازاته الطبية والتي تفيد البشر حتى الان.
الاعشاب وقانون الطب.. بين ابن سينا وديتليف
يفصل بينهما ما يزيد عن الف عام، ولكنهما يعملان جنبًا الى جنب لخدمة البشر؛ يقف الاول بحديقته المليئة بالالوان المتعددة، ويفتح كتابًا يعود اصوله لزمن بعيد، ويشعر بالامتنان لترجمته هذا الكتاب للغات يستطيع قراءتها، ويحتوي الكتاب على مئات من الاعشاب التي تساعد في مداواة الانسان، دون الحاجة للعقاقير الكيميائية التي تفسد اكثر مما تعالج.
احدى صفحات القانون في الطب لابن سينا
في المشهد الاخر يفتح الطبيب ديتليف كوينترن كتاب «القانون» في الطب لابن سينا، والذي يشرح فيه كيفية علاج الامراض بالاعشاب، ويدرك – ديتليف – انه مازال امامه الكثير؛ فهو لم يزرع في حديقته التجريبية سوى 26 عُشبًا، بين مضادات التسمم، مثل حبة البركة، ومضادات الالتهاب، بينما ذكر الطبيب المسلم ابن سينا مئات الاعشاب في كتابه الذي قضى في كتابته ما يزيد عن ست سنوات، ولكنها على الاقل البداية، فقد اكد ديلتيف في لقاء معه ان بعض هذه الاعشاب قد ثبت فعاليتها بالفعل، واذا تم تطبيق تلك النظريات المذكورة في كتاب ابن سينا، فقد يمكن للبشر بعد سنوات من العمل والبحث ان يتخلوا عن العقاقير الكيميائية.
«الماء يحتوي على حيوانات دقيقة».. من اين اتى ابن سينا بالميكروسكوب؟
كتاب القانون في الطب يعتبر موسوعة طبية بها خُلاصة الفكر اليوناني في الطب مضفرة بخبرات ابن سينا وملاحظاته وانجازته الذاتية في الطب، وتُرجم للغة العربية واللغة اللاتينية، ثم انتشر في العالم كله بفضل حركات الترجمة المستمرة، وفي هذا الكتاب ايضًا شرح ابن سينا للمرة الاولى العديد من الامراض التي لازلت تهاجم البشر حتى يومنا هذا، مثل مرض انكلوستوما، والمعروف للعامة باسم الديدان المعوية، وكان له الفضل في شرح الفارق بين المغص المعوي والمغص الكلوي، وبين الشلل الناتج عن سبب داخلي والناتج عن سبب خارجي.
وفي القرن الثامن عشر احتاج الطبيب انطوني فان ليفينهوك المجهر حتى يفحص مكونات المياة جيدًا بحثًا عن المسببات لبعض الامراض مثل الجدري والحصبة، وحينما استخدمه انطوني وجد بالفعل كائنات صغيرة جدًا لا تُرى بالعين المجردة، واكتشف انها المتهمة بنقل عدوى تلك الامراض السابقة، وهذا يثبت صحة المعلومة التي ذكرها ابن سينا
في مؤلفاته قائلًا: «ان الماء يحتوي على حيوانات صغيرة جدًا لا تُرى بالعين المجردة، وهي التي تسبب بعض الامراض».
ابن النفيس: عذرًا هارفي.. عذرًا جالينوس!
تخيل معي الطبيب الانجليزي وليام هارفي، الذي توفي في منتصف القرن السابع عشر، وهو يقف ناظرًا من بوابة زمنية على العصر الحديث، وكل عام يمر امام اعينه يشعره بالفخر؛ فهو الرجل الذي اخبر العالم بطبيعة عمل الدورة الدموية في الجسد البشري، يشعر بالفخر سنة وراء الاخرى بانجازه الفريد وريادته لهذا الاكتشاف الطبي، ولكن هذا الفخر لم يستمر طويلًا؛ ففي عام 1957 وقع امر لم يكن يتوقعه هارفي.
هذا العنوان العريض في جريدة «صن داي تايمز» الانجليزية؛ والذي يصرح فيه الطبيب جي بي لاثام ان شرح هارفي لطبيعة عمل الدورة الدموية لم يكن الشرح الاول من نوعه، والاكثر ازعاجًا – لهارفي- ان الشرح كان خاطئًا؛ وهذا بعد ان عُثر على مخطوطة للطبيب المسلم الدمشقي ابن النفيس، والتي يشرح فيها كيفية عمل الدورة الدموية الصغرى في جسد الانسان، عذرًا هارفي لم تكن محقًا! ولم تكن رائدًا ايضًا! ربما عليك ان ترقد بسلام وتترك تلك النافذة الزمنية بروح رياضية لزميلك الطبيب المسلم ابن النفيس؛ ليراقب من خلالها بفخر ما قدمه للطب في العالم، خاصة وانه كشف عن تلك المعلومة الطبية وعمره 29 عامًا فقط.
تعلمنا كثيرًا عن القلب، وكيف نوقفه ونعيد
تشغيله، وكيف نعالجه ونزرعه محل قلب اخر؛ وكل هذا مبني على اكتشاف ابن النفيس لحقيقة
عمل الدورة الدموية للانسان *الطبيب المصري مجدي يعقوب في تصريح له عن ابن النفيس.
تعالوا سويًا في رحلة الى بداية حياة ابن النفيس، او ابي الحسن علاء الدين علي بن ابي الحزم الخالدي المخزومي، في مراهقته اصيب بمرض شديد جعله ملازمًا للفراش، وتوالي عليه الاطباء من كل صوب محاولين اكتشاف سبب مرضه، وكل طبيب منهم يصف له علاجًا كيميائيًا مُركبًا، ان عالج مرضًا؛ اصابه بمرض اخر كعرض جانبي، حتى مل ابن النفيس من الاطباء وامتنع عن وصفاتهم، وقرر ان يعالج نفسه بما يراه مناسبًا لجسده، وتناول ما يريده من طعام، وحصل على ما يكفيه من راحة؛ ليجد نفسه قد تحسن بالفعل؛ ومن تلك المحنة خرج الى العالم واحد من اهم الاطباء؛ حين قرر ابن النفيس انه ليس بالضرورة ان يكون كل الاطباء صالحين، وليس بالضرورة ايضًا ان يكونوا دقيقين في معلوماتهم.
مخطوطة ابن النفيس التي شرحت الدورة الدموية شرحًا سليمًا
ولذلك قرر ابن النفيس ان يكون طبيبًا، وقرر اثناء دراسته للطب ان يتحرى الدقة في معلومات الاطباء السابقين، سواء كانوا اطباء مسلمين، مثل ابن سينا، او اطباء يونانيين، مثل جالينوس، وبالفعل درس العديد من نظريات ابن سينا وجالينوس وصوّبها، مثل تصويبه لما يخص تغذية العضلة القلبية من الشرايين التاجية.
كان ابن النفيس مهووسًا بالعلم بالمعنى الحرفي، وكان لديه ارق دائم بضرورة وصول تلك العلوم للاجيال القادمة، ولذلك حين ظن ان هجوم التتار على مصر – التي درس فيها الطب وعاش بها – قد يهدد المخطوطات الطبية؛ اصيب بحالة من الفزع؛ وها هو – تخيله معي – يجلس في غرفته وبجواره ما يزيد عن 20 قلمًا من الرصاص، كل واحد منهم مبري جيدًا وبدقه، ويبدا ابن النفيس في الكتابة دون توقف، ومهمة الاقلام المستعدة للخط هي منحه المزيد من الوقت للكتابة حتى لا يتوقف لبري وتشذيب القلم، الى هذا الحد كان ابن النفيس مهتمًا بوصول علومه للاجيال القادمة.
ونتاج هذا العمل المحموم كان كتاب «الشامل في الصناعة الطبية» وكتاب «شرح تشريح قانون ابن سينا» والذي تضمن العديد من النظريات حول الدورة الدموية والشريان التاجي، وشرح فيه شرحًا مُفصلًا علم التشريح، وعلم الامراض، وعلم وظائف الاعضاء.
لا ينبغي ان يؤخذ الدواء
الا للضرورة، ولا يجب ان نخرج بالمريض عن المالوف من الطعام والشراب؛ فهذا افضل
المداواة *مقولة ابن النفيس التي افقدته عمله في احد محلات العطارة بالقاهرة
كانت مصر الوطن الثاني لابن النفيس؛ حيث تعلم وعاش بها ما يقرب من 40 عامًا، وشغل منصب رئيس البيمارستان المنصوري، ولذلك فحين استشعر الخطر يداهم تلك البلد التي منحته الكثير؛ وقف امام هذا الخطر وتصدى له، خاصًة وان هذا الخطر يعتبر اشد اعداء الاطباء في كل العالم، وهو الوباء، وبكل ما اوتي ابن النفيس من علم وجهد، تصدى هو ومساعده لمحاربة هذا الوباء بتشكيل فريق طبي يعمل على مدار الساعة؛ حتى سيطر على الوباء، وانقذ الكثير من المصريين؛ فاحبه هذا الشعب، واصبح من مشاهير الاطباء، وتردد على بيته كبار العلماء من شتى الفئات، واغدق عليه الاغنياء الهدايا والاموال شكرًا لمجهوداته، وهذا على الرغم من تقديمه للطب والعلاج بالمجان.
الجزار بدا بخطا.. فحوّله فائدة للعالم
ممارسة الطب قد يتخللها بعض الاخطاء، هذا مع التكنولوجيا الحديثة والتقدم التقني، اما فيما مضى كان الخطا هو مرحلة من مراحل التعلم، وهذا هو الدرس القاسي الذي تعرض له الرجل الذي وقف منذ قرون امام غرفة المنصور امير تونس؛ ينتظر عقابه والذي عادًة ما يكون بالقتل؛ وهذا لخطا طبي ارتكبه ادى الى وفاة المنصور، ولولا دفاع استاذه عنه لكان قُتل بالفعل في شبابه قبل ان يقدم علومه للبشرية.
هذا الخطا لم يتعامل معه الطبيب التونسي المسلم ابو جعفر احمد بن ابراهيم ابي خالد القيرواني، المعروف بابن الجزار القيرواني، على انه حافز لترك الطب، بل كان هذا الخطا هو الدافع الذي اهله لمكانة احد اهم الاطباء في العالم حتى الان؛ ولان السبب في وفاة المنصور ان الجزار لم يتبين التشخيص الصحيح للمرض؛ فحسم الجزار امره بان الطب يجب ان ينقسم الى تخصصات، ولا يجب على الطبيب ان يخلط بين اصابة عجوز بمرض، واصابة طفل بنفس المرض.
فطريقة العلاج يجب ان تكون مختلفة، ومن هُنا بدات التخصصات الطبية التي اتبعها العالم باكمله مثل طب الاطفال والذي كتب فيه الجزار «سياسة الصبيان وتدبيرهم» واختاره تخصصًا لعلمه في النهاية، وطب النساء والتوليد وغيرهما من التخصصات، واذا كنت طبيبًا وتشعر بالغضب انك مضطر لاختيار تخصص بعد دراستك للطب فترة طويلة، فربما عليك شكر الطبيب المسلم الجزار قبل ان تغضب منه؛ فوصوله لهذا الاكتشاف كاد ان يودي بحياته.
اختيار الدواء الخاطيء للمنصور ربما كان دافعًا للجزار لتطوير نفسه ومعلوماته عن علم الصيدلة ايضًا حتى ينجح في مداواة المرضى، ولذلك اسس محلًا للعطارة تباع فيه العقاقير الطبية، مثل الصيدليات الحالية، وقد ارتكز في علمه على كتب علماء اليونان، مثل جالنيوس، وكان مؤمنًا بان كل مريض يستطيع ان يجد علاجه من الارض التي يعيش فيها، معللًا نظريته بان «يتداوى كل عليل بادوية ارضه؛ لان الطبيعة تفزع الى اهلها»، وساعدته معرفته اللغوية بترجمة اسماء النباتات والمعارف الطبية المتخصصة في التداوي بالاعشاب.
ولازال كتابه «زاد المسافر وقوت الحاضر» من اهم المؤلفات الطبية التي تعتمد عليها جامعات الطب حتى الان، وتوجد اقدم مخطوطات مترجمة منه بالفاتيكان، وكان الهدف من كتابته ان يكون عونًا للمسافر وقتها للبلدان التي لا يوجد بها طب متطور، ولكنه فكر ايضًا ان الشخص المسافر او حتى المقيم في موطنه، اذا لم يكن معه المال الكافي لاستشارة الطبيب، او شراء العقاقير الموصوفة له، فمصيره سيكون المرض حتى الموت، ومن هُنا جاءت له فكرة كتاب «طب الفقراء»، والذي يقدم فيه افضل الحلول المجانية والمتاحة في الطبيعة من اجل التداوي من الامراض الشائعة، بجانب كتابه «الاعتماد» الذي يشرح الامور الطبية التي تخص الصيدلة والعقاقير الطبية وتُحفظ نسخة من مخطوطة هذا الكتاب بالمتحف البريطاني بوقتنا هذا.
البيطار.. مهووس بعلم النباتات
لم يكن احدهم يعرفه، هذا الرجل الذي يسير بحقيبة على كتفه، ويرنو الى الارض، ويقطف بعض النباتات، ثم يقارنها بالبعض الاخر من الحقيبة؛ ومن ثم تتهلل اساريره ويتقافز فرحًا صائحًا: «لقد صاروا 300!».
هذا الغريب الرحالة ليس بمجنون، هو فقط طبيب مهوسًا بعلم النباتات والاعشاب؛ حتى اُطلق عليه لقب «العشّاب». وهو الصيدلي المسلم ضياء الدين ابو محمد عبد الله بن احمد المالقي المشهور بابن البيطار، والذي سافر للعديد من البلاد طالبًا للعلم ودارسًا للنباتات في كل بلدًا على حدة، مثل بيروت وبلاد اليونان والروم وبلاد الشام، واختار دمشق اخيرًا مستقرًا له حتى يتفرغ لتحليل ودراسة ما جمعه من معلومات ونباتات؛ وقد نتج عن ذلك كتابه «الجامع لمفردات الادوية والاغذية» والذي تضمن 1400 وصفة دوائية، منها 300 من ابتكاره الخاص.
واطلق عليه ابن البيطار؛ نظرًا لعمل اسرته في مجال الطب البيطري، وبمساعدة والده والحيوانات ايضًا استطاع البيطار التنبؤ بالكثير من فوائد واضرار النباتات؛ نظرًا لان الحيوان هو الخبير الاول في الطبيعة، وقد تعلم بالفعل منذ الازل اي النباتات تضره وايهما تفيده.
البهاق هو احد الامراض التي تميز ابن البيطار في علاجها باستخدام بذور الخلة مع عسل النحل، وكان يتابع حالة المريض بنفسه حتى يُشفى، وظهر هذا في ملاحظاته التي اكدت للمرة الاولى ان البقع التي تصيب مريض البهاق تتفاعل مع اشعة الشمس بعد وضع الخليط على جلد المريض، وهو الذي اكد ايضًا ان تلك البقع يصعب علاجها، اذا كانت ظاهرة على الجلد فوق النتوءات العظمية، وهو ما اكده الطب الحديث، وقد كتب البيطار ما يزيد عن خمسة كتب كلها متخصصة في الصيدلة، وظل يوثق لعلومه حتى توفى في القرن الثالث عشر.
الـ«بيمارستان».. قبل ان ينتشر مصطلح «العلاج بالخارج»
اذا شاهد صغيرك شاشة منفصلة لقسمين؛ لتقارن ما بين تطور الطب بالعالم العربي والغربي قديمًا بالعصور الوسطى، بما يراه الان الطفل في العالم؛ سيتوقع ان الجانب الايمن من الشاشة المليء بالخيام والمرضى ينزفون ومن حولهم معدات قديمة ومخيفة هو الجانب الخاص بالعرب، وسيظن ايضًا ان الجانب الايسر للغرب حيث المعمار الفخم، والاجواء النظيفة والادوات الاكثر تطورًا؛ ولكنه فجاة سيرى شيئًا يوتر يقينه بالتخمين السليم؛ رجل بعباءة وعمامة يقترب من احد المرضى في فراشه ويطمئن على حالته؛ ليدرك هذا الطفل الذي يرى كبار السن يعالجون بالخارج على ايدي الاطباء الاوروبيين ان المجتمع العربي والاسلامي في العصور الوسطى كان منشا الطب الحديث وبداية بناء المستشفيات، والتي سميت في هذا الوقت بالـ«بيمارستان»؛ وهي كلمة فارسية تعني المكان الذي يتواجد فيه المريض، بينما استخدم العثمانيون مسمى «دار الشفاء» للمستشفيات التي بنوها.
تحت ظل الاسلام بُنيت العديد من البيمارستانات مثل بيمارستان دمشق، والذي اُسس في القرن الثامن عشر، حيث قدمت المعونة بالمجان لكل المرضى، وهو اول مكان حُجز فيه مرضى الجذام وعزلوا عن باقي الاصحاء.
بينما تميز البيمارستان المنصوري بالقاهرة في الدولة العباسية بمبادرة انشاء اول قسم نفسي في تاريخ الطب بالعالم؛ حيث كان يُحجز المرضى الذي يعانون من اضطرابات عقلية ونفسية؛ ولازال في العامية المصرية يُطلق على مستشفى الامراض النفسية «مورستان» وهو تحريف لكلمة «بيمارستان»؛ في حين كان هؤلاء المرضى قد يتعرضون للقتل او الحرق في العصور الوسطى باوروبا، كما كانت تُحرق النساء المضطربات لكونهن ساحرات.
وتوالت بناء البيمارستانات حتى القرن الحادي عشر لتكون مشفى للمرضى، ومصنع للعقاقير الطبية وتطويرها، وجامعة للطلاب القادمين من كل العالم ليتلقوا الطب من علماء المسلمين.
رحلة الى مستشفيات اوروبا في القرون الوسطى
في هذا الممر بنهاية البيمارستان الذي تجولنا فيه، وبعد ان عرفنا كيف كان يمارس المسلمين الطب في العصور الوسطى؛ دعونا نتخيل ان الجانب الاخر من هذا الممر ياخذنا الى مستشفى بالقرون الوسطى ايضًا، ولكن في اوروبا، وقبل ان تدخل عليك ان ترتدي تلك الكمامة الطبية؛ لان النظافة لم تكن عاملًا متوفرًا في ذاك الوقت، ولا حتى بالمستشفيات، وعندما تخطو عابرًا للمكان والزمان، ستجد على يمينك ويسارك مرضى متقيحة جروحهم، او شاحبة وجوههم، متراصين على نقّالات مهملة في الممر.
ستبحث بعينيك عن ممرضة او طبيب، فلن نجد سوى الراهبات ورجال الدين؛ ففي هذا الوقت المرض عند الاوروبيين لم يُفسر تفسيرًا علميًا، بل فُسر تفسيرًا دينيًا على كونه عقابًا من الله على ذنوب المريض، او القدر المحتوم الذي عليه ان يتقبله، او سحر بمساعدة الشيطان، ويجب ان تُقام طقوس سحرية لتخليص «الممسوس» من اوجاعه.
وعندما تجد طبيبًا، حتى وان لم يؤمن بذنب المريض واستحقاقه المرض، فلن يستطيع ان يساعده ايضًا؛ لان الاطباء في ذاك الوقت لم يجدوا الفرص المتاحة لدراسة الطب كما درسه المسلمون في ذاك الوقت برعاية مالية ومعنوية من الحكام والمثقفين.«شمس الله تسطع على الغرب».. كيف طوّر المسلمون الطب ومنحوه للعالم بالمجان؟