اخبار اليوم الصحيفة, الظرفاء والظريفات.. مجتمع اخبار اليوم الصحيفة, الظرفاء والظريفات.. مجتمع
سجل الاديب والشاعر ابو الطيب الوشّاء (869-937 للميلاد) عادات وتقاليد مجموعة من رجال الحاشية والنخبة العباسية، من المجتمع المعروف باسم “الظرفاء” الذين الزموا انفسهم بقواعد سلوك صارمة تحكم اللباس و”الاتيكيت” والخطاب والكلام، وحتى الرائحة التي ميزهم وجعلت الواحد منهم (الظرف) من اداب وفنون الخاصة من العباسيين.
وحكى الوشّاء في كتابه “الظرف والظرفاء” عن افراد النخب العباسية -ومنهم كتاب وعلماء وموسيقيون من الرجال والنساء- ان هذا الاسلوب منحهم قدرة على تمييز انفسهم عن بقية المجتمع، وساعدهم بسماته المميزة على تكوين طبقة من النخبة لا تستند الى الانساب او الثروة ولكن الى اتقان الثقافة وتقاليد الشعر.
واعتبر الوشاء في مقدمة كتاب الظرفاء الذي حققه الاكاديمي فهمي سعد، ان الظرافة من الخصال الفردية التي يتحلى بها الانسان، ومنها ما يتعلق بالاخلاق الاجتماعية مثل حفظ الجوار والوفاء والانفة من العار وطلب السلامة من الاوزار، ومنها ما يتعلق بوسائل الفرد وعدته من الفصاحة والبلاغة والعفة والنزاهة.
اداب الظرفاء
وضع الوشّاء في كتابه ابوابا لوصف زي الظرفاء في المسرّات ولباس الظريفات من النساء و”زيهم في الشراب الذي يتخيره ذوو الالباب”، والاشياء التي يتطير الظرفاء من اهدائها ويرغبون عنها لشناعة اسمائها، وما قيل في صفة الورد ومحلّه في قلوب ذوي الوجد، وذكر التفاح وما كره الادباء من اكله، وصفة التظرّف ومباينة الظرفاء لذوي التكلف.
ومن بين التقاليد والممارسات المثيرة للاهتمام لدى الظرفاء نقش الابيات الشعرية على مجموعة متنوعة من الامتعة، منها الملابس والخواتم والالات الموسيقية واوعية النبيذ وغيرها، وفي هذه الممارسات لم تتم تلاوة الشعر بالالقاء الصوتي المعتاد وانما بالعرض المادي المنقوش على المواد المختلفة او حتى الاجساد.
ودارت القيم الاجتماعية للظرفاء حول محور معنوي واخر مادي، يشمل حسن الهيئة والاهتمام بالماكل والملبس والسلوك، واشترط الوشاء ان تكتسب هذه الصفات بطريق التمثل الثقافي بلا تكلف او تصنع، مع معرفة باصول الظرف ومعارفه ومنها المروءة والحب.
واعتبر الظرف مثالا على الازدهار الفكري الذي وسم العصر العباسي وبغداد، ودليلا على التعقيد الذي اصاب الحياة العامة بعد انتشار النمط المديني في المجتمع الاسلامي، بحسب محقق كتاب الوشّاء.
وعلى الرغم من ان البلاط العباسي بدا وكانه مقر الظرفاء، فان “اداب الظرف” لم تكن تُمارس فيه فقط بل اصبحت نموذجا يرغب العديد من الناس في الاقتداء به ولا سيما الشباب، حيث روي عن محمد بن سيرين قوله “الظرف مشتق من الفطنة”.
وانتشرت تقاليد الظرفاء في انحاء العالم الاسلامي من وسط اسيا الى الاندلس تاثرا بالثقافة العباسية السائدة، واعتبرت البلاغة والبراعة اساسا لسلوك الظرف الذي ارتبط طويلا بالخطابة والحوار، فيما عرف الظرفاء ببراعتهم في التعبير عن النفس شعرا وبسرعة البديهة.
نقوش العشاق
عرف الظرفاء نقش الابيات الشعرية على اكمام ملابسهم او جوانبها والاحذية والفواكه مثل التفاح والبطيخ والاكواب والالات الموسيقية والابواب والشرفات والجدران والوجوه والخدود والجباه وحتى الاقدام، بحسب العديد من الامثلة التي نقلها الوشّاء في كتابه.
وتتناول العديد من القصائد موضوع الحب العفيف الذي كان من تقاليد الظرفاء، اذ يصوّر الشاعر نفسه في حالة من الضعف والهشاشة المرتبطة بتجاهل المحبوب ويقضي ايامه مهموما متمنيا الوحدة والنسيان دون فائدة.
وسجل الوشاء عددا كبيرا من هذه النقوش وقصصها، ومنها “معركة غرامية” بين عشيقين هما: الوزير العباسي محمد بن عبد الملك الزيات وجارية غير معروفة كان يحبها ثم تنكر لها، فكتبت على خاتم لفظا تعاتبه فيه، فـ”بلغه ذلك وكتب على خاتمه ضد ما كتبت، فبلغها فمحت ما كان على خاتمها وكتبت ضد ما كتب، فبلغه ذلك فمحا ما كان على خاتمه وكتب ضد ذلك في ابيات”، يقول فيها:
كتبت على فص لخاتمها: من مل احبابه رقدا
فكتبت في فصي ليبلغها: من نام لم يشعر بمن سهدا
فمحته واكتتبت ليبلغني: ما نام من يهوى ولا هجدا
فمحوته ثم اكتتبت: انا والله اول ميت كمدا
قالت: يعارضني بخاتمه والله لا كلمته ابدا
وتناول الوشّاء في موضع اخر من الكتاب قصة ابيات نقشت على منديل معطر بالمسك ارسلته “ظريفة” الى حبيبها، وكتبت عليه:
انا مبعوثٌ اليك اُنسُ مَولاتي لديك
صنعتني بيديها فامسح بي شفتيك
واعتبرت تقاليد “الظرف” نوعا من الفن الاسلامي المادي المقابل للفن الاسلامي المعنوي الذي اشتهر به “الصوفية”.
ومثل منديل العاشقة، ارسل ظريف منديلا اخر لمحبوبته وكتب عليه:
انا منديل محبٍّ لم يزل ناشفا بي من دموعِ مقلتيه
ثم اهداني الى محبوبة تمسحُ القهوةَ بي من شفتيه
ابواب
اعتبر كلا المنديلين وسيلة تواصل بين الظرفاء العشّاق، واكتسب شخصية بحمله الرسالة، فهو يذكر بالحبيب ويلامس المحبوب ويحمل دموع المحب المعذب بلطف وخفة و”ظرف”.
وخصص الوشّاء ابوابا لما “اختير من الفاظ الادباء في المكاتبات وما استحسن من الظرفاء من مليح المعاتبات”، وما كتبوه على العنوانات وسلكوا به سبيل المداعبات، وما ينقشه اهل الهوى، وما وجد على التفاح من الالفاظ الملاح، اضافة الى ابواب حول مودة الصديق وشرائع المروءة وفضل الصدق وقبح خلف المواعيد وافشاء السر، وقواعد التعطر والتطيب والطعام.
واعتبرت تقاليد نقش الشعر على المحامل المادية كما عرفها الظرفاء في بغداد في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين تجربة شعرية فريدة من نوعها تختلف عن الالقاء الشعري التقليدي والقراءة او التلاوة الصامتة، وتتفاعل مع ما كتبت عليه وتكتسب منه السياق، وحفظت بفضل بقائها على محامل مادية خلافا للمعتاد من تداول الشعر بطريق الالقاء الشفهي.الظرفاء والظريفات.. مجتمع العصر العباسي الذي اثر الشعر المنقوش على المقروء