التاويل-الحداثي-للتراث-الاسلامي.-كيف-خلعوه-عن-سياقه؟

التاويل الحداثي للتراث الاسلامي.. كيف خلعوه عن سياقه؟

اخبار اليوم الصحيفة, التاويل الحداثي للتراث اخبار اليوم الصحيفة, التاويل الحداثي للتراث

في اعقاب الحادي عشر من سبتمبر/ايلول 2001، بدا نوع جديد من الخطاب الفكري في الانتشار داخل الاوساط العربية، متبنيا لغة جديدة في قراءة وتفسير التراث الاسلامي، تستورد مصادرها الفكرية من المكتبة الحداثية الغربية وتُصدّرها الى القارئ العربي، وهو ما اصطلح عليه الباحث السعودي ابراهيم السكران بـ “التاويل الحداثي للتراث”، والذي يعرّفه على انه اعادة انتاج للخطاب الاستشراقي الذي يتعامل مع التراث الاسلامي بادوات العلوم الاجتماعية -لا العلوم الشرعية- فيحاكمه بقوانين لا تصلح له.
وان هذا الخطاب الذي بدا في الغرب كاستكشاف للعالم الاسلامي تبعه تشكيك في ثوابته، قد تم استجلابه للشرق على ايدي مفكرين شرقيين استلهموا التاويل الغربي الحداثي للموروث العلمي الاسلامي، فخلعوه عن سياقه وعاملوه بادوات لا تناسبه[1].
وهو يستشهد في اطروحته بالعديد من تلك التاويلات الحداثية، كقول المفكر المغربي محمد عابد الجابري، على سبيل المثال، ان الموروث الاسلامي الخالص -الحديث- مخترق من قِبل القيم الكسروية[2]، وهو في هذا ينقل عن المستشرقين من امثال “جولدزيهر” الذي يرى الامر ذاته[3] بلا اي دليل موضوعي سوى الخيال التحليلي حسب قول السكران، والذي تتناول السطور التالية عرضا لاطروحته المركزية في ذلك الشان عن “التاويل الحداثي للتراث”.
وفي هذا السياق يقول السكران ايضا، في موضع اخر، ان “عشية وداع التسعينيات حفل الداخل الاسلامي من خلال مطبوعاته وندواته الخاصة بنقاش غزير ومعالجات متنوعة حول الحاجة الى التجديد ومشروعية المراجعة”، تلك التجديدات التي صارت تتبنى “مواقف علمانية صريحة وتمارس التحييد العلمي لدور النص في الحياة العامة.. واللمز في مرويات السنة ومصادرها ذات الوزن التاريخي واعتبارها مصدر التشوش الاجتماعي المعاصر”[1].
لكن، قبل تناول تلك الظاهرة الاستشراقية من الداخل العربي/الاسلامي، ما الاستشراق من الاصل؟ وما روافده وتقنياته، وكيف وجد سبيله الى الداخل الشرقي من خلال باحثين ومفكرين من بني جلدته اعتمدوا في دراسة التراث تقنيات استشراقية حداثية لا تقنياته الاصولية؟
الاستشراق
بتقديرات متباينة، يختلف الباحثون في التاريخ الفعلي لبداية الاستشراق، فيرى البعض انه بدا مع بدايات الاحتكاك الثقافي بين المسلمين والاوروبيين في الاندلس حينما ارتحل الطرف الثاني الى بلاد الاول لنقل ثقافته، مما استتبعه تعلم العربية ومن بعدها سهل اقتحام التراث، ومن اوائل هؤلاء الرهبان الراهب الفرنسي جربرت الذي انتُخب “بابا” لكنيسة روما عام 999م، بعد تعلّمه في معاهد الاندلس وعودته الى بلاده، وبطرس المحترم (992 – 1156)، وجيرار دي كريمون (1114 – 1187)[4].
بينما يرى البعض الاخر ان بداية الاستشراق الاوروبي كانت في القرن الثالث عشر الميلادي؛ حيث صدر قرار مجمع “فيينا” الكنسي عام 1239م بانشاء عدد من كراسي اللغة العربية في عدد من الجامعات الاوروبية. ومن الباحثين من يذهب الى القول بانه بدا في القرن العاشر الميلادي. بينما يذهب البعض الى انه بدا في القرن الثاني عشر الميلادي؛ حيث تمت فيه ترجمة القران الى اللاتينية لاول مرة عام 1143م بتوجيه الاب فيزابل، وفي هذا القرن ايضا اُلّف اول قاموس لاتيني عربي. ويرى البعض انه بدا في مطلع القرن الحادي عشر الميلادي[5].
لكن، في مقال بالغ الشهرة، يرى الباحث العربي انور عبد الملك ان “الازدهار الحقيقي للدراسات الشرقية في القطاعين الرئيسيين اللذين هما الشرق الاقصى والعالم العربي يعود تاريخه بالدرجة الاولى الى عصر التمركز الاستعماري، وبشكل خاص الى السيطرة الاوروبية على “القارات المنسية” في اواسط القرن التاسع عشر، ثم في ثلثه الاخير”[6].
والاستشراق، كما هو واضح من اشتقاق الكلمة، اهتمام الغرب بدراسة الشرق وتراثهم، ويرى المفكر الفلسطيني ادوارد سعيد، في واحد من اشهر البحوث النقدية عن الاستشراق، انه “اسلوب من الفكر قائم على تمييز انطولوجي (وجودي) وابستمولوجي (معرفي) بين الشرق والغرب.. وهو اسلوب غربي للسيطرة على الشرق واستبنائه وامتلاك السيادة عليه”[7].
بينما يرى المستشرقون انفسهم ان الاستشراق تم بدافع الفضول المعرفي للشعوب الاخرى، فيذهب مكسيم رودنسون الى ان الاستشراق كان يُعبّر عن الرغبة “في توسيع الفلسفة الانسية (هيومانيزم) لعصر النهضة، ففي نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، ارادوا ان يضيفوا الى الحضارات النموذجية الكلاسيكية التي تستلهمها اوروبا حضارات اخرى”[8].
وبالنظر الى الحقبة الزمنية التي يحددها رودنسون فاننا نتحدث عن بدايات الحقبة الاستعمارية الفرنسية-البريطانية للشرق، وبالتالي فان الاستشراق الغربي، حسب رودنسون، ارتبط بالمشروع الاستعماري الفرنسي-البريطاني، ليصبح وجهه الثقافي. لذلك نرى ان مصطلح “استشراق” ظهر لاول مرة في قاموس الاكاديمية الفرنسية عام (1838م)، وظهرت كلمة “مستشرق” باللغة الانجليزية نحو عام 1779م.
وانطلاقا من مبدا الهيمنة والوصاية التي نشا في ظلها الاستشراق، كانت مهمة المستشرق الاوروبي تكمن في “حجب الخطابات الشرقية ذاتها واحلال خطاباتهم محلها، فهي وحدها المكلفة بتقديم صورة عن الشرق”[8]. الا ان رودنسون يقترح التخلي عن استخدام مصطلحي “استشراق” و”مستشرقين” بعد ان اصبحا -حسب رايه- اسطوريين، وان يتم استبدالهما بالدراسات العالمة او العلمية المتركزة حول تاريخ مجتمعات الشعوب المتموضعة شرقي اوروبا، لكن السكران[9] لا يرضى بذلك الاقتراح، اذ انه يرى الاستشراق لا يزال حيًّا بتقنياته في افكار المدارس الحداثية العربية، والتي تتبنّى تاويل التراث بادوات فكرية حداثية تختلف تماما عن علوم الاسلام الاصولية التي تختص بهذا الشان.
بين الفيلولوجيا والتاويل
في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، وتحديدا في اعقاب فتح القسطنطينية، لجا الكثير من علماء بيزنطة الى غرب اوروبا، حاملين معهم منهجية استقرائية للتاريخ، تقوم على تحليل النص واستنباط دلالته التاريخية، فيما عُرِف حينها بالفيلولوجيا، والتي تُعتبر منهجية لدراسة التغيرات اللغوية عبر التاريخ[10]، وهو ما يقابل في العربية مصطلح “فقه اللغة”، الا ان ابراهيم السكران يرى عدم التطابق الحرفي لكلا المصطلحين.
وتبدو الفيلولوجيا كاداة استشراقية تم استعمالها لتفسير التراث، كما يرى المستشرق جولدزيهر، اذ يقول ان “المهمة الرئيسية للمستشرق هي دراسة تاريخ الشعوب الشرقية وثقافتها باداة فيلولوجية سليمة”[11]. ويؤكد ذلك ادوارد سعيد حين يقول: “بلا استثناء تقريبا، كان كل مستشرق يبدا حياته العملية باعتباره باحثا في فقه اللغة (الفيلولوجيا)”[7].
وقد نحا الدارسون بالفعل باداتهم الفيلولوجية الى الكتب المقدسة واقاموا عليها التحليل النصوصي ذاته، محاكمين نصوصها وقصصها كاي نص ادبي اخر، كنقد فلهاوزن وجراف عام 1880م للتوراة[10]، والنقد التوراتي هو “علم يسعى الى تحديد طرق وصول النص الينا، وتحديد قيمته، وفائدته الادبيّة والتاريخيّة واللاهوتيّة. وتشمل نقد النص، والنقد الادبي، والنقد التاريخي، والنقد الداخلي والنقد الخارجي”[12].
الا ان ماكسيم رودنسون يُعلّق على تلك الاستراتيجية الاستشراقية، فيقول: “كان ثمة عيب رئيس وهو الاعتقاد بكلية علم الفيلولوجيا، وكان اختصاصي في اللغة الصينية -مثلا- يعتبر اهلا لان اكتب اعمالا عن الفلسفة الصينية وعلم الفلك الصيني والزراعة الصينية، الخ”[13].
لذا كان خطا التفسير الفيلولوجي الاكبر للتراث، كما يرى عبد الرازق رجب[10]، يكمن في الفارق الاصيل بين تناول القران وتناول الكتب المقدسة من خلال تحليل النصوص؛ لانه يغفل عامل التواتر في النص القراني والتدوين اللحظي له عند تنزله، وهو ما تفتقده الكتب المقدسة بصورتها الحالية، بالاضافة الى افتقاد المستشرقين ملكات اللغة العربية التي هي اعجاز قراني قائم بذاته، على غير الكتب المكتوبة بغير لغاتها الاصلية والمدونة بعد نزولها بقرون، مفتقدة لخاصيتي التواتر والسند المتصل.
فالذين اخضعوا القران للنقد “لم يكونوا على دراية باسرار الاسلوب القراني وبلاغة الفاظه واعجاز معانيه، ويشهد على هذا مُحررو دائرة المعارف الاسلامية حين علّقُوا على ريتشارد بيل صاحب كتاب “ترجمة القران مع اعادة تنظيم السور على اسس نقدية” انّ بيل قد تسرع في اصدار احكامه، ولم يكن مُلِمًّا الالمام الكافي بالصيغ الادبيّة العربيّة وخصوصا البلاغة العربيّة التي لا يزال النص القراني مثلها الاعلى؛ ولذلك لم يكن من تجاهلوه او هاجموه متجنّين عليه”[10].
وينطلق السكران لمساحة اخرى قائلا بان الاستشراق يدرس مستويين في تعامله مع التراث: النص، والتاريخ. ثم يُعلّق على مستوى النص بان المستشرقين “يقراون المعطيات النصية -سواء كانت قرانية/نبوية/شعرية/ادبية، الخ- بادوات المثقف العام ولا يوظفون بشكل منهجي كل المخزون التنظيري في علوم الدلالة في الفكر الغربي (فلسفة اللغة، اللسانيات، النقد الادبي، الهرمنيوظيقيا/التاويل”[9].
وعلى الرغم من هذا، فانهم -كما يرى السكران- لم يوظفوا ادوات التحليل الخاصة تلك في عملهم بشكل كامل؛ معلّلا ذلك بانها فجوة شهيرة في حقل العلوم الانسانية الغربية بين المنظرين في مستوى الادوات المفهومية والباحثين الميدانيين في مستوى الدراسات التطبيقية.
بل ان بعض المستشرقين انفسهم راوا في نظريات التاويل تلك مجرد صيحة مؤقتة عارضة وليست مناهج علمية ومبرهنة ومحكمة جاهزة للتطبيق، كما يذكر ذلك محمد اركون، احمد المفكرين الناقلين عن المذهبية الاستشراقية في التعامل مع التراث، فيقول: “ان المستشرقين، مع بعض الاستثناءات القليلة، يستمرون في تجاهل المكتسبات الايجابية لعلوم الانسان والمجتمع، وعدم الثقة بها، بحجة انها تُمثّل زيًّا او موضة عابرة”[14].
كما يُلاحظ من تلك المنهجية تعامل الاستشراق مع تاريخ علوم التراث (نشاتها وتطورها) وليس تاريخها الموضوعي (مسائلها واحكامها)، وهي المنهجية التي اعتمد عليها الحداثيون العرب في برامجهم لاعادة قراءة التراث والتعامل معه، وفق تقنيتين شهيرتين للاستشراق الفيلولوجي، هما تقنيتا التوفيد والتسييس، مما ادّى الى معارضة التراث بادوات غير التي يُفتَرَض دراسته بها.
فتطبيق اليات فلسفة الحداثة، “كالمنهج التفكيكي، وتجاوز الادوات العلمية التفسيرية هي احدى الخلفيات الْمُصَنِّعَةِ للفكرة الحداثية، ولذلك يفسرون جميع المظاهر السياسية والاجتماعية والدينية سلبا او ايجابا؛ بحسب مسافتها من الحداثة، واخذها بما تمليه التقنيات المعاصرة.. ونزع القداسة عن جميع النصوص دينية كانت او غير دينية، ثم اعمال التسوية بينها، واخضاعها لبعض العمليات اللغوية الشكلية الالية التي تلغي حتى وجود المعنى العلماني في النص، ومن ثم يمكن ان يفسر النص بالشيء ونقيضه، ولا يكون هناك اي تفسير ملزما، باعتبار ان عملية التاويل عملية بشرية يقوم بها القارئ للنص وفق الياته ومعتقداته”[15].
التوفيد بين الاصل والنقل
في تعريفه لتقنيات الاستشراق الفيلولوجي، يرى الباحث ابراهيم السكران ان الغرض الفعلي لهذه المنهجية هي الانتهاء بالحكم على النصوص التراثية، او التطورات التاريخية للتراث، بواحد من حكمين: اما التوفيد، بمعنى استفادة العرب من الحضارات السابقة واقتباس تراثها، واما التسييس الذي يعتبر علوم التراث الاسلامي نتيجة للصراع وليست حصيلة نظر موضوعي حسب دلائل علمية[*].
وتتجلى التقنية الاولى في زعم دومنيكيو غاتسيكي، الذي ينقله عنه نللينو[16]، فيما يختص بالتشريع الاسلامي، وانه يراه اقتباسا عن القانون الروماني، او تعليق نللينو نفسه بوجود تاثير للحضارة الساسانية على الفقه الاسلامي -فقط- لان ابا حنيفة والشافعي وابن حنبل كانوا من العراق.
بل ان البعض يتعدّى ذلك لافتراض التوفيد من البداية، وليس حتى عن استنتاجات خيالية او خاطئة، مثل كارل بروكلمان عندما وجد اختلافا بين شعيرة الصوم في الاسلام عنها في المسيحية، فقال: “ولسنا نعرف حتى الان ما اذا كان محمد قد اقتبس هذه الفريضة عن احدى الفرق الغنوصية ام عن المناويين”[17]. هكذا بدون اي دليل موضوعي واحد.
ولم يتوقف الامر على التشريعات الاسلامية فقط، بل انها تعدت لتوفيد اصول الفقه والحديث النبوي وحتى علوم المعاجم والعروض والعقيدة والغيبيات، واعتبارها جميعا ذات اصول غير اسلامية، حتى وصل الامر ذروته عند جولدزيهر الذي اعتبر مظاهر الزهد والورع في التراث منتحلة من اسفار العهد الجديد، وهو ما رده مستشرقون اخرون مثل رينولد نيكلسون الذي يقول: “دعنا نعالج وجهة النظر القائلة بان اصول الصوفية هي اسلامية بحتة بالدرجة الاولى”[18].
بل “يجري التطرف الاستشراقي الى نهاية المضمار، حتى انه جاء في اشهر كتاب استشراقي على الاطلاق وهو “تاريخ القران” لنولدكه وتلاميذه بان الاسلام كله مجرد فكرة مسيحية متقنعة… والمراد ان المستشرقين نظروا الى “علوم الاسلام” باعتبارها مجرد “عربة توصيل كتب””[9].
ثم، وبالانتقال الى المدرسة العربية، فان عددا من المفكرين في الحقل الاسلامي كانوا قد اعتمدوا تلك الالية في قراءة التراث، لنجد محمد عابد الجابري يقول: “ورثت الثقافة العربية الاسلامية كل علوم المعقول واللامعقول في الثقافات القديمة”[19]، ونقرا كذلك لاحمد امين ان الثقافة اليهودية قد تسربت الى المسلمين فيما يختص بعقيدة اثبات الصفات الالهية[20]، بل ان هشام جعيط يتطرف كثيرا في ذلك حتى يقول ان “التاثيرات المسيحية على القران اهم بكثير من التاثيرات اليهودية”[21].
ويرى ابراهيم السكران ان تقنية التوفيد، بمعنى “تتبع حضور الاخر في الذات واستكشاف اثر الوافد من الثقافات السابقة على الثقافات اللاحقة” هي في اصلها جزء من منظومة الادوات العلمية لتحليل الخطاب، وقد “وظفها المبدعون في التراث الاسلامي بشكل موضوعي رائع، ولكن دون مغالاة ولا تعسف ولا تكلف، بل باعتبارها عاملا ضمن شبكة عوامل مركبة، لا باعتبارها العامل الحاسم، ولا بتكلف رد كل شيء اليها.
فالفارق الاساسي بين توفيد العلماء التراثيين المسلمين قديما وتوفيد المستشرقين -ومن نقلوا عنهم- حديثا، يتجلّى في ان الاول كان يرد العناصر الاجنبية في الخطاب الى مصادرها الاصيلة كعلوم الفلسفة والمنطق في الفلسفة اليونانية، بينما يقوم الثاني برد العلوم الاصيلة التي انتجها الخطاب التراثي الاسلامي الى ثقافات سابقة “بتكلف الربط بين اي تشابهات شكلية عابرة”[9].
بل ان القدماء من علماء المسلمين كانوا يرصدون التوفيد ويفنّدونه عند حدوثه لاظهار الخلاف بين صحيح الاسلام وبينه، فلا يدعون مجالا للاقتباس من الثقافات السابقة باسم الاسلام ويوفدون الغريب عنه الى اهله، فيقول ابن تيمية مثلا في “مجموع الفتاوى”: “ولا ريب انه صار عند كثير من الناس من علم اهل الكتاب، ومن فارس والروم، ما ادخلوه في علم المسلمين ودينهم وهم لا يشعرون، كما دخل كثير من اقوال المشركين من اهل الهند واليونان وغيرهم، والمجوس والفرس والصابئين من اليونان وغيرهم في كثير من المتاخرين، لا سيما في جنس المتفلسفة والمتكلمة”[22].
كما يذكر ابن تيمية ايضا في موضع اخر رصدا لهذا التوفيد، فيقول، نقلا عن الامام الهروي، عن هؤلاء: “اخذوا مخ الفلسفة فلبسوه لحاء السنة”[23]. ويُعلّق السكران على ذلك قائلا ان تلك المقارنة بين التوفيدين: توفيد الاجنبي وتوفيد الاصيل، انما هي مقارنة بين البرهان والدعوى، وتُظهر الفارق بين الرصد القائم على معطيات، والتهمة المرسلة بالخيالات[9].
اما عن التفسير القائل بتاثر القران بالمسيحية او اليهودية فانه يغفل عاملين رئيسيين، اولهما هو وحدة المصدر الالهي الذي اثبته القران نفسه في غير موضع، وان القران، ومن قبله الانجيل والتوراة، وحي من اله واحد، فحتى لو شاب الكتابين السابقين بعض التحريف، فان التشابه بينهما وبين القران سيبقى كبيرا بطبيعة الحال: “شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى? بِهِ نُوحًا وَالَّذِي اَوْحَيْنَا اِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ اِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى? وَعِيسَى? ? اَنْ اَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ”. [الشورى: 13].
اما العامل الثاني فهو ما يشرحه المؤرخ الحضاري توينبي بخصوص تاثر الثقافات الشرقية كلها بالانبياء ورسائلهم، فيقول: “كانت الاديان بمنزلة اوعية لجميع هذه الحضارات، كما ان البقايا المتحجرة، التي لا تزال قائمة من تلك الحضارات البائدة، قد ظلت محفوظة في لحاء ديني”[24].
ويجمع السكران بين العاملين قائلا: “وتبعا لهذين المعطيين، اعني تصادق النبوات في الاصول وتاثر الثقافات بانوار النبوات، فان الامثلة المحدودة للتشابه المفاهيمي بين العلوم الاسلامية وثقافات الامم المختلفة مؤشر على ان تلك الامم تاثرت بنبوات سابقة، بسبب كونها اتصلت بمصدر متقارب المفاهيم”[9].
التسييس وانسنة التراث
ببحث عن محنة ابن حنبل والمعتزلة بعنوان “جدلية الديني والسياسي”، يظهر الكاتب الاردني “فهمي جدعان” باطروحته التي ترفع الاثم التاريخي عن المعتزلة في قضية خلق القران، او تبرئتهم من عارها كما يقول، وكذلك تسيّس محركات المحنة في صورة الصراع السياسي، فيقول: “انني اريد ان انظر في مسالة المحنة لا بما هي قضية كلامية او اعتقادية خالصة، وانما بما هي حالة تبين صيغة العلاقة بين السلطة والطاعة”.
لكن المثير في امر جدعان انه لم يجرِ ضد التيار -على حد تعبيره- هكذا بمفرده ومن بنات افكاره، وانما بدت فكرته تلك استيرادا لافكار المستشرق الالماني فان اس عن المحنة، والذي بلغت اطروحته لجدعان عن طريق تلميذ الاول وصديق الثاني رضوان السيد، ثم بالاتصال المباشر بين جدعان واس عند ابتعاثه لجامعة “توبنجن” عام 1986م[9].
وعلى كل حال، فقد بقي الاقتباس والتاثر بين المستشرقين والمفكرين العرب، لم يبدا بجدعان وحده بطبيعة الحال، ولكن ما تفترق به تقنية جدعان -المنقولة عن فان اس- عن تقنيات التوفيد انها تاخذ التراث الى منحى سياسي بحت، وتضعه في قالب انساني تُفسّر من خلاله الاحداث بنظريات الصراع ومراكز القوى.
ذلك التفسير الحداثي للتراث يتوافق مع الاسس الفلسفية للعلمانية، كما هي عند المسيري وفتحي التريكي[25]، فهي تستبعد اعتبار الدين والاخلاق والايمان محرِّكا للتاريخ، بل تعتبر التاريخ محكوما بدوافع غريزية محضة ذات بعد سياسي مادي، والخطاب الديني والاخلاقي مجرد غطاء فوقي لاخفاء الدوافع الحقيقية للاحداث.
ويرى البعض ان القراءة الحداثية للنص حاولت “قطع الصلة بالتراث مُغَلِّبَةً للعقل على ما سواه من اليات التعامل مع النصوص”[15]، حتى ان عبد المجيد شرفي، احد رواد المدرسة الحداثية، قد صرح باخفاق جميع المحاولات التفسيرية للقران في اطار القداسة[26]، كما صرح الجابري بان العائق الاكبر للعقل العربي امام النهضة يكمن في السلطات الثلاث: سلطة النص، وسلطة السلف، وسلطة القياس[27].
وفي السياق ذاته، كان احمد امين يتحدث عن الدوافع السياسية وراء العلوم الاسلامية بشكل عام، فيقول: “هل للدولة العباسية اثر في تلوين العلوم لونا خاصا لم يكن يتلون به لو نشا في دولة غيرها؟ وهل كان العلماء الذين دوّنوا العلوم متاثرين بانهم تحت ولاية بني العباس؟.. والذي يظهر لي ان العلم تاثر بالدولة العباسية تاثرا كبيرا” بما في ذلك الفقه والنحو واللغة، حسب رؤيته[20].
بل ان الشرفي يرى ان علماء المسلمين من غير العرب “قد سعوا للاشتغال بعلوم الدين الى اكتساب سلطة معنوية تعوضهم عن السلطة السياسية التي حرموا منها”[21]، وهو هنا يتوافق مع الجابري الذي يرى ان اللحظة الحاسمة في التجربتين اليونانية والاوروبية كانت للعلم، في حين انه يستبدلهما في الفكر العربي، فيقول: “اللحظات الحاسمة في تطور الفكر العربي الاسلامي لم يكن يحددها العلم وانما كانت تحددها السياسة”[27].
لكن، وبالنظر في موضوعية تلك الالية في تسييس التراث، تتبدى مجموعة من المفارقات التي تُثبت التعارض الموضوعي بين تحليلات التسييس وبين الحقيقة التاريخية والعلمية. فمثلا، كان جولدزيهر يتهم الامام الزهري باختلاق حديث “لا تشد الرحال الا الى ثلاثة مساجد” ليدعم الموقف السياسي لعبد الملك بن مروان، القابع في الشام، في صراعه السياسي على الخلافة مع عبد الله بن الزبير المتوقع في مكة انذاك.
وبالتحقيق البسيط الى التاريخ -كما فنّد السكران ادعاء جولدزيهر- فان الزهري قد وُلِد عام 51هـ، في حين ان وفاة ابن الزبير كانت عام 73هـ، ثم وفد الزهري على ابن مروان -حسب تاريخ دمشق لابن عساكر- عام 82هـ، اي ان وفود الزهري على الخليفة الاموي لم يحدث الا بعد وفاة ابن الزبير بسبع سنوات كاملة، اي ان الصراع كان قد انتهى واستقرّ الحكم في طرف واحد لم يكن -منطقيا- في حاجة الى اختلاق نصوص تؤازره.
وفي سياق قريب، كان الجابري يربط بين تبني ابن حزم للمذهب الظاهري وبين الصراع السياسي الاموي في قرطبة-العباسي في بغداد، في حين ان الرواية التاريخية تقول بان الاندلس كانت على المذهب المالكي[9]، حيث كان يحيى بن يحيى الليثي تلميذ الامام مالك يمثل اعلى سلطة قضائية من شانها تولية وعزل قضاة الاندلس[29]، بينما كان الاندلسيون قبله على مذهب الاوزاعي[30]، الامر الذي يبرز اشكالية ضخمة في طرح الجابري وتاويله السياسي للحركة الفقهية، اذ كيف ستستخدم الاندلس في صراعها السياسي مع بني العباس مذهب ابنها ابن حزم وهي من الاصل تتبنّى مذهب مالك بصورة رسمية؟!
في النهاية، حسب ما انتهى اليه السكران، يبدو ان التعامل الاستشراقي مع التراث يفتقد في احيان كثيرة للموضوعية، خاصة في استراتيجية التوفيد التي بالغت في الاعتماد على الخيالات، والتي يكثر التصاقها بمستشرقي الغرب اكثر من الداخل العربي الذي يهتم مفكروه بالتحليل السياسي بصورة اكبر “لانه قارئ من الداخل والقارئ الداخلي يفكر بالتفاعلات الداخلية اكثر”[9].
فعلى الرغم من ادعاء المدرسة الحداثية للتجديد في التعامل مع التراث، فانها -حسب الباحث البويسفي محمد- انتجت “فوضى كبيرة في القراءة والتاويل، وغياب المعرفة اليقينية”، كما ادّت “الى فقدان الموضوعية وضياع المعنى الشرعي في القراءة الحداثية”[31].التاويل الحداثي للتراث الاسلامي.. كيف خلعوه عن سياقه؟

Scroll to Top