دماءٌ-في-بغداد.-حين-قُتِل-الخليفة-رفسا-بارجل-المغول

دماءٌ في بغداد.. حين قُتِل الخليفة رفسا بارجل المغول

اخبار اليوم الصحيفة, دماءٌ في بغداد.. اخبار اليوم الصحيفة, دماءٌ في بغداد..

يحكي شاهد عيان نجا من مجزرة المغول الدموية في بغداد التي اوقعت عشرات الالاف من القتلى ويسمى الفقيه جمال الدّين سليمان بن فخر الدين عبد الله بن رطلين هو ووالده ممن شاهدوا تلك الاهوال وقد افلت ووالده من الموت باعجوبة، وكان جمال الدين في حدود السادسة والعشرين من عمره، استطاع ان يتخفّى في انفاق بغداد حينها يقول: جاء هولاكو في نحو مائتي الف جندي، ثمَّ طلب الخليفة المستعصم العباسي، فخرج الى معسكره ومعه القضاة والمدرّسون والاعيان في نحو سبعمائة انسان، فلمّا وصلوا الى منطقة شمال بغداد وكانت تسمى الحربية جاء الامر بحضور الخليفة ومعه سبعة عشر شخصًا فقط، فاتّفق انّ ابي كان احدهم، فحدّثني انّهم ذهبوا مع الخليفة، وانزلوا من بقي عن خيلهم، وقتلوهم من لحظتهم. ثم اشهر النداء ببدء المجزرة في بغداد، فظل القتل اربعين يوما. وانزلوا الخليفة في خيمةٍ صغيرة، والسّبعة عشر في خيمة اخرى.
قال ابي: فكان الخليفة يجيء الى عندنا كلّ ليلةٍ ويقول: ادعوا لي. ثمَّ جرت للخليفة وابن الخليفة ابي بكر محاورات ونقاشات مع هولاكو. لكنه في نهاية الامر اصدر قراره باعدامهم وقتلهم رفسًا في بعض الاجولة، واطلقوا سراح السّبعة عشر ليكونوا في مرمى سهام التتار استهزاءً بهم، فقُتل منهم رجلان، واستطاع البقية ومنهم ابي الهرب، لكنهم حين رجعوا الى بغداد وجدوها خاوية مليئة بالجثث والقتلى!
حينها ذهبوا الى المدرسة المغيثية على شاطئ نهر دجلة، وقد كنتُ ظهرتُ من انفاق بغداد فبقيت اسال عن ابي، فدلني عليه بعض الناس، فاتيته هو ورفاقه، فسلّمت عليهم، فلم يعرفني احدٌ منهم، وقالوا: ما تريد؟ قلت: اريد فخر الدّين بن رطلين. وقد عرفته، فالتفت اليّ وقال: ما تريد منه؟ قلت: انا ولده. فنظر اليّ وتحقّقني، فلمّا عرفني بكى، وكان معي قليل سمسم فتركته بينهم[1]
هذه الحكاية الماساوية من شاهد عيان عايش عصر الهزيمة والسقوط المدوي لبغداد تحت جحافل التتار منذ ثمانمائة عام، تجسد لنا فصلا من فصول الهزيمة في تاريخنا، وهو الفصل الذي لا نكاد نقف عنده كثيرا؛ استحبابًا للحظات النصر والشموخ كمثل اي امة تحب من تاريخها لحظات العزة والقوة فقط.
تدور روايات سقوط بغداد عاصمة الخلافة العباسية لمدة اكثر من خمسة قرون حول مشاهد الحصار والتدمير العمراني والحضاري والبشري، كما تشير كذلك الى اعمدة الخيانة الداخلية وعلى راسها مؤيد الدين بن العلقمي الوزير الخبيث الذي تراسل مع المغول وكشف لهم مكامن الضعف في جسد الدولة سياسيًا وعسكريًا، لكن هذه الروايات لا تقف كثيرا مع مقدمات السقوط واسبابه الكامنة في شخصية راس الدولة.
لماذا اختاروا المستعصم الضعيف؟!
هناك روايات تاريخية لم تقف معها مصادر التاريخ العباسي كثيرا تشير الى ان الخليفة العباسي الاخير المستعصم بالله (640- 656هـ/ 1242- 1258م) لم يكن المؤهل للخلافة وان ثمة اياد خفية ابعدت الامير الخافجي المستحق لمنصب الخلافة، وهذا الامير كان ذكيا شجاعًا، تابع عن كثب تطور التمدد المغولي في شرق العالم الاسلامي من بخارى وسمرقند حتى مشارف العراق.
بل ومن الملاحظ ان كثيرا من مصادر تاريخ تلك الحقبة لم تذكر ان المستنصر قد عهد لولده عبد الله المستعصم بالعهد ليكون خليفة من بعده؛ وحتى اللحظة الاخيرة من حياته لم نجده يميل الى هذا؛ ولعل هذا الفعل او بالاحرى الاطمئنان وعدم التسرع قد يُرجح رواية المؤرخ المقريزي التي يذكر فيها ان المستنصر والد المستعصم مات مسمومًا [2] ما يعني ان الوفاة او القتل كان مفاجاة؛ وقد لا يُستبعد من هذه الجريمة بعض كبار رجال الدولة مثل ابن العلقمي المسئول عن قصر الخلافة انئذ، والامير اقبال الشرابي احد كبار قادة الجيش.
هذه الرؤية يؤكدها مؤرخ اخر هو العصامي الذي يقول: “كان للمستنصر ابنان: احدهما يسمى بالخفاجي، كان شديد الراس، شديد الراي، شجاعًا صعب المراس، والثاني هذا المستعصم، وكان هينًا لينًا، ضعيف الراي، فاختاره الامير شرابي على اخيه الخفاجي؛ ليستبدّ هو بالامر، ويستقل باحوال الملك؛ فانه لا يخشاه كما يخشى من اخيه الخفاجي. فلما توفي المستنصر اخفى الامير اقبال موته نحوًا من عشرين يومًا، حتى دبر الولاية للمستعصم، وبويع له بالخلافة، ففر اخوه الخفاجي الى العربان وتلاشى امره”[3].
وتتزايد نظرية المؤامرة حين نتبين ان الاسرة العباسية واقارب المستعصم وعلى راسهم اعمامه قد اُجبروا على مبايعته من العسكر، وقد وضعوا في الاقامة الجبرية ومنع عنهم الطعام والماء حتى استسلموا في نهاية المطاف.
يقول احد المؤرخين المعاصرين لتلك الاحداث “استُدعي احد اعمامه وهو ابو الفتوح حبيب واُوهم ان جماعة اخوته (اعمام المستعصم) حضروا وبايعوه فلما حضر لم يرهم فبايع وعاد الى داره بالفردوس ثم طُلب الباقون للمبايعة فامتنعوا … واما اعمامه وكذا عم ابيه الممتنعون من الحضور والمبايعة فاُشير باستدامة غلق باب الفردوس الذي يحتوي على بيوتهم بحيث لا يدخل اليهم طعام ولا غيره فبقوا على ذلك ثلاثة ايام، فسالوا المبايعة واُحضروا فبايعوا»[4].
وهذا النص الذي ذكره الاربلي في غاية الاهمية اذ يبين لنا ان المستعصم لم يكن مرغوبًا فيه من الاسرة العباسية ذاتها لوهنه وضعفه او لانه لم يكن الابن الاكبر للمستنصر وهو الخفاجي الذي كان ينظر اليه على انه الاقوى والاليق بهذا المنصب الخطر. في المقابل هرب الامير الخافجي الى البادية العراقية واختفى حتى تردد اسمه عند لحظات السقوط، لكن سرعان ما تلاشى اسم الخلافة العباسية بالكلية حين اعدم المغول افرادها وعلى راسهم المستعصم ذاته.
الخليفة المخدوع!
امتازت شخصية المستعصم بامرين غريبين للغاية، الاول ثقافته واطلاعه وحبه للقراءة مع الدعة والرفاهية وحب المال، والثاني التقتير والبخل الشديد على تطوير مؤسسات الدولة ومرافقها وعلى راسها المؤسسة العسكرية التي كانت تواجه اخطر تحدٍ وجودي تمثّل في اجتياح المغول واحتلالهم لمعظم القارة الاسيوية وبلدان العالم الاسلامي الشرقية حتى تخوم العراق. صحيح ان ابن العلقمي كان له الدور الاخطر والاكبر في اثناء عزم الخليفة على تطوير الجيش، لكن ابن العلقمي ذاته لم يكن ليتمكن من الخليفة لولا ضعف هذا الاخير وحبه للمال والكسل والغفلة.
راى المستعصم ان اسهل وافضل حل ان يبرم مع التتار اتفاقًا يتم بمقتضاه تخفيض عدد الجيش العباسي من مائة الف مقاتل في كافة الاراضي العباسية الى اقل من عشرين الفًا، ويعطي في المقابل جزية سنوية لهم، وبهذا لم يعد من المتوقع حدوث الصدام العسكري بين الفريقين كما ظن المستعصم[5].
كان صراع مراكز القوى في الدولة العباسية على اشده، فهناك ثلاثة اشخاص كانوا اكابر رجال الدولة حينها، هم مؤيد الدين العلقمي الوزير ورئيس ديوان الخلافة، واقبال الشرابي قائد الجيش، ومجاهد الدين الدويدار الرجل الثاني في قمة الجيش.
كان راي القائد العسكري مجاهد الدين ايبك ان يبادر العباسيون بمواجهة التتار، لانهم ان عاجلاً ام اجلا سيدخلون العراق، ولن يقنعوا ابدا بالمال المرسل اليهم سنويًا، وقد حفظ لنا التاريخ مقولته: «لو مكنني امير المؤمنين المستعصم، لقهرت التتار، ولشغلت هولاكو بنفسه»[6]. اما المستعصم فكان عازفًا عن سماع نصيحة قادة جيوشه، غير ابه لهم، فقط يقتنع بما يمليه عليه ابن العلقمي، ولذلك لا نستغرب الوصف المتكرر في وصف المؤرخين المعاصرين له وغير المعاصرين بانه “ضعيف الراي”[7]!
احد هؤلاء المؤرخين هو كمال الدين ابن الفوطي وهو قريب من زمن سقوط بغداد يروي بماساة حال الجيش العباسي الذي صار يتسول جنوده وقادته في الاسواق حينذاك، قائلاً: “كان الخليفة قد اهمل حال الجند ومنعهم ارزاقهم واسقط اكثرهم من دساتير ديوان العرض (اسقط رواتبهم وفصلهم من وزارة الجيش)، فالت احوالهم الى سؤال الناس، وبذل وجوههم في الطلب في الاسواق والجوامع، ونظم الشعراء في ذلك الاشعار فمما قاله الشاعر المجد النشّابي[i] من قصيدة جاء فيها:
يا سائلي ولمحض الحقّ يرتاد
اصخ[ii] فعندي نشدان وانشاد
اما الوزير فمشغول بعنبره
والعارضان فنسّاج ومدّاد
وحاجبُ الباب[iii] طورًا شاربٌ ثملٌ
وتارة هو جِنكي[iv] وعوّادُ[v]
وشيخ الاسلام[vi] صدر الدين همّته
مقصورة لحُطام المال يصطادُ
وا ضيعة الملك والدّين الحنيف وما
تلقاه من حادثات الدّهر بغدادُ
اين المنية مني كي تُساورني
فللمنية اصدار وايرادُ
هتك وقتل واحداث يشيب بها
راس الوليد وتعذيب واصفاد[8]
السقوط المدوّي!
منذ ما قبل سقوط بغداد بخمس سنوات على الاقل والمثقفين وعامة الناس في بغداد كانوا يرون خطورة المد المغولي واقترابه، خصوصا مع حملة المغول الحربية التي خرجت من عاصمتهم سنة 651ه/1253م، لا تريدـ شيئًا سوى استكمال السيطرة المغولية على بقية اقطار العالم الاسلامي، هذه الحقيقة التي راها الجميع غفل عنها راس الدولة الخليفة المخدّر باوهام الكسل والبلاهة.
وفي ذلك يقول المؤرخ المعاصر ابن الطقطقى في كتابه «الفخري»: “في اخر ايّامه (المستعصم) قويت الاراجيف (الشائعات) بوصول عسكر المغول صحبة السّلطان هولاكو فلم يحرّك ذلك منه عزما، ولا نبه منه همّة، ولا احدث عنده همّا، وكان كلّما سُمع عن السّلطان (هولاكو) من الاحتياط والاستعداد شيء ظهر من الخليفة نقيضه من التّفرط والاهمال، ولم يكن يتصور حقيقة الحال في ذلك، ولا يعرف هذه الدّولة حقّ المعرفة … وما زالت غفلة الخليفة تنمي ويقظة الجانب الاخر تتضاعف”[9].
ومع ذلك منّى الخليفة نفسه بعلاقات طيبة مع المغول، فقد اشتُهر عنه قوله: “لا خوف من المستقبل؛ لان بيني وبين هولاكوخان واخيه منكو قان روابط ودية، ومحبة صميمية لا عداوة ونفرة، وحيث اني احبهم فلا شك انهم يحبونني ويميلون اليّ، واحسب ان الرسل قد بلّغوني عنهم كذبًا، واذا ظهر خلاف فلا خشية منه؛ لان كل الملوك والسلاطين على وجه الارض بمنزلة جنود لنا”[10].
المغول لم يابهوا بهذه المراهقة السياسية، فقد كانت القوة بيدهم، والامدادات لا تنقطع عنهم، بل ان بعض الامراء المسلمين كانوا مضطرين للوقوف معهم ضد الخلافة العباسية مثل امير الموصل الذي منحهم الامدادات اللوجستية اللازمة لعبور نهر دجلة وتذليل الصعوبات حتى الوصول الى بغداد[11].
وبحلول يوم 4 المحرم سنة 656هـ استطاع قائد المغول هولاكو ان يصل بالفعل الى اسوار بغداد الشرقية غير ان فرقة من القوات العباسية كانت متمركزة حالت لمدة اسبوعين فقط، قال ابن الطقطقى: “واما حال العسكر السلطاني (عسكر هولاكو) فانه في يوم الخميس رابع محرم من سنة ست وخمسين وستمائة ثارت غبرة عظيمة شرقي بغداد على درب باعقوبا بحيث عمت البلد، فانزعج الناس من ذلك وصعدوا الى اعالي السطوح والمناير يتشوفون، فانكشفت الغبرة عن عساكر السلطان هولاكو وخيوله وقد طبّق وجه الارض واحاط ببغداد من جميع جهاتها”[12].
وامام هذه الهجمة الشرسة من قوات تقدر بعشرات الالاف انهارت الدفاعات العباسية بعد استنفاد الجهد والطاقة، وامست بغداد الشرقية بين مطرقة هولاكو من الشرق وسندان القائد المغولي الاخر بايجو من الغرب الذي كان قد استولى على بغداد الغربية بالفعل منذ اسبوع تقريبا[13]!
وبحلول نهاية محرم وبداية صفر من العام ذاته كان المغول قد استولوا على بغداد وعاثوا فيها فساد ودمروا حاضرتها الثقافية، وقتلوا ما لا يقل عن مائة الف بغدادي في بعض الروايات ومليون في اكثرها، يقول الذهبي: “والاصح انهم بلغوا ثمانمائة الف (قتيل)”[14]! وفي 2 محرم قُتل الخليفة المستعصم واولاده وعائلته وكبار قادته في معسكر الجيش المغولي وسقطت الخلافة العباسية رسميا بعد حكم استمر خمسة قرون.
لم نقف في هذا التقرير مع دور ابن العلقمي الوزير الفاسد، ورجل المخابرات المغولية في بغداد وهو الوزير صاحب الامر والنهي في الشئون التنفيذية بعد الخليفة، لم نقف معه لان دوره معروف للكافة وكتب حوله الكثير، لكن المشكلة الحقيقية بدات مع اعتلاء هذا الخليفة الضعيف لعرش الدولة، وعلى مدار ستة عشر عامًا قضاها في الحكم، دمّر المستعصم ما بناه ابوه المستنصر وجده الناصر من قوة عسكرية وحضارية كان لها شان في حماية واسترجاع قوة العباسيين من بعد ضعف استمر لعشرات السنين.
وبهذا نتبين ان اهم حدث شكّل عصر الهزيمة العباسية في العراق تمثّل في صعود شخصية “تافهة” لمنصب خطير مثل منصب الخلافة، ولا شك ان هذه الحادثة تكررت كثيرا في عصور الهزيمة في تاريخ التجربة الاسلامية، فلم يكن النصر حليفا الا مع الاقوياء الاذكياء.
_______________________________________________
[i] مجد الدين اسعد بن ابراهيم بن الحسن الكاتب الاربلي ولد سنة 581هـ استوطن بغداد وكان احد شعراء ذلك الحين، كان مقدامًا على ذم رجال الدولة العباسية، نجا من ايدي المغول سنة 656هـ لكنه توفي في اخر السنة نفسها.
[ii] اي استمع الى صوت قارع، ويقصد به الاحداث المؤلمة التي كان يراها.
[iii] الحاجب: المسئول عن قصر الخليفة ومن يدخل عليه.
[iv] الجنكي: الموسيقي.
[v] عوّاد: لاعب العود الموسيقي.
[vi] شيخ الاسلام: قاضي القضاة والمفتي الاكبر لبغداد وقتها.دماءٌ في بغداد.. حين قُتِل الخليفة رفسا بارجل المغول

Scroll to Top