عندما-التقى-بيبرس-والمغول-وجها-لوجه

عندما التقى بيبرس والمغول وجها لوجه!

اخبار اليوم الصحيفة, عندما التقى بيبرس اخبار اليوم الصحيفة, عندما التقى بيبرس

كانت هزيمة المغول التي وقعت لهم امام المماليك في “عين جالوت” في رمضان سنة 658هـ/ (اغسطس/اب) 1260م، وترتّب عليها مقتل الالاف منهم لاول مرة منذ خروجهم من منغوليا قبل ثلاثين عاما تقريبا، وجلائهم عن الشام، واعادة تموضع المماليك في هذه المناطق المحررة، كان لها وقع شديد في نفس المغول طوال نصف القرن التالي على تلك الهزيمة.
فقد استقر المغول في العراق بعد اسقاطهم الخلافة العباسية، وانشاوا لهم دولة قوية كانت على تنافس شديد وخطير مع المماليك، وحتى يتجنّب المغول تلك الهزيمة المذلة مرة اخرى عضّدوا هذه المرة من تحالفهم مع الصليبيين في الشام، والارمن في جنوب غرب الاناضول، وهو التحالف الذي قابله بيبرس بذكاء سياسي حيث اعلن تحالفه هو الاخر مع مغول القبيلة الذهبية “القفجاق” في شمال بحر قزوين، وكانوا المنافس الابرز لمغول فارس برغم علاقة النسب، ويرجع هذا التنافس الى اعتناق مغول “القفجاق” او القبيلة الذهبية للاسلام بتاييد قوي من السلطان الظاهر بيبرس.
معركة حمص الاولى
لذا، وفي ظل هذه العداوة بين الفريقين، وواقع التحالفات الاقليمية وقتها، كان اول هجوم خاطف قام به المغول على المماليك في بدايات حكم بيبرس[1] في سنة 659هـ/1261م، وقد تزامن هذا الهجوم مع تمرد داخلي قام به الامير سنجر الحلبي في دمشق ثم الامير اقوش البُرلي في حلب، وكان هذا الاخير يناوئ بيبرس في الباطن، ويرغب في الاستقلال والزعامة، مما ادى الى سهولة دخول المغول في الاراضي المملوكية دونما مقاومة تُذكر، بل استطاعوا ان يسيطروا على بلاد الشمال وقاعدتها حلب ثم حماة(1).
لم يجد السلطان بيبرس امام هذا التقاعس الخطير، وامام الزحف المغولي الا المصالحة مع الامير سنجر الحلبي، وكان تصالحا مؤقتا املته الضرورة[2]، ثم امرَ كلا من نائب حماة الملك المنصور الايوبي ونائب حمص الملك الاشرف موسى الايوبي ونائب حلب الجديد مواجهة هذا الغزو المغولي، وبالفعل التقى الفريقان في يوم الجمعة الخامس من محرم سنة 659هـ/ (ديسمبر/كانون الاول) 1260م، وكانت القوات المغولية تفوق القوات المملوكية، اذ بلغت ستة الاف مقاتل بينما القوات المملوكية الف واربعمئة فقط.
ولاحقا جاءت قوات من القبائل العربية بقيادة امير العرب زامل بن علي داعمة للمماليك، والتقى الفريقان خارج مدينة حمص بالقرب من قبر الصحابي الجليل خالد بن الوليد رضي الله عنه، وكان النصر حليف المسلمين، وقُتل من المغول المئات، ولاذ قائدهم بيدرا بالفرار مع نفر يسير من قواته[3]. حيث اعتبر المؤرخ بدر الدين العيني هذه المعركة اشد اهمية من معركة عين جالوت “لكثرة التتار وقلة المسلمين”[4]، وبرغم اهمية النصر في هذه المعركة تظل موقعة عين جالوت اشدّ اهمية على المستوى الاستراتيجي والعسكري.
نتائج المعركة
وامر بيبرس باحراق المروج التي كان من عادة هولاكو النزول فيها، وامر كذلك عقب هذه المعركة ان تُعمّر القلاع العسكرية التي اخربها المغول مثل قلعة دمشق وعجلون وصرخد وبُصرى وحمص، فعُمّرت كلها وزوّدت بالمؤن والعتاد والقوات العسكرية اللازمة، وهذا يعني انه اقام خطا دفاعيا محصّنا من شرق الاردن حتى نهر العاصي[5].
وقد استفاد بيبرس من تحالفه مع مغول القفجاق ضد مغول فارس وهم ابناء عمومة، حيث يرجع نسب كليهما الى جنكيز خان مؤسس الامبراطورية المغولية، فاستغل اعلان اسلام بركة خان زعيم القفجاق وارسل اليه برسالة يُعلمه فيها ان من مقتضيات الاسلام جهاد الكفار، فهو ذروة سنام الاسلام، يغريه بذلك على مواجهة ابن عمه هولاكو، وبالفعل حدثت صدامات بين مغول القفجاق ومغول فارس ادت الى انشغال مغول فارس “الايلخانيين” بهذه الخلافات بعض الوقت عن المماليك، كما ادت الى نشوء ظاهرة الهجرة او ما عُرف باسم الوافدية الذين وفدوا من المشرق وانضووا تحت القوة المملوكية، وظهر منهم فيما بعد سلاطين من المغول على راس الدولة المملوكية مثل السلطان العادل كتبُغا الذي كان مغولي الجنسية[6].
ولم يتوقف مغول فارس والعراق عن الاغارة على الدولة المملوكية بالرغم من الهزيمة الثقيلة في حمص، ولطالما كانت قلعة البيرة الواقعة على نهر الفرات تمثّل الحدود الفاصلة بين الجانبين، لذا لما وصل الى بيبرس ان المغول اغاروا على البيرة في سنة 663هـ/1265م وحاصروها ونصبوا عليها المجانيق، ارسل جيشا مملوكيا بقيادة الامير عز الدين ايفان الملقب بسم الموت، ولما علم التتار بقرب مجيء الدعم المملوكي لقلعة البيرة ولّوا هاربين(6).
لقد حرص بيبرس على تدعيم وتقوية قلعة البيرة بالتحديد، فارسل اليها الكثير من الات الحرب والقتال والدفاع والمؤن ما يكفيها لمدة عشـر سنوات كاملة، وامر نائبه على حماة ان يُخلي خندق قلعة البيرة من الحجارة التي ردمها بها المغول[7].
“اباقا” يهاجم من جديد
لما علم بيبرس ان خان المغول اباقا جاء بقواته الى بغداد سنة 672هـ/1274م وكان في دمشق، ارسل الى القوات المملوكية في القاهرة على وجه السـرعة، لكن اباقا عاد ادراجه في بلاد فارس (مواقع التواصل)
لم يتهاون المغول في هجومهم المستمر على المماليك بالرغم من وفاة هولاكو سنة 663هـ، فقد سار ابنه اباقا على سياسة ابيه، اذ عادى المماليك وتقرّب من الصليبيين بالزواج من ابنة امبراطور القسطنطينية، وارسل الى باباوات روما عدة رسائل لتجهيز حملة عسكرية مشتركة لمواجهة المماليك، لكنها لم تثمر عن شيء بسبب هجوم بيبرس الموازي على الامارات الصليبية في الساحل الشامي والفلسطيني(8).
وبناء على ذلك اعلن المغول عن رغبتهم في عقد صلح مؤقت مع المماليك، لكن بسبب الرسالة غير اللائقة التي
ارسلها خان المغول الى السلطان بيبرس، واستغلالا لحالة الضعف الذي لمسه بيبرس في المغول في تلك الاثناء فقد رفض الرسالة، ورد عليها بقوله: “اعلموه اني وراءه بالمطالبة، ولا ازال حتى انتزع من يده جميع البلاد التي استحوذ عليها من بلاد الخليفة وسائر اقطار الارض”[8]، يلمح بذلك الى ان استرداد العراق هو هدف المماليك التالي.
في المقابل اتفق المغول مع الصليبيين على القيام بحملة مشتركة سنة 668هـ/1270م على بلاد الشام، وسرعان ما ارسل بيبرس زميله السابق الامير المحنّك علاء الدين البندقدار لرد عادية هذه الغارة، ثم تبعه شخصيا بجيش اخر فلم يلبث المغول الا ان ولوا هاربين[9].
وفي سنة 670هـ اعاد المغول الهجوم على مناطق شمال غرب الشام مثل حارم وعين تاب، فارسل بيبرس وكان في دمشق يستدعي حاكم دمشق الامير بدر الدين بيسرى الشمسي وثلاثة الاف من الفرسان لطرد المغول، ثم سار بنفسه على راس قوة عسكرية صوب حلب، وكانت خطته تتمثل في الهجوم بدلا من الدفاع، فيستولي على مدن استراتيجية في طريق المغول من العراق الى الشام هي مرعش وحرّان والرها، وبالرغم من استيلاء قواته على حرّان بالفعل لكن عودة القوات بقيادة بيبرس الى مصر فتح الطريق امام المغول لهدم اسوار مدينة حرّان[10].
وبالرغم من الصلح المؤقت الذي ابرمه المغول مع المماليك سنة 670هـ/1272م فانهم في العام التالي ساروا من بغداد -وكانت مستقرا لهم منذ استيلائهم عليها سنة 656هـ- باتجاه الرحبة في الشمال الشـرقي قاصدين السيطرة على قلعة البيرة الاستراتيجية التي مثّلت لهم عقدة عسكرية مملوكية خطيرة، لذا توجّه بيبرس بنفسه على راس جيش كبير، ومعه عدد من المراكب التي اخذها من بحيرة بالقرب من حمص وحملها على الجمال، ولما وصل الى البيرة راى المغول على الجانب الاخر، فامر باقامة جسر من هذه المراكب ليتمكن من العبور الى الجانب الاخر، وفي اثناء ذلك كانت المناوشات بين الجانبين جارية بالسهام والنّشاب وغيره، وتمكن الظاهر بيبرس وجنوده من العبور، وسرعان ما هرب المغول من امامه تاركين جميع ما كان معهم من العُدد والمجانيق، وكافا بيبرس والي قلعة البيرة لشجاعته وصموده امام المغول[11].
ولما علم بيبرس ان خان المغول اباقا جاء بقواته الى بغداد سنة 672هـ/1274م وكان في دمشق، ارسل الى القوات المملوكية في القاهرة على وجه السـرعة، لكن اباقا عاد ادراجه في بلاد فارس، فعادت الجيوش المملوكية الى مصر، الامر الذي نفهم منه قوة جهاز المخابرات المملوكي الذي كان يمد السلطان بيبرس بكافة التحركات في الاراضي العراقية المحتلة من قبل المغول.
في تقريرنا القادم سنقف مع المعركة الفاصلة التي وقعت بين المماليك من ناحية وتحالف المغول وسلاجقة الروم من ناحية اخرى، تلك المعركة التي كانت مذلة للغاية للمغول، وكسرت شوكتهم فيما تبقى من عصر السلطان الظاهر ركن الدين بيبرس.عندما التقى بيبرس والمغول وجها لوجه!

Scroll to Top