اخبار اليوم الصحيفة, “الوجه المظلم لمحاضرات اخبار اليوم الصحيفة, “الوجه المظلم لمحاضرات
“بشكل متحمس، نحن نؤمن بقدرة الافكار على تغيير سلوكنا، حياتنا، والعالم كله. لذا فاننا نبني هنا مكانا لتبادل المعرفة المجانية المقدمة من اكثر مفكري العالم الهاما، لصنع مجتمع من المتعطّشين لمشاركة الافكار مع الاخرين”.
بيان اهداف “تيد”
في مايو/ايار 2010 وقف المهندس المصري ابراهيم كريم، على منصة “تيدكس القاهرة” في مبنى الجامعة الاميركية بالمدينة المزدحمة، ليتحدث(2) امام جمهور عريض عن انجازاته الكبيرة فيما يُسمى بهندسة التشكيل الحيوي او “البيوجيومتري”، العلم الذي يقول كريم انه يهتم بدراسة اهتزازات الطاقة الصادرة عن الاشكال والالوان والاصوات، بحسب تلك الفكرة يمكن لنا هندسة بعض الهياكل الخشبية بحيث تؤثر على سلوكنا، فتجعلنا اكثر سعادة او حزنا، كذلك يمكن لها ان تحافظ على الماء فلا ياسن لالاف السنين!
تلك الاشكال، بحد تعبيره بالعامية المصرية، “بتغيّر البيئة، وبتصلّح كل حاجة”، خلال الكلمة التي استمرت مسافة نصف الساعة يكرر كريم ذلك التعبير باكثر من صورة، بل ويصل الامر لدرجة انه ادّعى ان تلك التصميمات الهندسية تعالج نوبات الصرع بشكل كامل، في اثناء ذلك ينتقل الى حديث عن الفراعنة وكيف انهم عرفوا هذا العلم قبل الاف السنين، تدفعنا تلك الدرجة من التعميم والتعظيم الى سؤال مهم: هل تلاحظ شيئا ما؟
بالضبط، تلك النوعية من الادعاءات الشاهقة جدا هي احدى العلامات المميزة للعلوم الزائفة، هندسة التشكّل الحيوي ليست الا احد فروع التنمية البشرية الشهيرة والتي تُمثّل مجموعة من الادعاءات “الطاقية” غير المنشورة في اي مجلة علمية محترمة، لكن المشكلة التي تواجهنا مع محاضرة كريم هي انها لا تُعرض على حساب فيسبوك الخاص به، او في قناة يوتيوب تابعه له، بل في محاضرات تيدكس، الديانة الجديدة التي يؤمن بها العالم المعاصر.
امبراطورية “تيد”
حسنا، لفهم ما نقصد دعنا نبدا من العام 1984، في تلك اللحظة التي بدات فيها مؤتمرات “تيد” بالظهور. انذاك، لم يكن احد ليتصور ان تلك المجموعة من المؤتمرات السنوية التي تجمع بضع مئات من الاشخاص في كاليفورنيا سوف تصبح ظاهرة عالمية ذات عائدات تبلغ اكثر من 60 مليون دولار(3). في عام 2006، قررت المنظمة غير الربحية اتاحة جميع محاضراتها مجانا على الانترنت، ثم باتت تُترجم الى اكثر من مئة لغة، وبعد ثلاث سنوات من ذلك التاريخ سمحت “تيد” للمؤسسات الاخرى او الافراد بالحصول على الترخيص المجاني لاقامة مؤتمرات “تيد” تحت اسم “تيدكس” (TEDx)، هنا انطلقت ظاهرة “تيد” في كل مكان.
في العام 2014 وصل(4) عدد محاضرات “تيد” الى 30 الف محاضرة من 130 دولة، لكنه وصل الى 100 الف محاضرة بعدها بثلاث سنوات فقط في 2017. شوهدت محاضرات “تيد” اكثر من بليوني مرة، مع عدد متابعين يُقدّر بالملايين، من كل الثقافات والدول، انت تعرف ذلك وتلاحظه في كل مكان، لم تعد “تيد” مؤتمرا سنويا للحديث عن الابداع في التكنولوجيا، الترفيه، والتصميم (الحروف الثلاثة الاولى من الشعار TED)، بل اصبحت بشكل ما بديلا عن المحاضرات الفعلية، يتلقى الجميع المعرفة والالهام منها، بل وظهر نوع جديد رائج من التقارير التي ترشح لك افضل محاضرات “تيد”، ونمت ظاهرة جديدة تطالب الشباب بمشاهدة محاضرة “تيد” واحدة على الاقل يوميا او 10 كل شهر بحد اقصى، لكن، ما نتائج ذلك كله؟
دعنا نُعيد صياغة ذلك السؤال بطريقة اخرى: خلال اكثر من 30 سنة مضت، شمل العقد الاخير منها توسعا استثنائيا لنشاطات المنصة، بعد عشرات الالاف من المحاضرات عن الابداع والارتفاع بالخيال حد السماء وكسر الحواجز والتحفيز اللانهائي الذي تضعه “تيد” في عقول وقلوب المتفرّجين، بعد الاف الابتكارات الجديدة التي تطرحها “تيد” في مجالات التكنولوجيا والعلوم والادارة وتطوير الذات، ما الذي تغير في العالم؟ هل تحققت نبوءات كل تلك المحاضرات التي تتحدث عن تكنولوجيا خارقة وانظمة ادارية فائقة الفاعلية وتجارب جديدة ستحيل الانسان الى نسخة جديدة من البطل الخارق (سوبرمان)؟
لا، في الحقيقة، لم يحدث اي من تلك التوقّعات بعد، العالم لم يتحول الى جنة وردية كتلك التي القت بها محاضرات “تيد” في وجوهنا، لكن لفهم السبب في ذلك دعنا نذهب الان الى موقع “تيد”، تحديدا نقصد ذلك الاعلان(5) الذي تتنصل فيه المؤسسة من العلوم الزائفة قائلة انه مع نمو الحركة الاضافية “تيدكس” (TEDx) على مستوى عالمي، تم استهداف بعض الاحداث المحلية من قِبل متحدثين يقدمون ادعاءات غير مدعومة بادلة قوية حول مجالات العلوم والصحة، بعد ذلك تؤكد المؤسسة على ان المبادئ التوجيهية لها تفرض ان تكون المعلومات العلمية والصحية المُقدمة خلال محاضراتها مدعومة ببحوث تمت مراجعتها، ثم تطالب الناس باعلامها عن اي محاضرة تدعم علوما زائفة.
الزيف المعاصر
لكن هذا الكلام قد يبدو غريبا بعض الشيء ان قررنا، على سبيل المثال، ان نتامل قائمة المحاضرات الخمسة والعشرين الاكثر رواجا(6) في موقع “تيد” نفسه، ولنبدا بمحاضرة “لغة جسدك تشكل ذاتك” (Your body language may shape who you are) لـ “امي كادي” متخصصة علم النفس الاجتماعي من برينستون. كانت تلك المحاضرة، في العام 2012، لا شك لحظة فارقة في حياة “كادي” التي انتقلت، في ليلة وضحاها، لتصبح من مشاهير العالم، شاهد تلك المحاضرة اكثر من 50 مليون شخص، وهي تحتل المركز الثاني في اكثر محاضرات “تيد” مشاهدة منذ بدايتها والى لحظة كتابة هذه الكلمات، لكن هناك مشكلة واحدة، وهي ان ادعاءات “كادي” في محاضرتها لم تكن مدعومة بادلة علمية.
تبدا “كادي” حديثها باشارة الى اهمية التعامل مع لغة الجسد بدرجة اكبر من الاهتمام لانها بالفعل مؤشر قوي على حالتنا النفسية، لكن المشكلة تظهر حينما تُقدم على قفزة شاهقة للغاية تقول فيها ان هناك امكانية ان تؤثر لغة الجسد الخاصة بنا في تغيير سلوكنا، بمعنى اوضح، تقصد “كادي” انه يمكن لبعض الحركات، او الممارسات الجسدية، ان تخلق سلوكا جديدا في حياتنا وتغير من حالاتنا النفسية. بعد الانتشار الاستثنائي لمحاضرة “كادي” في “تيد”، بدا الهجوم بالقوّة نفسها.
خلال السنوات الست التالية للمحاضرة، ومع الشهرة المتصاعدة لاصطلاح “قوة التظاهر” (Power of Posing)، ما يعني اتخاذ اوضاع جسدية محددة لخلق حالة نفسية افضل، انهالت الدراسات(7،8،9،10) التي تحاول تكرار نتائج “كادي” من كل حدب وصوب، لتؤكد في مجموعها ان النتائج التي تحدثت عنها لم تكن دقيقة بما فيه الكفاية، ولا يمكن تكرارها. اخر(11) تلك الدراسات صدر قبل عام واحد فقط لتضع نهاية لادعاءات “قوة التظاهر” حينما اوضحت ان الشعور بالقوة الناتج عن اتخاذ اوضاع جسدية محددة -مسمار جحا الذي تمسكت “كادي” به في السنوات الاخيرة- لا يمكن ترجمته الى سلوكيات قوية او فعّالة.
من جهة اخرى، فانه في المرتبة الثالثة لاكثر محاضرات “تيد” مشاهدة سوف نلتقي بـ “كيف يلهم القادة العظماء افعالهم” (how great leaders inspire action)، لسيمون سينيك، المؤلف البريطاني-الاميركي، والمحاضر التحفيزي (تلك هي وظيفته حاليا)، والمستشار التنظيمي للشركات. في محاضرته التي تخطى عدد مشاهداتها 43 مليون مرة، يتحدث سينيك عن الكيفية التي يمكن بها ان تبني الشركات الرائدة رسالتها الملهمة عبر ما يسميه “الدائرة الذهبية” (Golden Circle) والتي تبدا بالسؤال (لماذا نفعل ذلك؟)، سينيك يقدم لنا في هذه المحاضرة ما يسميه “اكتشافا شخصيا” لا يعرفه سوى مجموعة قليلة جدا من الناس، وهو سبب نجاحهم.
قد يبدو ذلك ملهما حقا، قد يكون مفيدا للبعض على مستوى شخصي وربما على مستوى شركته الخاصة، ورغم ان علوم الادارة والاقتصاد لا تعترف بهذا النموذج ولا تراه بوضوح(12) ولا تستخدمه الشركات في اثناء بناء لبناتها الاولى، فان المشكلة مع هذه المحاضرة تظهر، كالعادة، في تلك النقطة التي يبدا فيها سينيك بالحديث عن ان نظريته، تلك التي اكتشفها بنفسه، توجد بداخل ادمغتنا(13،14) وخلايانا العصبية، من هنا يلقي سينك اليك ببعض الاصطلاحات من علوم الاعصاب، انها تلك النقطة التي تبدا الثقة بالتسرّب شيئا فشيئا اليك، فالرجل -كما ترى- يتحدث بلغة علمية بحتة، اليس كذلك؟!
اما في المركز التاسع من قائمة اكثر المحاضرات مشاهدة على مر التاريخ من “تيد” فسوف ترى وجها قد يكون مالوفا بعض الشيء، انه المروج(15،16) الاكثر شهرة لاحد العلوم الزائفة (البرمجة اللغوية العصبية)، توني روبينز مدرب التنمية البشرية الكبير والذي يصل ثمن تذكرة تدريبه السنوي الى 500 دولار لليوم الواحد مع وعد باجتياز التجربة الاكثر غرابة في حياتك، السير على الفحم المشتعل حتّى 1000 درجة مئوية بينما تملا دماغك بافكار ايجابية، لكن ما نعرفه هو ان الامر لا علاقة له بالافكار الايجابية. الفحم، ببساطة، موصّل رديء للحرارة، يشبه الامر ان تُخرج “الكيك”، اي نوع من الكيك، من الفرن وتلمسه سريعا باصبعك، لن تشعر بشيء.
محاضرة روبينز في “تيد”، تلك التي شاهدها اكثر من 23 مليون شخص، تحمل عنوان “لماذا نفعل ما نفعل؟” (Why We Do What We Do?)، على مدى نحو عشرين دقيقة يستخدم روبينز لغة تظهر انها علمية في محاولة لتوضيح اسباب فشلك بالحياة، ولم لا تتمكن بسهولة من اتخاذ قراراتك الصعبة، معرفا نفسه بانه “رجل ايجاد الاسباب” الذي يعتقد ان مشاعرنا هي ما يقودنا لاتخاذ قراراتنا وانه اكتشف ذلك عبر مختبر خاص به يسال الناس “لم يفعلون ما يفعلون؟”، مع ملاحظة ان هذا السؤال عنوان المحاضرة هو ببساطة هدف لم يتمكن علم كامل من الوصول اليه بعد، نعرفه باسم “علم النفس”!
نتحدث هنا، فقط، ضمن نطاق اكثر المحاضرات مشاهدة من “تيد”، تلك التي تضعها المؤسسة في موقعها الرئيسي على الانترنت، اما اذا قررت البحث(17،18،19،20) قليلا عن باقي محاضرات “تيد”، او محاضرات “تيدكس”، الزائفة والجدل القائم حولها، خاصة في مجال العلوم والتكنولوجيا، فسوف تجد الكثير لدرجة دفعت فيل بلايت(21)، مقدم العلوم الشهير، على سبيل المثال، الى الخجل لان بعض المحاضرات التي قُدّمت في المؤتمر نفسه الذي كان يقدم فيه محاضرة عن الكويكبات تحدثت في امور لا توجد ادلة علمية على صحتها، لكن المشكلة التي تواجهها “تيد” اكبر من ان تكون مجموعة من المحاضرات الزائفة التي يجب ان تُزال من قوائم “تيد” لكي تصبح منصّة مثالية، المشكلة -على ما يبدو- في “تيد” نفسها.
مشكلة “تيد” هي “تيد”
تُبنى محاضرات “تيد” بالاساس على ثلاث(22) قواعد، اذا وُجدت في المحاضرة فانها تمر الى عالم “تيد”، اما اذا لم توجد فسوف تُستبعد. القاعدة الاولى هي ان تكون الفكرة مختلفة، تدفع الناس لرؤية العالم بشكل مختلف، والثانية هي ان تقدم حلولا لمشكلات جمهور “تيد” او تعرض مستقبلا افضل لهم، اما الثالثة فهي ان تكون المحاضرة مُلهمة، تُبنى بطريقة تدفع الجمهور للحماس، لذلك هناك شرط رئيسي في محاضرات “تيد”، اذا وددت ان تقوم بتقديم واحدة، وهي ان تُقدّم فكرتك من خلال تجربتك الخاصة، بمعنى ان تعمل على تقديم فكرتك، مهما كانت دقيقة التخصص، وكانها الكشف الذي غيّر مسار حياتك.
لذلك فان محاضري “تيد” لا يظهرون فجاة لتقديم المحاضرة يوم المؤتمر، وانما يسبق ذلك فترة تمتد الى ثلاثة اشهر من التجهيز والتدريب. في البداية يقدم المحاضر نسخا اوّلية من نص مادته، يتم تعديلها بعد ذلك لتناسب سياسة “تيد” التي تضم بالطبع شرطا اخر، بجانب القواعد التي تحدثنا عنها قبل قليل، يتعلق بالحد الاقصى لمدة المحاضرة(23) (18 دقيقة)، بحيث لا تكون مملة. بعد ذلك، وفي الايام السابقة للحدث يقوم المحاضر بعمل مجموعة من تجارب الاداء. خلال تلك الفترة من المفترض ان يحفظ المحاضر نص المادة المقدمة في محاضرة “تيد” او “تيدكس” عن ظهر قلب.
لفهم هذا التاثير القوي للقواعد الثلاثة التي تحدّثنا عنها قبل قليل يمكن ان نقارن بين “تيد” وغيرها من المحاضرات التي تقدّم خدمات معرفية، كمحاضرات العلوم او ادارة الاعمال او التكنولوجيا، والفارق الاكثر اهمية يتعلّق بسؤال بسيط: “ما النقطة التي تستحق التركيز عليها؟”، في المحاضرة المعرفية تكون تلك النقطة هي “المعلومة” نفسها او المفهوم المعرفي، اما في “تيد” فان التركيز بالاساس يكون على الطريقة التي من خلالها يتم توصيل المعلومة للجمهور، يمكن ان نفهم تلك الفكرة بوضوح في المبدا الذي صاغه مارشال ماكلوهان(24،25)، صاحب اكثر نظريات الاتصال الجماهيري جدلا في القرن الفائت، حينما قال ان “الوسط هو المحتوى” (the medium is the message)، ويعني ذلك ان الطريقة التي تُقدَّم بها الرسالة او المحتوى جوهرية ومؤثرة في الجمهور بقدر اهمية الرسالة نفسها.
يمكن القول ان “تيد” هي نموذج مثالي لما تحدث عنه ماكلوهان قبل عقود في كتابه “فهم وسائل الاعلام”. احدى العلامات، على سبيل المثال، هي الاهتمام الزائد من سياسة “تيد” بالعرض البصري المصاحب للمحاضرة، حيث يُفضّل ان يستخدم المحاضر اقل عدد ممكن من الكلمات، او لا كلمات على الاطلاق، فقط مجموعة من الصور او التصميمات ستكون مثالية. في محاضرة عادية سيكون الهدف الرئيس هو تقديم معلومة مدعّمة بادلة قوية، اما في “تيد” فان الهدف هو دائما، وفقط، جذب انتباه الجمهور طوال 18 دقيقة متواصلة.
لهذا السبب فان “تيد” تتطلب وجود مُحاضر متمرس ومحترف في تقديم المعلومة، بغض النظر عن درجات صدق ودقة المعلومة نفسها ومدى اهميتها، وتلك هي مشكلة كبيرة تدفع باباطرة العلوم الزائفة الى “تيد”، لانهم بالاساس محترفي “عرض”، وتدفع اصحاب الافكار التي تستحق الانتشار حقا الى تجنب “تيد” لانهم ليسوا محترفي عرض.
بمعنى اوضح، سوف يجد مالكوم جلادويل سهولة شديدة في الدخول الى عالم “تيد” عندما يقرر ان يشرح مفهومه عن حرية الاختيار في اطار حكاية عن صلصة المعكرونة وتنوع وصفاتها خلال اكثر من ثلاثين سنة مضت وتاثير ذلك على المجتمع الاميركي، اما استاذ فيزياء من جامعة مغمورة، او حتّى من معهد ماساتشوستس العالي للتكنولوجيا، وعلى الرغم من انه كان قد ابتكر فكرة بديعة لشرح الازمة التي تواجهنا حينما نحاول فهم طبيعة الجرافين (هل هو موصل فائق ام عازل ممتاز؟)، فسيكون من الصعب عليه ان يجد تلك الفرصة، لانه “مُقدّم” رديء، ولسبب اخر مهم، وهو ان معلوماته قد لا يمكن تبسيطها الى درجة “مجنونة” قد تُفقدها معناها.
ثورة التحفيز
احدى مشكلات “تيد” هي الميل(26) الواضح والصريح لتسطيح او تخفيف الافكار بدرجة مبالغة بحيث تتناسب مع قالب مُعد للترفيه اعتمادا على القواعد الثلاث السابقة. هذه الافكار المبسطة للغاية، على اهميتها، قد تكون مؤذية بدرجة ما، فهي -اولا- تستلزم بذل جهد قليل من المتعلّم لفهمها وتحليلها او حتّى اقامة قدر من الجدل حولها، بالتالي يمنح ذلك جمهور “تيد” احساسا زائفا ببساطة العالم الحقيقي، ويعزز منهجا للتعلم، والتعامل مع العالم، نادرا ما يواجهه المرء في الحياة اليومية، كذلك فان اناقة التصميم وحرفية النص والمحاضر يعطيان جمهور “تيد” صورة نهائية افلاطونية من اشياء ليست كذلك، اضف الى ذلك انه من الضروري، حسب مفهوم “تيد” لتقديم المعلومة، ان تكون المحاضرة مفرطة في التفاؤل، بالتالي لن يُقدم المحاضر على عرض النقد الموجه لمشروعه، لكي يدفع بك الى اجواء ايجابية.
لهذه الاسباب، لا تكون ظاهرة “تيد” منطقية الا عندما تدرك ان الامر كله يتعلق بالجمهور(27)، صممت تلك المحاضرات بالاساس لجعل الناس يشعرون بالرضا عن انفسهم وبالذكاء وانهم قادرون على تحقيق قدر عظيم من المعرفة عبر محاضرة صغيرة مدتها 18 دقيقة، اضف الى ذلك نقطة اخيرة مهمة وهي ان ذلك يمنح الجمهور انطباعا بانهم جزء من مجموعة النخبة، مما يجعل العالم -بالنسبة لهم- مكانا افضل، فهم هناك بالاعلى مع افضل سكّان الكوكب لان قدراتهم العقلية تسمح بفهم انجازات هؤلاء العظماء.
لكن التفاؤل له اضرار، اكثرها تاثيرا هو نتائج تلك الافكار التي تقدمها محاضرات “تيد”. على سبيل المثال، تهتم الكثير من محاضرات “تيد” بعرض ما تقدمه بعض الدراسات العلمية، او في مجال التكنولوجيا، من احتمالات تشير -فقط تشير- الى نتائج احصائية منطلقة لصياغة المحاضرة بطريقة تبدو “تاكيدية”، لان تلك هي طبيعة طريقة تقديم المحاضرة بالاساس في عالم “تيد”، هنا يتعامل الجمهور مباشرة مع المحاضرة على ان هذا هو ما يقوله العلم او ما تنتجه التكنولوجيا بشكل مؤكد، ويتوقع بالفعل ان يتحسن العالم خلال سنوات قليلة، ثم يظل الشخص نفسه -لمدة 20 سنة مثلا- يسمع كلاما عن علاجات نهائية للسرطان واكتشافات نهائية لاصل الكون واجهزة خرافية للتجسس فيتساءل في النهاية: هل العلم فاشل؟ هل يكذب علينا؟ هل سوف نظل 20 عاما اخرى نستمع لهم وننتظر ان تتحقق نتائجهم؟ هنا قد تتسبب “تيد” في ما يقف بالضبط على النقيض من هدفها، الياس.
في تلك النقطة يمكن ان نتفهّم، بشكل جيد، ما يُقصد حينما نحاول ان نجيب عن سؤالنا الاول، لماذا لم يصبح العالم جنة بعد “تيد”؟ من المهم ان نتفاءل، ونعم، يمكن للافكار ان تغير من سلوكنا، بحد تعبير “تيد”، لكن ليس الامر بتلك البساطة التي تُكتب بها الكلمات او تُنطق بها في المحاضرة، يجب ان يتوافق تفاؤلنا مع درجة تعقّد العالم(28)، والا سنواجه صدمة عنيفة حينما لا نتمكن بسهولة من تحقيق اي من تلك الاحلام المفرطة في التفاؤل، وهو ما نرى انه قد حدث بالفعل، لقد اصبح دور “تيد” الرئيس، وربما الوحيد، بالنسبة لشباب العالم المعاصر، ليس تقديم المعلومة، كما تقول “تيد” في بيان اهدافها، بل هو فقط “التحفيز”، لكن التحفيز قد يكون ضارا ايضا.
بمعنى اوضح، قد تتصور للوهلة الاولى ان التحفيز يدفعك للفعل والانجاز، لكن هل يفعل ذلك؟ في الكثير من الاحيان يدفعك التحفيز لتصوّر خاطئ عن “حدود” قدراتك، تلك التي ترتفع بها للسماء، مع تصوّر خاطئ اخر عن درجة “صعوبة” العالم نفسه، فتظن ان كل شيء ممكن، ما قد يصدمك في كل مواجهة مباشرة مع هذا الواقع. هنا يكون الدور الذي تلعبه “تيد” في حياتك هو على النقيض تماما مما تظن. نعم، هي تحفزك بالفعل، لكن حينما ينتهي تاثير التحفيز، والذي لا يتجاوز عدة ايام مع المواجهة الاولى ضد العالم الحقيقي، سوف تبدا في الشعور بما يشبه اعراض الانسحاب، ستشعر انك بحاجة الى محاضرة جديدة تحفزك، هنا والان. في تلك النقطة يتحوّل التحفيز الى مخدر، تخرج من محاضرة تحفيزية الى محاضرة تحفيزية اخرى، ولا تفعل ما هو اكثر من ذلك.
حسنا، “تيد” ليست شيطانا بالطبع، محاضراتها مفيدة في الكثير من الاحيان، ولا ندعوك للتوقف عن متابعتها، لكن ما نود ان نوضحه، ونؤكده في ظل تلك الموجة العالية من المطالبات باعتناق محاضرات “تيد” وكانها ديانة تحفيزية جديدة، هو ان “تيد” لا يمكن ان تكون مصدر ثقة مطلقا، الالية التي تعمل بها “تيد” تتعارض بالاساس مع مفهوم صدق المعلومة في جوانب معرفية عدة. هدف “تيد” الرئيس هو الالهام، قد يكون ذلك امرا جيدا، لكنه لن يُحسّن حياتك باتباعه واللهث وراءه، شيء واحد فقط يمكنه ان يفعل ذلك، وهو ان تقوم الان وتعمل، بقدر ما يمكنك ان تبذل من جهد.“الوجه المظلم لمحاضرات تيد”.. هل هي افكار تستحق الانتشار فعلا؟!