اخبار اليوم الصحيفة, من اضطهدهم حقًا؟ اخبار اليوم الصحيفة, من اضطهدهم حقًا؟
عندما يتعلق الامر باليهود واليهودية، فالاف الابحاث وملايين الصفحات تعجز عن الاحاطة بتفاصيل القضايا الرئيسة والفرعية، المتصلة بالطائفة الدينية الاكثر اثارة للجدل، وللمواقف المتطرفة – اقصى اليمين واقصى اليسار – في التاريخ.
فيما نملك من مساحة محدودة، سنعقد مقارنة سريعة بين وضع اليهود في الحضارة الغربية، ووضعهم في الحضارة الاسلامية، من منظور قضية الاضطهاد اليهودي المزمن خاصة في العصور الوسطى واوائل الحديثة. خلال تلك المقارنة السريعة، سنعرف يقينًا من المضطهد الحقيقي لتلك الطائفة على مر التاريخ.
اليهود.. امة الشتات الاعظم
تعود اصول الغالبية العظمى من اليهود الى بني اسرائيل الذين تواجدوا في منطقة الشرق الاوسط قرونًا عديدة قبل ميلاد المسيح، خاصة في فلسطين والشام ومصر. بعد قرونٍ من عبور بني اسرائيل البحر مع النبي موسى هربًا من مصر، وفي اوج المجد اليهودي القديم، كان لليهود مملكة قوية موحدة في فلسطين واجزاء كبيرة من الشام، لكن ما لبثت تلك المملكة ان انقسمت الى مملكة اسرائيل شمالًا، ومملكة يهوذا جنوبًا.
تعرض الوجود اليهودي لخطر داهم على يد الغزو الاشوري في القرن الثامن قبل الميلاد، وما صحبه من قتل وسبي الكثير من اليهود، وتمزيق المملكة اليهودية الشمالية، وبداية تشتت اليهود في ارجاء الارض. في القرن السادس قبل الميلاد، كان موعد مملكة يهوذا مع الغزو البابلي المدمر، وما تبعه من مراحل سبي اليهود،
وفيما عرف بالسبي البابلي بعد عشرات السنين، سيامر الملك الفارسي قورش بالسماح لليهود بالعودة الى فلسطين.
في القرن الرابع قبل الميلاد، هزم الاسكندر الاكبر الفرس، واصبحت فلسطين جزءًا من امبراطوريته، والتي رغم تفككها بعد موته، فان الوجود اليهودي ظلَّ تحت الهيمنة اليونانية، وما تخلَّلها من بعض انواع الاضطهاد الثقافي؛ مثل اجبار اليهود على ترجمة التوراة لليونانية، ومنع الشعائر اليهودية مثل: السبت والختان وغيرها، في بعض العصور؛ مما ادى الى اندلاع عدة انتفاضات يهودية، اسفرت عما يشبه الحكم الذاتي لليهود في فلسطين. شهدت الحقبة اليونانية هجرة يهودية معتبرة الى الاسكندرية التي كانت عاصمة حكومة البطالمة اليونانية في مصر.
في العهد الروماني، كانت النهاية لاخر اشكال الاستقلالية اليهودية في فلسطين. عام 67 من الميلاد، غزت الجيوش الرومانية فلسطين بزعامة القائد الروماني فيسباسيان لفرض الحكم الروماني المطلق هناك. تمَّ سحق كل مقاومة لليهود، لتسقط القدس عام 70م. ويتم حصار اخر معاقل الاستقلال اليهودي في فلسطين، قلعة ماسادا الحصينة قرب البحر الميت. يستمر الحصار لاكثر من عامين، ينجح بعدها الرومان عام 73م في اقتحام الماسادا، ليجدوا اكثر من الف يهودي هم حاميتها وقد قتلوا انفسهم بدلًا من الاسر.
منذ عام 73م، وحتى اعلان قيام دولة اسرائيل في ارض فلسطين عام 1948م، يبدا الشتات العظيم لليهود؛ اذ تفرَّقوا جالياتٍ في اصقاع الارض، خاضعين لنفوذ غيرهم من دول ودويلات الشرق والغرب. تبقَّت اعداد من اليهود في ارض فلسطين، خاضعين للاذلال الروماني طوال قرون ستة قبل الفتح الاسلامي، لا سيَّما بعد تحوِّل الرومان الى المسيحية منذ اوائل القرن الرابع.
كذلك سبَّب دعم اليهود للاحتلال الفارسي القصير لفلسطين اوائل القرن السابع الميلادي موجة خاصة من الاضطهاد الروماني. في العصور الاسلامية تمتَّع اليهود بتسامح نسبي على كافة المستويات، تحت حكم مختلف الدول الاسلامية، الا ان الموت القادم من الغرب اتاهم بعد قرون في فلسطين، عندما استولت الحملة الصليبية الاولى على القدس عام
1099م، ايرتكب الصليبيون مذابح مروعة ضد المسلمين واليهود من سكان القدس، التي بلغت الدماء فيها «حد الركب» بتعبير احد القادة الصليبيين. وعمومًا، كان اليهود عرضة لاضطهاد الصليبيين في كل مكان وصلت اليه جيوشهم، ومن وراء ذلك كان الاتهام العتيد لهم بانهم قتلة المسيح.
تاريخ اليهود في الغرب.. ام تاريخ معاداة اليهود؟
اذا اردنا تلخيص تاريخ اليهود في الغرب، خاصة اوروبا، باستثناء النصف الثاني من القرن العشرين، في كلمة واحدة، فستكون هذه الكلمة هي: العداء ضد اليهود، او المصطلح المثير للجدل: «معاداة السامية»، والذي استخدمه للمرة الاولى احد الصحافيين الالمان عام ????م للتعبير عن الاضطهاد المزمن الذي تعرض له اليهود في اوروبا. لا يعنينا هنا مناقشة هذا المصطلح، ولا الاستثمار الانتهازي له من قبل الحركة الصهيونية، واللوبيات اليهودية القوية حول العالم، انما نتعامل معه باعتباره مصطلحًا اتفقت عليه معظم الادبيات الغربية في حديثها عن اضطهاد اليهود.
شهدنا كيف كان الغرب الوثني ممثلًا في المد اليوناني ثم الروماني قاسيًا مع الامة اليهودية، فلم يتركها الا وقد سقطت في شتاتها الاعظم، وتقطَّعت اشتاتًا بين الامم. عندما بدا تحوَّل الغرب الى المسيحية ابتداءً من القرن الرابع الميلادي، في حقبة الامبراطور الروماني قسطنطين، انتقل اضطهاد اليهود، من الزاوية السياسية والثقافية، الى الزاوية الدينية بشكل اكبر، مع استمرار كافة الزوايا في اذكاء لهيبه، والذي كان يمر بنوباتٍ من المد والجزر، لكنه لم ينخمدْ ابدًا، وكان قابلًا للاندلاع بشراسة في اية لحظة.
مع تمدد المسيحية، وتغلغل نفوذ الكنيسة اكثر فاكثر في اوروبا في القرون التالية، تصاعدت عزلة اليهود، واضطهادهم في مختلف ارجاء اوروبا المسيحية، لتصل الى الذروة في العصور الوسطى، وما شهدته من المد الصليبي، وحملاته الدموية المتتابعة الى الشرق.
غالبًا ما كان اليهود يتجمعون في المدن الاوروبية في احيائهم الخاصة، والتي كانت تعرف بـ«االجيتو»، حيث يعيشون في عزلة شبه تامة عن المجتمع المسيحي المتحفز ضدهم في غالب الاحيان، محرومين من الاهلية السياسية، وحرية التعبد، واقامة طقوسهم. كثيرًا ما كان يفرض على اليهود ارتداء زي تمييزي محدد، ويتم ابعادهم عن الوظائف العامة الهامة، وتولي المناصب الحيوية. ولاوهى الاسباب، كانت تندلع موجات من المذابح
والتهجير ضد اليهود، الذين حظوْا بكراهية شعبية مركبة بسبب ثراء الكثيرين منهم نتيجة الاقراض بالربا الذي كان متفشيًا بين اليهود، كما حدث في مذابح عام 1190م في انجلترا، والتي سقط فيها العديد من الاثرياء والاقطاعيين اليهود.
امام موجات الاضطهاد المسيحي المتعصب، لجا اليهود في احيانٍ كثر للهجرة الى البلاد الاسلامية خاصة الاندلس، او ليعيشوا في كنف بعض الدول المسيحية التي تتبنى نهج التسامح، كما حدث في مملكة بولندا بالعصور الوسطى، والتي لاذ بها عشرات الالاف من اليهود، لتزدهر مجتمعاتهم فيها حتى العصر الحديث، حيثُ بلغت اعدادهم في بولندا قبل الحرب العالمية الثانية حوالي 3 مليون يهودي، لم تترك المحرقة النازية منهم الا اقل من ربع المليون بعد الحرب.
من ابرز وقائع الاضطهاد غير المبرر ضد اليهود في اوروبا، سلاسل المذابح التي تزامنت مع الطاعون الاسود الذي ضرب اوروبا اواسط القرن الرابع عشر الميلادي، وفتك بحوالي نصف سكان اوروبا، وما تلاه من سنين. انذاك، كان انتشار الطاعون اقل حدة في مناطق اليهود، لعل السبب في ذلك عائدٌ الى العزلة، حيث كانت قوافل السفر والتجارة من اهم طرق تمدد الوباء، او انتشار بعض العادات الصحية مثل غسل الايدي، والاستحمام الدوري، وغير ذلك،
بين اليهود.
نتيجة ما سبق، وفي اجواء التعصب الجنوني ضد اليهود في اوروبا المسيحية في تلك الفترة، ومع حالة الذعر والاضطراب التي صاحبت الطاعون المدمر، لم يكن مستغربًا ان يتهم اليهود بالمسئولية عن الطاعون، وان يشيع المتعصبون المسيحيون ان الطاعون عقاب من الله على التهاون في تنصير اليهود،
ليحصد وباء الاضطهاد الافًا مؤلفة من ارواح اليهود، اكثر مما جنت يد الطاعون. بحلول اواخر القرن الرابع عشر، بعد عقود من الطاعون، كان الوجود اليهودي قد اضمحلّ في مناطق غرب اوروبا الرئيسة مثل انجلترا وفرنسا والمانيا.
في روسيا، كان هناك وجود يهودي معتبر، خاصة في القرنيْن الثامن والتاسع عشر الميلادي، لكنه كان دائمًا فريسة لنوبات عديدة من التعصب والمذابح. عام 1881م، اندلعت موجة عاتية من استهداف اليهود بعد اغتيال القيصر الروسي الكسندر الثاني. وفي عام 1884م، اندلعت موجات اخرى من الاضطهاد، واعمال العنف ضد اليهود، في بيلاروسيا وليتوانيا، ومناطق اخرى من الامبراطورية الروسية.
عام 1903م، قتل 50 يهوديًا في اعمال شغب اعقبت مقتل طفليْن، اثيرت شائعات عن ان قاتلهما من اليهود. كذلك شهدت سنوات ما بعد الثورة البلشفية في روسيا وقوع عدة مذابح بحق اليهود، خاصة من قبل المعادين للثورة، والذين اتهموا اليهود بدعم الثوار البلاشفة. ساهمت تلك الموجات المتتابعة من الاضطهاد، في اذكاء الهجرات اليهودية الكثيفة من مناطق الاتحاد السوفيتي الى فلسطين قبل وبعد قيام دولة اسرائيل.
الاضطهاد النازي الذي جَبّ ما سبقه
برغم التحسن التدريجي الذي شهدته العصور الحديثة في قضية اضطهاد اليهود، مع ضعف نفوذ الكنيسة، واتجاه الامم الاوروبية شيئًا فشيئُا للعلمانية، وللافكار والتطبيقات التي تضمن حقوق الافراد جميعًا على حد سواء على اختلاف انتماءاتهم الفكرية والدينية والعرقية، فان القرن العشرين شهد ابشع تجليات الاضطهاد ضد اليهود على مدار التاريخ، على يد النازيين، خاصة ابان الحرب العالمية الثانية.
برغم تشكيك الكثيرين في رقم 6 مليون يهودي من ضحايا الهولوكوست النازي، فان الوقائع المقطوع بحدوثها تثبت ان اليهود تعرضوا على يد النازيين لاضطهاد ومذابح ممنهجة، سقط فيها مئات الالاف منهم على مدار سنوات الحرب. جدير بالذكر ان عدد القتلى من اليهود السوفييت فقط على يد النازيين تجاوز النصف مليون.
وبدات احداث الاضطهاد الكبرى قبل بداية الحرب. فمثلا في يوميْ التاسع والعاشر من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1938، والتي تعرف تاريخيًا بـ«ليلة الزجاج المهشم»، ونتيجة لفترات طويلة من تحريض النازيين بعد سنواتٍ من هيمنتهم على الحكم في المانيا، ضد اليهود، اندلعت اعمال شغب واسعة، تخللها طوفان من السلب والنهب والتخريب لاكثر من 250 معبد يهودي، والاف المؤسسات والمنازل التابعة لليهود بطول البلاد، واعتقل بعدها اكثر من 30 الف يهودي وتم ارسالهم الى معسكرات الاحتجاز.
اثناء الحرب العالمية التي ستندلع بعد اقل من عام من تلك الاحداث، سيصبح تجميع اليهود، وارسالهم الى معسكرات الاحتجاز المقامة بالاساس في بولندا المحتلة، التي كانت تضم اكبر نسبة من اليهود في مناطق الاحتلال الالماني، تصرفًا دوريًا للدولة الالمانية؛ التي كانت تتخوف من خيانات اليهود، وتريد استغلالهم في المهام الشاقة لخدمة الالة العسكرية الالمانية. ومن لم يمُت ببطء في الظروف الماساوية المعيشية، كانت تتولى امرَه مذابح قتل جماعي من حين لاخر.
وفي اواخر الحرب عام 1944-1945، مات اكثر من ربع مليون يهودي وغيرهم من المتواجدين في معسكرات الاحتجاز التي كان الالمان يقومون باخلائها – مع اقتراب الجيش السوفيتي – في ظروفٍ بالغة القسوة، سيرًا على الاقدام لمسافاتٍ طويلة دون طعامٍ او شراب، لعجزهم عن احكام سيطرتهم مع الهزائم النازية المتتالية.
اليهود تحت الهيمنة الاسلامية
اما في الحضارة الاسلامية، وعلى
جانبي البحر المتوسط، فقد كان هناك سياقات اخرى للمسالة اليهودية. عمومًا كان التسامح هو القاعدة في كافة المناطق الاسلامية تجاه الكتابيين من اليهود والمسيحيين على حد سواء. كانت اغلب وقائع الاضطهاد التي تعرَّض لها اليهود ذات خلفية سياسية اكثر منها دينية، وكانت وقائع متفرقة ومؤقتة.
ربما لم يشهد اي عصر اسلامي، في اية بقعة من السيادة الاسلامية شرقًا وغربًا «استئصالًا عرقيًا» لليهود، انما كان اقصى ما يتعرضون له بشكل ممنهج هو الالزام بزي موحد، والمنع من تولي المناصب الكبرى، او المبالغة في تقدير الجزية والضرائب كما حدث في بعض عصور المماليك في مصر والشام، وعصور المرابطين والموحدين في الاندلس والمغرب.
ولان تتبع تواريخ الطوائف اليهودية في كافة البلدان والازمان الاسلامية يحتاج الى مساحات هائلة لا نمتلكها هنا، فسنبرز ثلاثًا منها، تعبر بتقلباتها عن المصائر اليهودية تحت الهيمنة الاسلامية.
المدينة المنورة.. بداية خارج الزمن ونهاية مروعة
يرد في «سيرة ابن هشام»
والذي يعد من اقدم مصادر السيرة النبوية قطوف من نصوص عهد المدينة بين المسلمين واليهود بعد هجرة النبي عليه الصلاة والسلام وفيها: «وَاِنَّهُ مَنْ تَبِعَنَا مِنْ يَهُودَ فَاِنَّ لَهُ النَّصْرَ وَالْاُسْوَةَ، غَيْرَ مَظْلُومِينَ وَلَا مُتَنَاصَرِينَ عَلَيْهِمْ.. وَاِنَّ يَهُودَ بَنِي عَوْفٍ اُمَّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ، وَلِلْمُسْلِمَيْنِ دِينُهُمْ، مَوَالِيهِمْ وَاَنْفُسُهُمْ، الَّا مَنْ ظَلَمَ وَاَثِمَ.. وَاِنَّ بَيْنَهُمْ النَّصْرَ عَلَى مَنْ حَارَبَ اَهْلَ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، وَاِنَّ بَيْنَهُمْ النُّصْحَ وَالنَّصِيحَةَ، وَالْبِرَّ دُونَ الْاِثْمِ، وَاِنَّهُ لَمْ يَاْثَمْ امْرُؤٌ بِحَلِيفِهِ، وَاِنَّ النَّصْرَ لِلْمَظْلُومِ، وَاِنَّ الْيَهُودَ يُنْفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارَبِينَ».
بعد هجرة النبي محمد الى المدينة المنورة، كان بها عدة قبائل من اليهود استوطنوها منذ عشرات السنين. بعد اتمام النبي الخطوة الاولى في ضمان لُحمة المجتمع الاسلامي، بعقد المؤاخاة بين المهاجرين والانصار، ابرم مع يهود المدينة المنورة ما عرف تاريخيا بـ«عهد المدينة»، وتضمنت اهم بنوده عقد السلام مع اليهود، وانهم امة مع المؤمنين.
في السنوات التالية، لم يحفظ يهود المدينة العهود، وحدثت مناوشات بينهم وبين المسلمين، كان وازعها الرئيسي تبرم اليهود من المد الاسلامي المتصاعد بعد انتصارات المسلمين في اولى حروبهم الكبرى في الجزيرة، وهي معركة بدر ضد كفار قريش، العدو الاول والابرز للاسلام. ادى اعتداء بعض يهود بني قينقاع على المسلمين في سوق قينقاع الى حصار قصير انتهى باجلاء يهود بني قينقاع من المدينة اواخر العام الهجري الثاني. ثم لحقهم في مصير النفي بنو النضير في العام الرابع بعد محاولة فاشلة منهم لاغتيال النبي محمد، عندما تجراوا على المسلمين بعد هزيمة احد المفاجئة اواخر العام الثالث من الهجرة.
اما القبيلة اليهودية الكبيرة الثالثة، بنو قريظة، فكان لها قصة اخرى؛ عندما حاصرت جيوش الاحزاب المدينة اواخر العام الخامس، خان بنو قريظة عهد المدينة مع النبي محمد، والذي كان يتضمن واجب الدفاع المشترك ضد العدو. واذ بغواية حيي بن اخطب وهو من ابرز قادة بني النضير الذين تم اخراجهم من المدينة، وكان من ابرز المؤلبين لحشد الاحزاب ضد المسلمين، انضم بنو قريظة للاحزاب، وكادوا يسمحون لجيوشهم باقتحام المدينة من الجنوب، وهو الجهة التي من المفترض ان حمايتها كانت على عاتق حصون بني قريظة، لكن نجح المسلمين في اخر لحظة في ايقاع مكيدة بين الاحزاب وبني قريظة عطلت تنفيذ المخطط الكارثي.
بعد رحيل الاحزاب مدحورين، حاصر المسلمون حصون بني قريظة، والذين نزلوا راغمين على حكم حليفهم قبل الاسلام سعد بن معاذ، والذي حكم -واقره النبي محمد- بقتل رجالهم، واسر النساء والاطفال، جزاءً للخيانة، وراح ضحية هذا الحكم اكثر من 600 من
بني قريظة. اوائل العام السابع الهجري؛ سيغزو المسلمون مدينة خيبر والتي كانت اكبر معاقل اليهود في الجزيرة العربية، ولجا لها الكثير من المنفيين من المدينة، وسيتم اخضاعها للسيطرة الاسلامية.
الاندلس.. عصر ذهبي ووزارة وتجارة وبعض الاضطهاد
عندما فتح المسلمون الاندلس اواخر القرن الاول الهجري، اظهروا تسامحًا دينيًا لم يكن معهودًا في تلك العصور، خاصة مع اهل الكتاب من اليهود والمسيحيين، حده الادنى حرية التعبد، وعصمة الدم والمال. ازدهرت جاليات يهودية في المدن الاندلسية الكبرى خاصة قرطبة، وغرناطة، وعمل الكثير من ابنائها في التجارة الداخلية والخارجية، والطب وغيرها من المهن التي تكفل دخلًا ومكانة اجتماعية جيدة، حتى قدَّرت بعض المصادر الغربية وصول نسبة اليهود الى حوالي 5% من مجمل سكان الاندلس في العصور الوسطى، مما حدا ببعض المؤرخين لتسمية قرون الوجود الاسلامي في اسبانيا بـ«العصر الذهبي لليهود» باسبانيا.
لم تستمرْ الصورة بتلك النصاعة طوال الوقت، اذ لم تخلُ فترات التاريخ الاندلسي من بعض المناوشات والاحداث الطائفية، ولعل ابرزها واكثرها فظاعة كانت الواقعة المعروفة باسم «مذبحة غرناطة» والتي اندلعت عام 459هـ، اواسط عصر التدهور والانقسام المعروف بعصر ملوك الطوائف.
كان ملك غرناطة باديس بن حبوس يعتمد على اليهود في ادارة مفاصل مملكته، خاصة شؤونها المالية، فازدهرت اوضاع اليهود عمومًا في زمنه. برز من هؤلاء الوزير ابن نغرالة، والذي اظهر الكثير من الحكمة والسياسة في مساعدة باديس في الحكم، واجاد كذلك اظهار التواضع للنخب المسلمة في غرناطة والتي اثار حفيظتها الغيرة السياسية المغلقة بالدين، والحظوة التي نالها اليهود لدى حاكم غرناطة، فمرّت ايامه بسلام.
اعترافًا بفضله بعد وفاته، اقرّ باديس ابن الوزير اليهودي مكان ابيه، الا ان الابن لم يكن بنفس كياسة الاب، فاثار غضب الكثير من القيادات المسلمة في غرناطة، باستبداده بالكثير من صلاحيات الحكم مستغلًا كبر سن باديس، كذلك ثارت حوله الشبهات في الوفاة المفاجئة لابن الملك باديس، والذي لم يكن على وفاق مع ابن نغرالة. اشتدَّ طغيان الوزير، وبطانته من اليهود، وزاد حنق عامة الغرناطيين وخاصتهم، واخذ بعض الفقهاء في اذكاء الحماسة الدينية ضد اليهود الذين في رايهم تجبَّروا ضد المسلمين في ارض الاسلام، فاندلعت الثورة فجاة في غرناطة ضد اليهود، وراح ضحيتها ابن نغرالة، ومئات من خاصة اليهود وعامتهم.
اما في قرون المد المغربي في الاندلس خاصة عهدي المرابطين والموحدين، والذين كانوا يشتهرون بالتزمت الفكري والديني حتى ضد مخالفيهم من الفرق الاسلامية، فقد خضع اليهود لبعض الاجراءات التمييزية في اللباس، وفرضت عليهم بعض المغارم الباهظة، وتم التضييق على حرية التعبد، لكن ظل لليهود وجودهم في الاندلس، رغم تفضيل جماعات منهم للفرار منها.
عندما بدات الاندلس تتساقط قطعة قطعة، ووقعت الحواضر الاندلسية الواحدة تلو الاخرى في قبضة اسبانيا الكاثوليكية المتعصبة، تعرض اليهود كما المسلمين للاضطهاد والقهر الديني، خاصة في عهد الملكيْن الكاثوليكييْن الشهيريْن ايزابيلا وفرناندو، واللذان نجحا في الاستيلاء على غرناطة اخر المعاقل الاسلامية بالاندلس اواخر القرن التاسع الهجري، واصدرا بعدها مرسومًا ملكيًا شهيرًا يوم 31 مارس (اذار) 1492م،
يقضي بطرد اليهود من اسبانيا بعد مهلة قصيرة، ليلجا عشرات الالاف من اليهود لبيع ممتلكاتهم بابخس الاثمان، ويصبحون على اعتاب شتاتٍ جديد.
الدولة العثمانية ملاذًا اليهود
رغم السمعة القاسية التي اكتسبتها الدولة العثمانية لتاريخها الحربي الصارم خاصةً في اوروبا، وما اثاره الاوروبيون قديمًا وحديثًا عن اضطهاد الدولة العثمانية للاقليات، فان تسامحها مع اليهود الفارين من التعصب الكاثوليكي، خاصةً في اسبانيا بعد سقوط الاندلس، يمثل صفحة بيضاء بارزة في تاريخها.
عمومًا اظهر العثمانيون تسامحًا كبيرًا تجاه اليهود، ولذا رحَّب اليهود من رعايا الدولتيْن البيزنطية المسيحية، والمملوكية المسلمة، باستيلاء المارد الاحمر عليهما خلال القرنيْن
15 و16 من الميلاد، وراوا في الهيمنة العثمانية نوعًا من الخلاص من صنوف الاضطهاد. لذا لم يكن مفاجئًا ان فتحت الدولة العثمانية ذراعيْها لاستقبال عشرات الالاف من اللاجئين اليهود الفارين من اسبانيا والبرتغال، ليصبح الوجود اليهودي في اراضي الدولة العثمانية هو الاضخم في العالم، ويصبح لليهود جاليات بارزة في بعض الحواضر العثمانية الهامة مثل العاصمة اسطنبول، ومدينة سالونيك اليونانية، ليزدهر الوجود اليهودي ماديًا وثقافيًا في كنف العثمانيين، خاصة في قرون المد العثماني السادس والسابع عشر الميلادييْن.من اضطهدهم حقًا؟ مقارنة بين تاريخ اليهود في العالمين الاسلامي والمسيحي