اخبار اليوم الصحيفة, نيكولا تِسلا.. الحياة اخبار اليوم الصحيفة, نيكولا تِسلا.. الحياة
هل تعرف العالم الذي انتج اول محرك يعمل من خلال التيار الكهربائي المتردد (AC)، وقام بتطوير التكنولوجيا الاساسية للاتصالات اللاسلكية عبر المسافات الطويلة، ويملك ما يقرب من 300 براءة اختراع، والعبقريّ الذي قال انه اخترع «سلاحًا خارقًا» يمكنه اراحة البشرية من كل الحروب؛ العالِم الذي يتحدث ثماني لغات مختلفة؟
لا، نحن لا نتحدث هنا عن توماس اديسون او الفريد نوبل او البرت اينشتاين، لكننا نتحدث عن العالم نيكولا تِسلا. ربما يبدو اسم «تِسلا» مالوفًا لك، لكن غالبًا ما سيرتبط في ذهنك بشركة السيارات الكهربائية الشهيرة (Tesla) التي شارك في تاسيسها منذ سنوات ايلون ماسك، العالم ورجل الاعمال المعروف في مجال التقنيات الحديثة. لقد استلهمت شركة «تسلا»، المتخصصة في انتاج السيارات الكهربائية، اسمها من العالم نيكولا تسلا، بسبب مساهماته الثورية في مجال الكهرباء.
ربما تكون قد سمعت عن نيكولا تسلا بالفعل، ولكن القليل من الناس يعرفون مدى اهمية اضافاته العلميّة التي قدّمها للبشريّة، ومكانته في العلوم والتكنولوجيا الحديثة.
يوم السابع من يناير (كانون الثاني) الماضي، مرت علينا الذكرى الخامسة والسبعين لوفاة تِسلا، ربما تكون هذه فرصة لمراجعة سيرة الرجل العمليّة الحافلة وحياته المثيرة، وهو الذي بنى نفسه من لا شيء تقريبًا ليصبح بعدها عالمًا يشهد له اقرانه بالتفوق والابداع الاستثنائي، ورغم ان تسلا ادّعى انه يكرّس حياته فقط للاكتشاف، الا انّ هذا لم يمنعه من الاستمتاع بتقديم استعراضي مميز لاختراعاته، ومع انه جذب انتباه العديد من النساء، لكنه لم يتزوج قط، فبدلًا من هذا، قام بابتكار افكار غيرت حياة الناس في زمانه، واستمرت الى يومنا هذا.
السنوات المبكرة.. علامات العبقرية منذ الصغر
وُلد تسلا في كرواتيا عام 1856، في ليلة شهدت عاصفة رعدية مخيفة؛ مما دفع القابلة التي اجرت عملية الولادة الى القول: ان هذا المولود «سيكون طفلًا من العاصفة»، لتردّ عليها الامّ معترضة: «لا، بل سيكون من البرق»، ويبدو ان كلام امه كان نبوءة لما ستكون عليه حياته التي تعاملت كثيرًا مع البرق وما يطلقه من كهرباء.
خلال دراسته الجامعيّة، اظهر تسلا قدرات خاصة بحل المسائل الرياضية المعقدة لدرجة ان معلميه اتهموه بالغش، واثناء سنوات المراهقة، اصابه المرض على نحو خطير، وتعافى من مرضه بمجرد ان تخلى والده عن مطالبته بان يصبح تِسلا كاهنًا، ليوافق على ذهابه الى مدرسة الهندسة بدلًا من ذلك.
وعلى الرغم من انه كان طالبًا مميزًا، الا انّه انسحب في نهاية المطاف من مدرسة «البوليتكنيك للهندسة»، وانتهى به المطاف بالعمل في شركة «كونتيننتال اديسون» التابعة للعالم الشهير توماس اديسون، اذ ركز على الاضاءة الكهربائية والمحركات.
وبسبب رغبته الكبيرة في مقابلة اديسون نفسه، هاجر تسلا الى الولايات المتحدة في عام 1884، وقال لاحقًا: ان هناك من عرض عليه مبلغ 50 الف دولار امريكي اذا كان بامكانه حل سلسلة من المشاكل الهندسية التي واجهت شركة اديسون. وبعد ان حقق هذا الانجاز، قال تِسلا: ان العرض كان مجرد مزحة وليس حقيقيًّا، لذلك غادر الشركة بعد ستة اشهر لاحقة.
تمكن تسلا من تطوير علاقات جيدة مع اثنين من رجال الاعمال، وهو ما كان سببًا في تاسيس شركة تِسلا للمصابيح الكهربائية والتصنيع «Tesla Electric Light and Manufacturing» عام 1884. وقدم من خلالها عددًا من براءات الاختراع الكهربائية.
عندما قرر شركاؤه انهم يريدون التركيز بشكل كامل على خدمات تزويد الكهرباء، اخذوا الملكية الفكرية الخاصة بالشركة وبراءات اختراعها واسسوا شركة اخرى عام 1886، وهو ما ترك تسلا بلا شيء. لذلك اضطر للعمل بعد ذلك حفارًا للخنادق مقابل دولارين في اليوم، وكان اكثر ما يعذبه هو احساسه ان موهبته الكبيرة وكل ما حصّله من علم على وشك ان يضيع هباءً.
«حرب التيّارات» تسلا واديسون تكهرب الاجواء
في عام 1887، التقى تِسلا اثنين من المستثمرين اللذين وافقا على دعم انشاء شركة تسلا الكهربائية «Tesla Electric Company»، وبذلك استطاع انشاء مختبر في مانهاتن، اذ طوّر المحرك الحثي المتناوب «current induction motor»، بعد ان تمكن من حل عدد من المشاكل التقنية التي كانت موجودة في التصاميم السابقة.
عندما قدم تسلا جهازه في اجتماع هندسي، قامت شركة ويستنغهاوس بترتيبات لترخيص هذه التكنولوجيا الجديدة، ليتمكنوا من الحصول على براءة اختراع كل طاقة ينتجها. وحتى نفهم ما حدث، وكيف حصلت الشركة على اختراع تسلا، علينا الشرح بشكل اكثر تفصيلًا.
هذا الامر كان جزءًا مما يسمى «حرب التيارات» التي كانت مستعرة في اواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر. في ذلك الوقت، قام توماس اديسون باكتشاف التيار الكهربائي المباشر (DC)، مؤكدًا انه اكثر امانًا من التيار المتردد الذي تنتجه محركات الحث المتناوب (AC)، لكن جورج ويستنغهاوس، صاحب شركة «ويستنغهاوس»، قام بدعم التيار المتردد؛ لانه يمكن عبره نقل الطاقة الكهربائية لمسافات طويلة.
ولان الصراع بين تيار اديسون المباشر وتيار ويستنغهاوس المتردد ادى الى تقويض اسعار منتجاتهما معًا، افتقر ويستنغهاوس الى راس المال، لذلك طلب من تسلا ان يبيع براءات اختراعه كلها مقابل مبلغ واحد كامل من المال، وهو ما وافق عليه تسلا، متخليًا بذلك عما كان سيحققه من ثروة هائلة.
وفي عام 1893، استضافت مدينة شيكاغو، المعرض الكولومبي العالمي «World’s Columbian Exposition»، وخلاله طلب ويستنغهاوس من تسلا المساعدة في تسويق الطاقة الكهربائية، اذ سيكون لديهم منصة ضخمة في المعرض لاظهار مزايا التيار المتردد. وتمكن تسلا من اضاءة المعرض كله بمصابيح ضوئية اكثر مما كانت موجودة في مدينة شيكاغو كلها. كما ابهر الجماهير الحاضرة مع مجموعة متنوعة من العجائب، بما في ذلك المصابيح التي تنير دون الحاجة الى توصيلها باسلاك.
في وقت لاحق، ساعد تسلا ايضًا شركة ويستنغهاوس على الفوز بعقد لتوليد الطاقة الكهربائية في شلالات نياجرا؛ مما ساعد على بناء اول محطة طاقة كهربائية واسعة النطاق في العالم.
مسيرة حافلة بالنجاح.. والصراعات والعقبات
واجه تِسلا العديد من العقبات والعراقيل في مسيرته الحافلة، ففي عام ،1895 دُمر مختبره في مانهاتن بحريق تسبب في ضياع مذكراته ونماذجه الاولية لبحوثه القادمة. وسنة 1898 في حديقة ماديسون سكوير، قدم عرضًا رائعًا يخص التحكم اللاسلكي بقارب، وهو ابتكار مذهل للغاية، مذهل لدرجة ان العديد من الناس وصفوه انذاك بانه خدعة، لينال بذلك نظرات الاستنكار بدل نظرات الاشادة والاعجاب التي يستحقها.
بعد فترة وجيزة، حول تسلا اهتمامه الى البث اللاسلكي للطاقة الكهربائية، واعرب عن ثقته بان نظام اللاسلكي هذا لا يستطيع توزيع الكهرباء في جميع انحاء العالم فحسب، بل ايضًا توفير الاتصالات اللاسلكية. وسعيًا لاختبار افكاره، بنى تسلا مختبرًا في منطقة كولورادو سبرينغز. هناك وخلال احدى تجاربه، سحب تسلا كمية هائلة من الطاقة الكهربائية لدرجة انه تسبب في انقطاع التيار الكهربائي في كامل الاقليم. كما كشف في ذلك اليوم عن التقاطه اشارات ادعى انها تنبعث من مصدر خارج الارض.
(نيكولا تسلا)
سنة 1901، اقنع تِسلا بنك جيه بي مورجان للاستثمار ببناء برج في مدينة لونغ ايلاند الامريكية، فقد اعتقد انه من خلال هذا البرج سيحقق خطته لتزويد العالم بالكهرباء. ومع ذلك لم يتحقق حلمه، ولم يتمكن خلال التجارب الاولية من اقناع الممولين بامكانية تحقيق الفكرة، وسرعان ما سحب البنك التمويل. ثماني سنوات بعدها، تلقى العالم الايطالي ماركوني جائزة نوبل لتطويره جهاز الراديو، ليرفع عليه تِسلا دعاوى قضائيّة بالتعدي على براءات اختراعه، لكن المحكمة قضت ببطلان هذه الدعاوى، ليخسر تِسلا معركة اخرى في حياته. في نفس العام الذي رُفعت فيه الدعوة، تردد ان اديسون وتسلا سيشتركان في ربح جائزة نوبل، لكن الامر لم يحدث، وتشير بعض التكهنات غير المؤكدة الى ان العداوة المتبادلة بينهما هي السبب.
مع ذلك، تلقى تسلا العديد من الجوائز والمكافات طوال حياته، بما في ذلك -وهي من المفارقات- ميدالية اديسون التي يقدمها المعهد الامريكي للمهندسين الكهربائيين.
جانب تِسلا الغريب
كان تسلا شخصًا مميزًا، كما ان تميزه لم يات من فراغ. فقد كانت لديه ذاكرة فوتوغرافية؛ مما ساعده على حفظ حجم ضخم من المعلومات والتحدث بثماني لغات. وقد كان يقول ايضًا ان العديد من افضل افكاره جاءت اليه في ومضة، وانه راى صورًا مفصلة لكثير من اختراعاته في ذهنه قبل ان يضع لها اي اساس، او يبني اي نماذج اولية خاصة بها. ونتيجة لذلك، لم يكن في البداية يقوم باعداد الرسومات والمخطوطات للعديد من اجهزته، بل يهمّ في انجازها مباشرة.
وقد كان تسلا مشهورًا بين النساء، على الرغم من انه لم يتزوج ابدًا، مؤكدًا ان العزوبية لعبت دورًا مهمًا في ابداعه. ولعل المرض الشديد الذي اصابه في سن المراهقة جعل خوفًا غير عقلاني يتملّكه من الجراثيم، وهو ما جعله مهووسًا بالنظافة بصورة مبالغ فيها، هذا على الارجح ما كان عائقًا امام تطوير علاقاته الشخصية. كما اظهر تسلا رهابًا غير عادي، مثل النفور من اللؤلؤ؛ مما ادى به الى رفض التحدث الى اي امراة ترتديه.
كما صرّح تسلا بحبّه للعزلة والفائدة التي يجنيها منها؛ اذ ان ابرز الافكار تاتي الى ذهنه في فترات انعزاله، لكنه لم يكن ناسكًا او من هواة الرهبنة، فقد انشا علاقات اجتماعية واسعة وسط العديد من الشخصيات المشهورة في حفلات العشاء الانيقة التي كان يستضيفها.
وتمتع تسلا بسمعة طيّبة، ليس فقط كونه مهندسًا كبيرًا ومخترعًا، ولكن ايضًا بصفته فيلسوفًا وشاعرًا، وخبير تذوّق. وفي عيد ميلاده الخامس والسبعين، تلقى رسالة تهنئة من العالم الشهير البرت اينشتاين، وظهر على غلاف مجلة تايم.
وحيدًا ومُفلسًا.. الايام الاخيرة للعبقري
لقد لعب تِسلا بشكل جيد دور العالم المجنون في المخيال الشعبي لكثير من الناس، وادعى انه طور محركًا يعمل على «اشعة كونية»، وانه كان يعمل على الفيزياء الجديدة غير فيزياء اينشتاين التي من شانها توفير شكل جديد من الطاقة، قائًلا انه اكتشف تقنية جديدة لتصوير الافكار، وانه اخترع شعاعًا جديدًا، يمكن وصفه -بالتناوب- بانه شعاع الموت والسلام، مع امكانات عسكرية اكبر بكثير من المتفجرات التي اخترعها العالم نوبل.
(معمل تسلا)
فقد تسلا ماله قبل وفاته بفترة طويلة، وقضى سنواته الاخيرة يتحرك من مكان الى اخر، تاركًا وراءه فواتير غير مدفوعة. في نهاية المطاف، استقر في فندق بنيويورك، حيث دفع الايجار ويستنغهاوس. لقد عاش تسلا دائمًا وحده، وقال انه يرتاد الحديقة المجاورة، اذ كان يتامل فيها بانتظام، ويقوم برمي الحبوب للحمام الذي كان يرى ان هناك تقاربًا خاصًا بينهما.
في صباح يوم 7 يناير (كانون الثاني) 1943، عثر عليه خادم الفندق وقد فارق الحياة في السادسة والثمانين من عمره. اليوم، اسم تسلا لا يزال يتداول بصورة كبيرة. فالمطار في مدينة بلغراد يحمل اسمه، كما هو الحال في شركة السيارة الكهربائية الاكثر شهرة في العالم. كما ان وحدة قياس قوة المجال المغناطيسي هي «تسلا».
قصّة تسلا تذكّرنا بالاسطورية الاغريقية لـ«بروميثيوس
»، وهو احد عمالقة اليونان الاسطوريين، الذي اجتاح السماء وجلب اكتشاف النار للجنس البشري، ولكن عقابه على هذا كان ربطه بالسلاسل الى صخرة، اذ يقوم النسر كل يوم ياكل كبده. تسلا ارتفع كثيرًا الى اعلى لجلب البرق الى الارض، ولكن عاداته غير المالوفة وغرابة تفكيره ادت في نهاية المطاف الى سقوطه، وتركه وحيدًا مفلسًا.نيكولا تِسلا.. الحياة الاستثنائية للعبقري المجهول الذي يؤثر في حياتنا حتى الان