اخبار اليوم الصحيفة, دماء لاجل السلطة.. اخبار اليوم الصحيفة, دماء لاجل السلطة..
كانت ولا تزال حكمة العرب القائلة: “الملك عقيم” صالحة لكل زمان ومكان، صالحة لتفسير سلوك السلطة وافرادها تجاه المجتمع بل واتجاه بعض اجنحة السلطة الاخرى التي قد تسبب قلقا للسلطان والزعيم في الانفراد بالحكم والسلطان، فالملك عقيم يعني ان الا يُنازع الملك/الزعيم في عرشه احد حتى ولو كان ذلك الاحد اخاه او اباه، وفي التاريخ امثلة على هذه النماذج المتكررة في كل زمن.
ليس التاريخ فقط، بل الواقع العربي الحالي خير مثال على تلك العبارة، فرؤساء العرب في تقاتل مستمر وتصارع ازلي وتدافع عقيم لا ينتهي، ومثلما يتصارع اليوم الخليج مع بعضه بعضا، وتقف السعودية في مقابل اليمن، وتتصارع مصر مع جاراتها، وتشتعل الشام بالمعارك، بينما تقف جيوش الغرب منتصرة، كانت دولة الايوبيين كذلك.
فنموذج صراع العائلة الايوبية على العرش والنفوذ في مصر والشام كانت له اثاره الوخيمة التي اعادت الروح والقوة للصليبيين مرة اخرى بعدما كان قد قضى على جزء كبير من قوتهم السلطان الكبير صلاح الدين الايوبي، حين استرد مدن الشام وبيت المقدس على الراس منها.
كانت وفاة السلطان صلاح الدين يوسف بن ايوب سنة 589هـ/1193م بداية لصراع طويل بين خلفائه من الاسرة الايوبية على الحكم والسلطان، وكانت البداية بين ابنيه الافضل علي والعزيز عثمان، وسرعان ما استغل عمهما العادل ابو بكر بن ايوب هذا الخلاف وقلة خبرتهما السياسية ليسيطر على مقاليد الاوضاع في الجزيرة الفراتية والشام ومصر، وكانت وفاة السلطان العادل سنة 615هـ/1218م تجديدا لذات الماساة بين اولاده، خاصة الثلاثي المعظّم عيسى في الشام الجنوبي والاشرف موسى في الشام الشمالي والكامل محمد في مصر.
وكان الاخوة الثلاثة قد قُسّمت الدولة الايوبية بينهم، ورغم ذلك ظل الخلاف على اشده فيما بينهم، تارة يتحد الاخوان الاشرف والمعظّم على الكامل وتارة العكس، وتارة يستعين احدهم بقوات الدولة الخوارزمية التي كانت بمنزلة قوات مرتزقة في تلك الفترة بعد انحلال دولتهم في الجزيرة الفراتية وديار بكر، وتارة ثالثة ودون خجل يستعينون ببقايا قوات الصليبيين في الشام، ولم يكفهم انهم ابتلوا بالحملة الصليبية الخامسة على الشام ومصر، وحصار دمياط وموقعة المنصورة التي كادت ان تسقط فيها الدولة سنة 615هـ.
الصراع على العرش
ظل الاخوة الاعداء على هذا الحال الى ان تُوفي المعظّم عيسى سنة 624هـ، ثم وفاة الاشرف موسى سنة 635هـ صاحب البلاد الجزرية في شمال شرقي الشام والعراق وبعض بلاد الاكراد والكامل محمد صاحب مصر وفلسطين في العام نفسه سنة 635هـ.
يقول المؤرخ مصطفى بدر: “لو انعمنا النظر في تاريخ الدول الايوبية لوجدنا ان حروبا كثيرة كانت تقوم بين افراد البيت الايوبي، وكان من نتائج هذه الحروب ان بعض افراد هذه البيوت الحاكمة كان يمد نفوذه احيانا على املاك البعض الاخر، ومثل ذلك ما حدث حين استولى الاشرف مظفر الدين موسى صاحب البلاد الجزرية (شمال شرق الشام وشمال غرب العراق وبعض مناطق جنوب تركيا) على دمشق سنة 626هـ، ومثل ما حدث بعد ذلك حين مد الكامل صاحب مصر سلطانه على دمشق سنة 635هـ، وتبعه في ذلك العادل الثاني في نفس السنة ثم الصالح ايوب سنة 637هـ وسنة 643هـ بعد ان كان الصالح اسماعيل صاحبها قد استرد نفوذه فيها (637 – 643هـ)”[1]. هذا بخلاف اختلاف صغار الامراء من اصحاب المدن الواحدة او القلاع القليلة. هذا النزاع الداخلي الذي استمر ما يزيد على 50 عاما كاملة بعد وفاة صلاح الدين الايوبي سنة 589هـ ادى الى نتائج خطيرة على الصعيدين السياسي والعسكري.
حيث “تخلّى الايوبيون عن دورهم التاريخي في التصدي للصليبيين، واثروا الالتزام بسياسة المهادنة حتى يتفرغوا لمنازعهم الداخلية، ومن ثم فان دولتهم التي جاءت استجابة ناجحة للتحدي الذي فرضه العدوان الصليبي على المنطقة -لان مؤسس الدولة صلاح الدين التزم بسياسة الجهاد والهجوم على الصليبيين- هذه الدولة فقدت مبررات وجودها منذ اخذ ملوك بني ايوب وسلاطينهم يعزفون عن الهجوم ضد الصليبيين، ولجاوا الى سياسة المهادنة والتعايش السلمي، ومن الامور اللافتة للنظر في هذا السبيل ان الحروب التي خاضها الايوبيون ضد الصليبيين كانت معظمها حروبا دفاعية تاتي كرد فعل للهجمات او الحملات التي شنّها الصليبيون ضد المسلمين في مصر والشام، وفي خضم احداث الحملة الصليبية السابعة برزت قوة جديدة اثبتت قدرتها على التصدي للصليبيين وتزعّم المنطقة العربية الاسلامية في مواجهتهم – تلك هي قوة المماليك”[2].
تحالفات الاخوة الاعداء
كان ظهور الامير محمد بن السلطان العادل الملقب بالكامل قد بدا منذ مجيء الحملة الصليبية الخامسة على مصر، فمنذ وصول الصليبيين الى الجهة الغربية من دمياط في شهر صفر سنة 615هـ/مايو/ايار 1218م، واستطاعوا في بادئ الامر وبسبب انسحاب الكامل جنوبا احتلال مدينة دمياط بسهولة، على ان امدادات المعظّم عيسى والاشرف موسى لاخيهم الكامل محمد، واعادة تموضع الكامل وجنوده بالقرب من مدينة المنصورة على النيل رفع معنويات الجيش، والحق الهزيمة بالصليبيين فوقّعوا اتفاقية مصالحة تم بموجبها انسحابهم من مصر سنة 618هـ/1221م[3].
واللافت ان الكامل في اثناء ذلك الصراع، وقبيل معركة المنصورة، كان قد ارسل الى الصليبيين عرضا سخيا للغاية وهو “تسليم بيت المقدس وعسقلان وطبرية وجبلة واللاذقية في مقابل تسليمهم دمياط والخروج من مصر، ولكنّ الصليبيين لم يرضوا بهذا بل طلبوا زيادة على ذلك تسليم حصن الكَرك وثلاثمائة الف دينار تعويضا عن تخريب (ممتلكاتهم) في بيت المقدس”[4]، وكان طمع الصليبيين ورفضهم القاطع لحسن الحظّ سببا في اعادة بثّ روح المقاومة والقتال والمواجهة!
كان الكامل الابن الاكبر هو الذي تولى حكم مصر بعد وفاة والده السلطان العادل ابي بكر بن ايوب اخو السلطان صلاح الدين، وما لبث الكامل ان دانت له البلاد، حتى انّ المؤرخ ابن خلّكان (ت681هـ) يقول: “اتسعت المملكة للملك الكامل. ولقد حكى لي من حضر الخطبة بمكة -شرفها الله تعالى- انه لما وصل الخطيب الى الدعاء للملك الكامل قال: صاحب مكة وعبيدها، واليمن وزبيدها، ومصر وصعيدها، والجزيرة ووليدها، سلطان القبلتين، وربّ العلامتين، خادم الحرمين الشريفين، ابو المعالي محمد الملك الكامل ناصر الدين خليل امير المؤمنين”[5].
لكن غلبت اللعبة السياسة على تفكير الكامل ولبّه، حيث كان ينتهز الفرص لفرض سيطرته على البلاد كلما ضعف طرف من اطراف البيت الايوبي في الشام والجزيرة، فرغم انه كان الاقوى بحكم سلطانه على مصر والحرمين، لكنه دائما ما تطلع الى الشام والسيطرة عليها.
و”اضحى للملك الكامل من النفوذ والسلطان ما جعله يفرض على امراء الشام بان يلتزموا الهدوء والسكينة، ولم يخرج عن طاعته الا الملك المعظّم صاحب دمشق، الذي سعى سنة 1225م/622هـ بعد ان نجح الملك الكامل في عزله عن سائر الامراء الايوبيين الى اتخاذ حليف من خارج البيت الايوبي، فاتصل بخوارزم شاه الذي اصبحت املاكه تجاور املاك الايوبيين، بل انه عمد الى الاغارة على بلاد الجزيرة ونهبها، والواقع ان احد امراء البيت الايوبي هو الذي استقدم الخوارزمية لمساعدته”[6].
وكانت الدولة الخوارزمية التي قامت على انقاض دولة السلاجقة في ايران والعراق قد بلغت من القوة مبلغا كان الايوبيون معه يحسبون لها حسابا، ولذلك ومنذ ذلك التاريخ في سنة 622هـ وحتى وصول الحملة الصليبية السادسة بقيادة الامبراطور الالماني فردريك سنة 626هـ/1229م كان الصراع الايوبي يدور في اطار من الضغط الخوارزمي على الشام وفلسطين، وكانت “خطورة هذا الصراع تكمن في التجاء كل من الطرفين المتنازعين الى الاستعانة بالقوى الخارجية، فلجا المعظّم عيسى صاحب دمشق الى جلال الدين منكبرتي سلطان الدولة الخوارزمية واتفق معه ضد شقيقيه الاشرف والكامل. اما الملك الكامل فقد راسلَ الامبراطور الالماني فردريك الثاني هوهنشتاوفن، وارسل له مبعوثا من طرفه هو الامير فخر الدين عثمان”[7].
ولم يكن غريبا ان يستعين الكامل بالامبراطور الالماني تحديدا، فهذا الامبراطور كان مولودا في صقلية ومتاثرا بالثقافة الاسلامية بها، بل كانت قواته وحاشيته في غالبها من المسلمين، لذا راى السلطان الايوبي في التحالف معه فرصة لا تُفوّت خاصة وان التحالف المقابل كان قويا يهدد عرش الكامل محمد في مصر، وراى ان تسليم القدس للسلطان الالماني سيكون مغريا لقبوله التحالف معه ضد اخويه في الشام، يقول المؤرخ ابن العميد: “كتب الملك الكامل الى الانبرور ملك الالمان بان يحضر الى الشام والساحل ويُعطيه البيت المقدّس وجميع فتوح صلاح الدين بالساحل”[8]!
ويُسجّل عبد الرحمن بن ابي شامة (ت665هـ) في كتابه “الذيل على الروضتين” ان الحلف الذي عقده الكامل والامبراطور الالماني اثمر بدوره ارسال فردريك سفيرا من ناحيته للمعظّم عيسى ملك الشام يهدده و”يطلب منه البلاد التي كان فتحها عمّه صلاح الدين رحمه الله، فاغلظ له القول وقال: قل لصاحبك ما له عندي الا السيف”[9].
وكما يحدث الان من تطبيع واستعانة حكام العرب بالقوى الغربية، كذلك ادى الصراع والطمع على السلطة الى استعانة الاخوة باعدائهم الاقليميين ضد بعضهم البعض، ففي زمن صلاح الدين كان الصليبيون هم العدو الطبيعي والتقليدي في العقل الجمعي للجماهير، وبسبب السياسة والمصالح الشخصية استعان سلطان مصر بالصليبيين ليكونوا عونا له على اخوته، وفي تقريرنا القادم سنرى كيف تم تسليم بيت المقدس على طبق من ذهب للامبراطور الالماني بلا مقاومة او نقطة دم واحدة في سبيل الحفاظ على العرش!دماء لاجل السلطة.. حينما ضحّى الايوبيون باقربائهم سعيا للعرش