ما-لا-تعرفه-عن-تاريخ-الالحاد-في-الاسلام

ما لا تعرفه عن تاريخ الالحاد في الاسلام

اخبار اليوم الصحيفة, ما لا تعرفه اخبار اليوم الصحيفة, ما لا تعرفه

يفسّر الدكتور عبد الرحمن بدوي ظاهرة الالحاد في العالم الاسلامي القديم، في كتابه «من تاريخ الالحاد في الاسلام»، قائلًا ان الالحاد ظاهرة ضرورية النشاة في كل الحضارات، وتختلف وفقًا لروح الحضارة التي انبثقت منها، ففي الحضارة الغربية جاء ما عبّر عنه نيتشه حين قال: «لقد مات الله»، وفي الالحاد اليوناني قالوا ان الالهة المقيمة في المكان المقدس قد ماتت، اما الالحاد العربي فقد جاء متاثرًا بروح البيئة التي انبعث منها اذ قالوا: «لقد ماتت فكرة النبوة والانبياء».
يشير بدوي الى ان الالحاد عند العرب كان لا بُد وان يجيء مُرتبطًا بالروح العربية، ومتاثرًا بالصلة التي تنشا بين العبد في تدينه الخاص وبين الله؛ اذ انّه وبالنسبة الى الروح العربية فقد لعب الانبياء ادوارًا خطيرة في الحياة الدينية؛ وفي الاسلام تحديدًا جاء النبي ليلعب دور الوسيط بين الذات الالهية والعباد؛ ولذلك عندما خرج بعض المسلمين عن الاديان قاموا بمناهضة هذه الفكرة التي تكوِّن عصب الدين وجوهره، وهي النبوة. وبينما كان الالحاد في الحضارات الاخرى يتّجه مباشرةً الى نقد الذات الالهية؛ اتّخذ العربي الملحد انكار النبوة والانبياء طريقًا لزوال الاديان، والذي بدوره يقطع كل طريق الى الالوهية.
وكما جاءت الصورة العربية التقليدية عن مُلحدي الحضارة الاسلامية مقترنة بالتعذيب والصلب وتقطيع الاطراف؛ يناهض بدوي في كتابه هذه الفكرة، اذ جاء كتابُه بمثابة بعثٍ جديد لهذه الحضارة التي كانت في يومٍ ما ارضًا خصبة، ترعرعت في احضانها مختلف الاتجاهات الفكرية.
يُقرّ الكاتب انّ الحركات الاولى للزندقة او الالحاد قد تم التعامل معها بحسم؛ فيسرد حادثة تعذيب وقتل ابن المقفع؛ الا انه في الوقت ذاته يشير الى الطريقة التي تعاملت بها الدولة الاسلامية مترامية الاطراف مع الملحدين في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، وطوال القرن الرابع؛ اذ وبروحٍ سمحة تركت الدولة الملحدين يعبرون عن ارائهم بحرية؛ امثال ابن الراوندي، وهو من اشهر الملاحدة في تاريخ الحضارة الاسلاميّة؛ في حين جلست بهدوء تؤلف وتُصدر الكتب التي دحضت هذه الافكار.
ابن الراوندي .. اشهر ملاحدة عصره
في اواخر الدولة الاموية، نشا صراعٌ فكريٌ ناتج عن تصادم عدة حضارات، وكان لهذا الصراع بالغ الاثر في تكوين العقلية الجديدة التي سادت العصر العباسي الاول والثاني؛ فاصبح العصر العباسي واحدًا من اخصب العصور الفكرية في تاريخ العالم كله. يقول عن ذلك عبد الرحمن بدوي في كتابه ان القرنين الثالث والرابع هجريًا من عهد العصر العباسي، قد شكّلا اوجّ الحركة الالحادية في التاريخ الاسلامي. وقد كان ابو الحسين احمد بن يحيى بن اسحق الراوندي من اشهر ملاحدة القرن الثالث.
يقول الدكتور بدوي انه في المقتطفات الكثيرة التي عثر عليها من كتاب «الزمرّد»، لابن الراوندي، تبين للباحثين تجاسره على زعزعة ركن هام من اركان الاسلام، الا وهو النبوة، فيقول الداعي: «انّه وقعت الينا رسالة عملها ابن الراوندي وسمّاها الزمرّدة، ونسبها الى البراهمة في دفع النبوات». وقد جاء ذلك في كتاب «المجالس المؤيدية»، للمؤيد في الدين ابي عمران الشيرازي، وكان هذا المؤيد نفسه هو داعي الدعاة في عهد الخليفة المستنصر بالله الفاطمي.
تمادى الراوندي في مناهضة فكرة النبوة، فالانبياء من وجهة نظره ليسوا الا سحرة مشعوذين؛ اذ قال عن النبوة: «كيف يفهم النبي ما لا تفهمه الامة – العباد او الشعب؟ فان كان بالهام، ففهم الامة ايضًا بالهام» كما كان يرى بان الرسول محمد قد اتى بما هو منافر للعقول، مثل الصلاة ورمي الحجارة والطواف حول بيت لا يسمع ولا يبصر بحسبه. كما عارض فكرة معرفة العباد بالكون والفلك والنجوم عن طريق الرسالات قائلًا: «ان الناس هم من وضعوا الارصاد عليها، حتى عرفوا مطالعها ومغاربها، ولا حاجة لهم الى الانبياء في ذلك».
يشير بدوي الى ان الراوندي قد عبر عن افكاره بحرية في كتاباته ومؤلفاته التي تبارت في تقدير مكانة العقل على النقل، وانتقاد الاسلام والشريعة الاسلامية، ودحض المعجزات التي يعدّها المسلمون الاوائل دليلًا على النبوة، ناكرًا ما جاء بشان الملائكة الذي انزلهم الله في يوم بدر لنصرة نبيه، قائلًا: «بزعمكم، كان الملائكة مفلولي الشوكة قليلي البطشة على كثرة عددهم، واجتماع ايديهم وايدي المسلمين فلم يقدروا على ان يقتلوا زيادة عن سبعين رجلًا»، مُضيفًا: «اين كانت الملائكة في يوم اُحُد، يوم توارى النبي؟». وعلى الرغم من اراء الراوندي هذه، الا انه لم ترد ايّة اخبار عن تعذيبه او القصاص منه، بل يشير البعض الى انه قد توفى في الثمانين من عمره عام 300 هجريًا، وعوضًا عن ذلك تبارى الفلاسفة والمفكرون المسلمون في الرد على كتبه، ودحض ما جاء فيها.
كان الراوندي في الاصل من المعتزلة -وهم فرقة كلامية اسلامية قدموا العقل على النقل في امور العقيدة- انشق عنهم ثم اصبح شيعيًا، ليهجر الاسلام بعدها هجرًا تامًا. وعلى الرغم من ان الراوندي من اشهر ملاحدة عصره، وله من المؤلفات الكثير، الا ان كتبه قد اندثرت، ولم يُعرف على المستوى البحثي الا من بضع سنين؛ اذ عثر على مقاطعٍ من مؤلفاته تحويها كتب بعض من قاموا بالرد على الحاده داخل مؤلفات اخرى. فكان كتاب «الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد» للخياط، والذي اكتشف وطبع عام 1925، يحتوي على نسخة شبه كاملة من كتاب الراوندي «فضيحة المُعتزلة»، والذي الّفه الراوندي بدوره ردًا على كتاب الجاحظ، «فضيلة المُعتزلة». وقد عُثر على مقتطفات داخل كتاب «المنتظم في التاريخ»، لابن الجوزي، من كتابٍ اخر لابن الراوندي هو «الدامغ»، والذي طعن فيه في قدسية القران. وكان لهذه النصوص التي عُثر عليها دور كبير في تحديد فكر الراوندي وما شكّله.
ابو الطب العربي الذي امن بالله وكفر بالانبياء
يعتبر ابو بكر محمد بن زكريا الرازي طبيبًا وكيميائيًا من الطراز الاول، معروفًا للجميع؛ الا ان هناك جانبًا اخر من حياة الرازي لم يولِه الباحثون اهتمامًا كبيرًا سوى في السنوات الفائتة، وهو الرازي الفيلسوف. الرازي الفيلسوف، جعل شاغله الاكبر هو نظريّة النبوة؛ اذ لم يؤمن الرازي بها، واعتمد في انتقاده لها على اعتباراتٍ عقلية واخرى تاريخية، تشبه تلك التي اعتمد عليها الراوندي في افكاره؛ قائلًا: «العقل يكفي وحده لمعرفة الخير والشر، فلا مدعاة اذًا لارسال اناس يختصّون بهذا الامر من جانب الله»؛ واذا كان الراوندي قد اراد ابطال النبوة بتوكيد مناقب العقل فيما يتصل بالاخلاق، فقد زاد الرازي عليه مضيفًا اننا بالعقل عرفنا البارئ عز وجل، مما يجعل النبوة -بحسبه- قد فقدت مبرّرها ما دمنا نعرف بالعقل كل شيء اخلاقي والهي، معتبِرًا النبوّة سُلطة دينية خارجة عن العقل.
لم يكتف ابو بكر الرازي بانكار النبوة على الاساس العقلي العام، بل راح في مناظرته مع ابي حاتم الرازي ينتقدها على اساسِ اعتباراتٍ اخرى مثل: كيف يفضّل الله قومًا على قومٍ ويختصّهم بالنبوة؟ اليس من هذا التفضيل مدعاة للشقاق بين الناس، وتنازع بين اصحاب الديانات المختلفة؟ ويردّ عليه ابو حاتم الرازي قائلًا ان اختلاف الناس وتفاوت مراتبهم في جميع الملل والاديان.
كان الرازي متاثرًا بالفلسفة اليونانية وخاصةً نظريات افلاطون في التعليم؛ فالامر عند الرازي كما هو عند افلاطون امر ايقاظ واستغلال لاستعدادات موجودة بالفطرة في نفوسِ كلّ منا منذ ميلاده، وان مهمتنا هي ايقاظ كل ما هو كامن فينا، واستغلال ما هو فطري، ولذلك راى الرازي ان الناس حتى وان كانوا متفاوتين في مراتبهم وفطنتهم، كل ما عليهم هو ان يجتهدوا ويعملوا حتى يتساووا في الهمم والعقول.
وللرازي عدّة مؤلّفات ينتقد فيها النبوة؛ منها تلك الشذرات من كتاب «مخاريق الانبياء»، والتي يوضح فيها الاختلافات والنزاعات بين الرسل واصحاب الرسالات الابراهيمية انفسهم، قائلًا ان احاديث الرسل قد تناقضت، بين موسى الذي قال ان الله بلا ابن، وعيسى الذي قال انه ابن الله، وبين محمد الذي قال انه مخلوق بسائر الناس، بحسبه، مضيفًا: «ومحمد قال ان المسيح لم يقتل، في حين يقول اليهود والمسيحيون انه صُلب وقتل». واتخذ الرازي من تناقض الانبياء دليلًا على بطلان النبوة، زاعمًا ان المصدر واحد وهو الله؛ ان كانت النبوة حقًا قائمة على الالهام والوحي.
ومن انتقاد النبوة، انتقل الرازي الى نقد الاديان كلها والكتب المقدسة، باعتبارها نتيجة طبيعية، بالنسبة اليه، لبطلان النبوة، ثم يتابع بعدها هجومه على ما تبقى من اديان، مثل نقد المجوسية والمانوية، وهي ديانة تنسب الى ماني المولود في بابل عام 216 ميلاديًا. كما راى الرازي ان رجال الدين كانوا سببًا في تعلّق قلوب الناس والعامة بالاديان قائلًا في فقرة شديدة اللهجة: «واغترارهم (وهُم العامة)، بلَحي التيوس المتصدّرين في المجالس (يقصد رجال الدين): يمزّقون حلوقهم بالاكاذيب والخرافات».
في الحقيقة كان الرازي مؤمنًا بوجود الهٍ حكيم، لم ينكر وجوده داخل مؤلفاته الكثيرة؛ الا انه لم يؤمن بالنبوات والاديان، مؤكدًا حقوق العقل وسلطانه التي لا يجب ان يحده شيء، ونازعًا الى التفكير الحر غير المقيّد بالتقاليد، فيقول عنه الدكتور عبد الرحمن بدوي، ان الرازي كان من اجرا المفكرين الذين عرفتهم الانسانية طوال تاريخها، وواحدًا من احرار العقول ودعاة التنوير، وعلى الرغم من حدّة افكاره، الا انه لم ترد اخبار عن اضطهاده في دار الاسلام، ويضيف: «لا يسع المرء سوى ان يمتلئ اعجابًا بهذا الجو الطليق الذي هياه الاسلام للفكر في هذا العصر، مما يدلّ على ما كان عليه العقل الاسلامي من خصب ونضوج».
هكذا قال ابو العلاء المعري، وفي كتاب «تعريف القدماء بابي العلاء»، والذي جمعه ودقّقه المفكر المصري طه حسين، يقول حسين ان هذا البيت من شعر المعري على «ما فيه من مغالاة في الفخر، واسراف في المبالغة؛ الا انّه يفخر غير مؤمن بالفخر، بل رافض للفخر اشد الرفض، ويتغزل والغزل ابغض شيء اليه، ويمدح وهو يرى ان ليس بين الناس من يستحق المدح، وما اشك انه قال هذا البيت وهو يراه فخرًا يشبه هذا النوع الذي الفه الشعراء ولم يتحرجوا منه، دون ان يؤمن بشيء فيه فيما بينه وبين نفسه».
انتقد المعرّي النبوة في اشعاره، وراى ان الشرائع قد اورثت الناس الوان التباغض والعداوة؛ ويضيف الى النبوّات انها سببت الحرب، واباحت للانسان استرقاق الانسان؛ فيقول: «ان الشرائع القت بيننا احنًا، واورثتنا افانين العداواتِ، وهل ابيحت نساء الروم عن عرض، للعرب الا باحكام النبوات»، ويقول عن ذلك طه حسين، ان ما يستنبطه من اشعار المعري انه عمل على تحكيم العقل في كثيرٍ جدًا من الاشياء، مما ولد لديه شيئًا من الحيرة والشك، وعلى الرغم من ايمانه المطلق بوجود الله؛ الا انه قد صوّر شكوكه وحيرته في كثيرٍ من ابيات شعره ونثره؛ فكتب كثيرًا من العبارات تفي بالخروج عن الدين، واخذ يوازن بين الديانات السماوية في كتاباته، ووصل به الامر الى رفضها جميعًا، بقوله: «تلوا باطلًا وجلوا صارمًا، وقالوا صدقنا فقلنا نعم»، وهو الامر الذي كان شبيهًا بما جاء في كتابات الراوندي والرازي.
كان ابو العلاء يشكّك في اشياءٍ كثيرة، منها البعث، ويروي اراء الفلاسفة والمُتكلمين من ابناء عصره، كما كان نباتيًا، حرّم اكل اللحوم، متاثرًا في ذلك بالفلسفات الهندية؛ اذ استخدم مصطلح «ايلام الحيوانات»، لنهي الناس عن اكل اللحوم، وهو مصطلح كان شائعًا في الثقافة الهندية، كما كان له ولبلاغته وخطبه وكتاباته اثر بالغ على الناس؛ اذ انقسموا الى شقّين، فرفعه بعضهم الى درجات النبوة، ووضعوه في مكانة الاولياء الصالحين، ورفض افكاره البعض الاخر واتهموه بالكفر والزندقة.
لقُب ابو العلاء المعري بـ«رهين المحبسين»؛ اذ كان رهينًا للعمى وهو محبسه الاول والذي جاء نتيجة لمرضه بالجُدري، ورهينًا للمنزل وهو محبسه الثاني؛ اذ اعتزل الناس في منزله بعد عودته الاخيرة من بغداد وحتى وفاته، ولهذا يرى المفكر طه حسين ان ابا العلاء كان قاسيًا شديد القسوة على نفسه وعلى الحياة؛ اذ كان رجلًا زاهدًا في ملذات الدنيا، لم يعرف الناس قدره كمفكر سوى في العصر الحديث حين قاموا بمقارنة كتاباته بالفلاسفة الغربيين وشعرائهم امثال دانتي، ولم يجدوا شعرًا يتعمق في الفلسفة ويعالج مسائلها الكبرى سوى عند ابي العلاء المعري.
وعلى الرغم من حرية افكار ابي العلاء داخل مؤلفاته، خاصةً كتاب «لزوم ما يلزم»، الا انه لم ترد انباء عن اضطهاده او التنكيل به من قبل الخلافة العباسية، بل كان طلبة العلم يفدون اليه من كل حدبٍ وصوب، وكاتبه العلماء والوزراء، كما ورد في كتاب ابن خلكان «وفيات الاعيان»؛ اذ يقول توفي يوم الجمعة ثالث شهر ربيع الاول، سنة 449 هجريًا في منزله، بعد مرضٍ دام ثلاثة ايام، وقد اوصى بكتابة هذا البيت على قبره: «هذا جناه ابي عليَّ، وما جنيتُ على احد».
زهديات ابو العتاهية.. الزهد اللاديني في خدمة السلطة
كان ابو العتاهية ابعد الملاحدة عن العبث والمجون، واكثرهم جِدًّا في ارائه؛ اذ كان يؤمن بالاثنينية، كما ورد في كتاب «من تاريخ الالحاد في الاسلام»، والتي تعني ان العالم في مكنونه مكوّن من جوهريْن متعارضيْن، وان الوجود عبارة عن طبقتين متنازعتين احدهما خيرة والاخرى شريرة، وان هذين الجوهرين المتعارضين نشا عنهما الكون وتبلور، وقد صاغ ابو العتاهية نظرياته في صيغة احادية، تفي ان الله واحدٌ وهو خالق الجوهرين.
كان ابو العتاهية شاعرًا قديرًا له اسهاماته في الادب العربي، واختلف الباحثون حوله، خاصةً فيما يخص «الزهديات»؛ اذ كان تاريخ ابي العتاهية منقسمًا الى شقين، احدهما يروي ما كان عليه في شبابه من مجون، اذ اتّبع هواه كما يصفه المؤرخون، يلهو ويشرب الخمر ويكتب الغزل ولا يؤمن بالبعث بعد الموت، الا انه انصرف في اواخر ايامه عن شعر المجون، وبدا مرحلة الزهد والميل الى التذكير بالموت والقبر، وهنا تساءل الباحثون هل كان زهد ابي العتاهية صحيحًا، ام واجهة خادعة لجمع المال من الخلفاء العباسيين، قد خفي وراءها بغضًا للاسلام؟
يقول عن ذلك ابو الفرج الاصفهاني: «كان قوم من اهل عصره ينسبونه الى القول بمذهب الفلاسفة، ممن لا يؤمن بالبعث ويحتجون بان شعره انما هو في ذكر الموت والفناء وذكر النشور والمعاد»؛ وهنا لخص الاصفهاني قضية ابي العتاهية، اذ كان اغلب شعره في الزهد، غير ان زهده كما راى قوم من معاصريه اقرب الى مذهب الفلاسفة الذين لا يؤمنون بالبعث منه الى المذهب الاسلامي، علاوة على انه لم يكن صادقًا في دعوته الى الزهد، بحسب الباحثة في دراستها: «دراسة حول حقيقة زهديات ابي العتاهية»، اذ كان بخيلًا حريصًا على جمع المال، اراد التقرّب من مجالس الخلفاء العباسيين؛ اذ كانت دار الخلافة حينها تحث الناس على الزهد، وعدم الانغماس في ملذات الحياة، فيقول منصور بن عمار: «ابو العتاهية زنديق، اما ترونه لا يذكر في شعره الجنة او النار، وانما يذكر الموت فقط».
والحقيقة ان ابا العتاهية لم يخفِ افكاره في فترة شبابه، وعندما اتجه الى كتابة الزُهد اتخذه لونًا شعريًا يمكّنه من التفرّد عن بقية شعراء جيله؛ وقد كان مقربًا من الشاعر ابي نواس، الذي اشتهر بالحاده هو الاخر الى درجة انضمامه لجماعة شعرية عُرفت بـ «عصابة المُجان»، وكانوا يكتبون اشعارًا ماجنة، تعبر عن افكارهم، اما عن علاقة ابي العتاهية بالنواس، فيذكر مخلد الطائي مجيء ابي العتاهية الى مجلسه، طالبًا منه يساله الا يقول في الزهد شيئًا، قائلًا: «فاني قد تركت له المديح والخمر والهجاء والرقيق وما فيه الشعراء، وللزهد شوقي»، تعبيرًا عن اصطفائه للكتابة الزهدية لندرتها.
والحقيقة ان صحة الحكايات التي تفيد باستمرار ابي العتاهية في الحاده، او رجوعه عنه بالتصوف ولبس الصوف والزهد في الدنيا ومناجاة الموت لم تات نتيجةً للاضطهاد او التنكيل به من قبل الخلافة العباسية لافكاره الاولى، والدليل وجود شعراء معاصرين مثل ابي نواس استمروا على حالهم من الالحاد والمجون.ما لا تعرفه عن تاريخ الالحاد في الاسلام

Scroll to Top