اخبار اليوم الصحيفة, جماعات الدم: «الفايكنج» اخبار اليوم الصحيفة, جماعات الدم: «الفايكنج»
العصور المظلمة في اوروبا، والتي بدات من القرن الخامس الميلادي وامتدت حتى القرن العاشر تقريبًا، كانت واحدة من اكثر حقب التاريخ قسوة، وعدائية، ورعبًا منذ انهيار الامبراطورية الرومانية الغربية تحديدًا، ومقتل اخر الاباطرة الرومان «رومولوس اوجستولوس» عام 476 ميلادية على يد «اودواكر» احد ملوك ايطاليا لاحقًا.
بعدها انتشرت الحروب والصراعات كالنار في الهشيم، وانقسمت اوروبا على نفسها الى عدة ممالك ودويلات خاض بعضها صراعات دامية مع البعض الاخر؛ طمعًا في النفوذ والسلطة، وسط مجاعات عنيفة ونقص في الموارد، وطاعون ازهق الاف الارواح، ثم اتت الطامة الكبرى على شعوب اوروبا بظهور غزاة الشمال، او ما عرف تاريخيًّا بغزو الفايكنج الدموي.
هجوم دير ليندسفارن.. اول الـ «غيث»
في عام 793 الميلادي فوجئ الكهنة في دير القديس كوثبرت بجزيرة ليندسفارن الصغيرة على الساحل الشمالي البريطاني بموجة من المحاربين الغزاة يهاجمون الدير والجزيرة، وينهبون محتوياتها من الكنوز والاموال، ويقتلون بوحشية كل من يقاوم او حتى كل من يصادفهم من رجال الدين المسيحيين.
الجزيرة الصغيرة المسالمة سقطت في ايديهم دون عناء يُذكر، والتي ذكرها القس الانجلوساكسوني «الكوين اوف يورك» في مذكراته عن الواقعة: «رُشت الكنيسة بدم قساوسة الرب، وتم سلبها من كل خيراتها وكنوزها، سقطت فريسة للوثنيين»، كانت تلك اولى الغزوات المسجلة تاريخيًّا للفايكنج المحاربين الذين اتوا من المنطقة الاسكندنافية شمالًا، وكانت بداية حروب وغزوات امتدّت لقرنين من الزمان في جميع انحاء اوروبا.
الجذور.. في البر والبحر
اصول تسمية شعوب الشمال الفايكنج اتت من من الكلمة النرويجية القديمة «فايكينجر»، والتي تعني «شخص قادم من المضايق»، ومن كلمة «فيك» وتعني خليج او مضيق، وتعود اصول نشاتهم الى منطقة «اسكندنافيا» -ما يعرف الان بالنرويج والسويد والدنمارك وايسلندا-. وهم جماعات قروية متفرقة تعيش على الانشطة البسيطة مثل الزراعة والصيد البحري، وعاشوا في تجمعات غير موحدة. كان لكل قبيلة او تجمع منهم ملك من اصول حاكمة، ولكن عملت كل جماعة بشكل منفصل عن الاخرى، وهذا ايضًا كان احد اهم اسباب تفوقهم في العمل بشكل عشوائي دون ان يتوحدوا تحت راية او حكم منفرد مطلق لملك او امبراطور.
لكن التغيير الحقيقي ظهر بمثابة طفرة على يد بعض رجال تلك الجماعات الذين برعوا بشدة في هندسة وبناء القوارب والسفن في القرن التاسع، والتي اعتبرها المؤرخون احد اهم اسباب براعتهم في الملاحة البحرية، والتي فيما بعد كانت هي سر تفوق غزواتهم في جميع انحاء اوروبا، وتميزت هذه السفن بالخفة، والانسيابية، ودقة وروعة التصميم.
كما تمكنت سُفنهم من عبور الانهار الضحلة في رحلاتهم البحرية ، اعتمدوا بالدرجة الاولى على الريح وعلى الشراع العريض المصنوع من الصوف لدفع السفن، اما في الانهار فقد اعتمدوا في تسييرها على سواعد المُجدفين، وتميزت مقدمة السفن الحربية تحديدًا بتقوس رشيق متجه الى اعلى، ونهايتها المُحتوية على منحوتات خشبية تمثل راس تنين او افعى.
الغارات.. حتى بوابات باريس
بعد سقوط دير جزيرة لندسفارن ادرك محاربو الفايكنج مدى سهولة الحصول على الكنوز والخيرات من اولئك المسالمين الذين لم يرفعوا اصبعًا لمقاومتهم او محاربتهم، وسرعان ما تكونت اساطيل صغيرة من سفن الفايكنج المميزة المحمّلة بالمحاربين الاشداء، وشقت طريقها في غارات عشوائية على الاماكن سهلة السلب في انحاء انجلترا وايرلندا كالكنائس والاديرة والقرى الصغيرة، ولكن في عام 850 ميلاديًّا تقريبًا بدا الفايكنج حملتهم الكبرى للتوغل في انحاء اوروبا عبر سواحل انجلترا وايرلندا، ليس هذا فقط، ولكنهم بالتزامن مع ذلك ابحروا باعداد كثيفة خلال نهر «السين» -بفضل براعتهم في الملاحة في الانهار- الذي هو الشريان المغذي لقلب فرنسا، وتنامت قوتهم وعنف حروبهم، واستطاعوا خلال عدة سنوات ان يفتتوا المملكة الفرنسية ووصلوا الى اعتاب باريس العاصمة الاكثر شهرة في اوروبا.
وفي المملكة الانجليزية انشاوا نظام حماية يسيطر على كُل من اسكتلندا وانجلترا وايرلندا، وفي عام 865 قامت الحملات بالسيطرة على الممالك الانجليزية المتفرقة واحدة تلو الاخرى على يد زوج من الاشقاء من اكثر قواد الفايكنج شراسة وقوة، وهما: «هلفدان» و«ايفار المشلول» بداية من مملكة «نورثمبريا» و«انجليا الشرقية»، ومملكة قلب انجلترا «ميرسيا»، وبعد غارات متفرقة سقطت مملكة «ويسيكس» بقيادة الملك «الفريد» سنة 878 ميلادية، ومكثوا في الممالك الانجليزية المحتلة لما يزيد على مائة عام حكموا فيها تلك الممالك بقبضة حديدية تركت الكثير من العداء والدم في نفوس الانجليز.
في اواسط القرن الحادي عشر بدات قوى الفايكنج في النرويج والسويد في التوحد تحت راية ملوك كبار، وظهرت ممالك قوية سيطرت على الجماعات الصُغرى التي بدات في الحد من الحملات والغارات العشوائية في اوروبا، ولكن هذا اتى بعد ان توغلوا في قلب انجلترا وفرنسا، ووصلوا الى اوكرانيا واجزاء من اوروبا عبر شبكات الانهار الضحلة في انحاء شرق اوروبا التي ابحروا فيها وسيطروا عليها وعلى مناطق اخرى مثل «ايسلندا» و«جرينلاند» على مدى قرنين واكثر.
امريكا الشمالية.. قبل كولومبس
منذ منتصف القرن العاشر بدا الفايكنج حملات استكشافات بحرية برعوا فيها ملاحيًّا، ووصلوا الى جزر متفرقة في المحيط الاطلسي منها جزر مثل «بافين» و«لابرادور» و«فينلاند»، والاكثر جدلًا كانت احدى الجزر القريبة من سواحل كندا والتي عرفت باسم «نيوفاوندلاند»، وفي عام 1960 وجدت بعثات كشوفًا اثرية تدل على وجود بقايا سفن الفايكنج في ثلاثة مواقع اخرى بالقرب من السواحل الشمالية للقارة الامريكية الشمالية، اي قبل وصول بعثات الاستكشاف الاوروبية بقيادة «كريستوفر كولومبس» بحوالي خمسة قرون.
الفايكنج والعرب ..الشرق والشمال
اورد المؤرخ الجغرافي العربي بيزنطي المولد «ياقوت الحموي» في كتابه الشهير «معجم البلدان» بلاد اسكندنافيا من خلال رسالة لرحالة عربي الى بلاد الروس وشرق اوروبا، وهو الرحالة احمد بن فضلان بن العباس بن الرشيد بن حماد الذي ارتحل الى بلاد الروس والبلغار وشرق اوروبا، ووصف حياة الفايكنج بدقة لدرجة دفعت المستشرقين الى تتبع اصل المخطوطة التي اوردها «ياقوت الحموي» لرسالة ابن فضلان، وبالفعل عُثر عليها وتُرجمت الى عدة لغات، وكانت بمثابة عامل كبير ساهم في توضيح اجزاء من صورة الفايكنج لدى الباحثين والمؤرخين.
كان الرحالة ابن فضلان قد ذهب في تلك البعثة سنة 921 ميلادية بناءً على تكليف من الخليفة العباسي المقتدر بالله، ضمن بعثة رسمية الى ملك الصقالبة «المش بن يلطوار» بطلب من هذا الاخير ليفقهه في الدين ويعرفه شرائع الاسلام، ويبني له مسجدًا وينصب له منبرًا ليقيم عليه الدعوة له في بلده وجميع مملكته، ويساله بناء حصن يتحصن فيه من الملوك المخالفين له، وقد اتت في رسالته اوصاف لحياة الفايكنج من خلال تسميتهم «الروسية»، والذي سميت به روسيا الحديثة نسبة الى قبيلة روس الفايكنج التي استوطنت تلك البلاد قديمًا، فقال كما ورد:
« رايت الروسية وقد وافوا في تجارتهم، ونزلوا علي نهر اتل، فلم ار اتم ابدانًا منهم كانهم النخل، شقر حمر، لا يلبسون القراقط ولا الخفاتين، ولكن يلبس الرجل منهم كساًء يشتمل به على احد شقيه، ويخرج احدى يديه منه، ومع كل واحد منهم فاس وسيف وسكين، لا يفارقه جميع ما ذكرناه، وسيوفهم صفائح مشطبة افرنجية، ومن حد ظفر الواحد منهم الى عنقه مخضر شجر وصور وغير ذلك –يقصد الوشوم غالبًا-».
هذا بالاضافة الى ذكره لولع الاسكندنافيين بالعملات والدراهم العربية الفضية، والتي اكتشفت لاحقًا في بعثات اكتشافات اثرية في السويد، بجانب احد الخواتم الاثرية التي اكتشفت في موقع اثري سويدي يسمى «بيركا»، وكان مركزًا للتبادل التجاري من قبل الفايكنج نُقش عليه بالعربية لفظ الجلالة على حجر زجاجي ملون، بفحص الخاتم ثبت انه يعود للقرن التاسع الميلادي.
مفاهيم شائعة.. هل هي صحيحة؟
شاعت مفاهيم ثبت خطؤها فيما بعد عن الفايكنج، مثل ارتداء الخوذات ذات القرون، لكنهم في الواقع ارتدوا خوذات قوية من الجلد والمعادن ذات حواف حامية، وصورة الخوذة ذات القرون اتت من تصورات خاطئة من مؤرخي القرن الثامن عشر والتاسع عشر وفي عهد الملكة «فيكتوريا» الاولى، ومن بين تلك المفاهيم ايضًا انهم كانوا قذرين ولا يهتمون بنظافتهم ومظهرهم، ولكن بعثات الاستكشافات اظهرت بعض الادوات التي تدل على التحضر والاهتمام بالمظهر مثل ملاعق الطعام، وامشاط الشعر، وبعض ادوات الزينة وتهذيب المظهر مثل الملاقط، والشفرات.
بلاد الشمال.. من الهمجية الى قلب الحداثة
بالرغم من صورة الفايكنج الاجرامية، اذ يعيشون لاجل النهب والحرب، فقد كان قلب مجتمع الفايكنج متكافئًا، سواء على المستوى الشخصي، او المستوى الاجتماعي، او على المستوى السياسي. عاش الفايكنج في وقت كانت فيه العديد من المجتمعات معتمدة على العنف، وكانت افعال الفايكنج في سياقها الصحيح والطبيعي بالنسبة لفترة العصور المظلمة.
تصرفات بعض الشعوب في تلك الفترة كانت اكثر وحشية من الفايكنج بمراحل عدة، من امثلتها الملك الفرنسي شارلمان الذي قطع راس 4500 فرد من الساكسونيين بسبب عبادتهم الوثنية في يوم واحد. كان معظم محاربي الفايكنج من التجار والصيادين والمزارعين، ورغم ذلك فقد قام العديد منهم بعمليات نهب، وعادة كان النهب للاديرة حول ايرلندا، واسكتلندا، وويلز، وانجلترا، حيث انها كانت تحتوي على العديد من الاشياء القيمة والذهب والفضة، ولعلها لم تكن الدوافع المقنعة لكل تلك الحروب والغارات العنيفة. ولكن جدير بالذكر ايضًا ان الاديرة كانت هي مركز التعليم والكتابة وقتها، فقد كان نهبها يُسجل تاريخيًّا بسبب اهميتها حتى بالنسبة للوثنيين الاخرين، او العصابات الغجرية.
وبعد انتشار المسيحية في ارجاء اسكندنافيا بداية من عام 1000 ميلاديًّا، توحدت بعض القوى، وقلّت الحملات الاستعمارية والعدائية، وانسحب دور ملوك الفايكنج في الحروب في اوروبا، وانشغلت اسكندنافيا بصراعتها الداخلية وحروبها الاهلية، وتم اسقاط مستعمراتها في ارجاء اوروبا، ثم انتشرت المسيحية بقوة لتعّم ارجاء البلاد الاسكندنافية التي اخذت في تبنّي اساليب الحياة السلمية، حتى قُسمت الى دول مستقلة مثل السويد والنرويج والدنمارك وايسلندا، التي ظلت منذ عصر النهضة حتى عصرنا الحالي بعيدة –بقدر الامكان- عن الصراعات الدولية والسياسية والحروب الطاحنة، وتعمل على تبني القوانين واساليب الحياة الحديثة حتى صارت اسماء تلك الدول تُذكر كثيرًا وفي المراكز الاولى ايضًا عندما نبحث عن افضل بلد في رفاهية وجودة المعيشة او في جودة التعليم.جماعات الدم: «الفايكنج» الذين روعوا اوروبا ووصلوا الى شواطئ امريكا والاندلس
