اخبار اليوم الصحيفة, سكرات الموت.. هل اخبار اليوم الصحيفة, سكرات الموت.. هل
يقولون ان «الانسان عدو ما يجهل». ربما هذا المنطق هو ما جعل الناس على مر التاريخ يخافون من الموت، بين من ينظر للحياة بعد الموت بايجابية او بكثير من التشاؤم، يجمع الناس ان الموت هو امر مخيف، بل حاول البعض – ولا يزالون – تجنبه بكل الوسائل الممكنة حتى بالسعي الى الخلود.
بعض الاشخاص الذين نجوا من ازمة مهددة للحياة ابلغوا عن مرورهم بتجربة وعي استثنائية، وفي اطار سعينا الذي لا ينتهي الى فهم ما يحدث لنا بعد موتنا، لا يزال البشر ينظرون منذ فترة طويلة الى الظاهرة النادرة لتجارب الاقتراب من الموت، بصفتها توفر بعض التلميحات. هذا الفهم اصبح هاجسًا عند العديد من العلماء، بل وحتى الكتاب والسينمائيين.
هؤلاء الذين ناوشوا
الموت (توقف قلبهم عن العمل لفترة مثلًا)، غالبًا ما يروون ويشهدون احداثًا تغير حياتهم على «الجانب الاخر»، مثل ضوء ابيض ساطع في نهاية نفق طويل، او يخوضون تجربة لم شملهم مع اقارب مفقودين او حيوانات اليفة محبوبة، لكن على الرغم من الصفات «الخارقة للطبيعة» لهذه التجارب، يقول الخبراء ان العلم يمكنه تفسير سبب حدوثها، بل يمكنه حتى تفسير ما يحدث بالفعل.
ما هي تجارب الاقتراب من الموت؟
تجربة الاقتراب من الموت هي حدث نفسي عميق مع عناصر روحانية. يحدث هذا عادة في الاشخاص الذين يقتربون من لحظة الموت، او في حالات الالم الجسدي او العاطفي الشديد، ولكن قد تحدث هذه التجربة ايضًا بعد الاصابة بازمات قلبية او اصابات دماغية، او حتى اثناء التامل والاغماء (فقدان الوعي بسبب انخفاض ضغط الدم).
ويمكن تعريف تجربة الاقتراب من الموت (NDE) على انها الذكريات والانطباعات الخاصة التي مر بها اشخاص خلال حالة خاصة من حالات الوعي، بما في ذلك عدد عناصر مثل المشاعر الممتعة او رؤية نفق او اقارب او متوفين او تجربة مراجعة الحياة، او تجربة خروج من الجسم ورؤية نفسه خلال عملية الانعاش القلبي الرئوي (CPR).
وعلى عكس الشائع بين الناس، فان هذه التجارب شائعة بشكل مدهش، اذ ان ثُلث الاشخاص الذين اقتربوا من الموت قدموا شهادات تدل على مرورهم بهذه التجارب. وكانت الخصائص المشتركة التي لاحظها الناس في هذه التجارب هي الشعور بالرضا، والانفصال النفسي عن الجسم (مثل تجارب الخروج من الجسم)، والحركة السريعة عبر نفق مظلم طويل، ودخول ضوء ساطع.
لكن الثقافة والعمر ايضًا قد يكون لهما تاثير على نوع تجربة الاقتراب من الموت التي يخوضها الناس. على سبيل المثال، يقول العديد من الهنود انهم سيلتقون بملك الموت الهندوسي يامراج، بينما يدعي الامريكيون في كثير من الاحيان انهم قابلوا يسوع. الاطفال عادة ما يصفون اصدقاء ومعلمين يواجهونهم «وسط ضوء».
معظم تجارب الاقتراب من الموت التي ابلغ عنها كانت ايجابية، حتى انها ساعدت في الحد من القلق الذي يصيب الانسان قبل الموت، وجعلتهم يتشبثون بالحياة، وزادت من شعورهم بالراحة والطمانينة.
ومع ذلك، فان بعض تجارب الاقتراب من الموت كانت سلبية، وتضمنت مشاعر مثل عدم السيطرة، او الاحساس بعدم الوجود، او تصورات مرتبطة بجنهم والعذاب، او الحكم الادراكي من كائن اعلى.
لماذا تحدث تجارب الاقتراب من الموت؟
ناتي هنا الى السؤال المهم: ما السر وراء حدوث هذه التجارب الغريبة؟ وهل بالفعل هي تجارب تظهر لنا ما يوجد على الجانب الاخر؟
اقترح عالما الاعصاب اولاف بلانك وسيباستيان ديجيز، وجود نوعين من تجارب الاقتراب من الموت، النوع الاول: هو المرتبط بنصف الدماغ الايسر في الدماغ، ويتميز باحساس متغير بالوقت والاحساس بالطيران. بينما النوع الثاني: هو الذي يشمل نصف الكرة الايمن، ويتميز برؤية ما او التواصل مع الارواح، او سماع الاصوات والموسيقى، وفي حين انه من غير الواضح لماذا توجد انواع مختلفة من تجارب الاقتراب من الموت، فان التفاعلات المختلفة بين مناطق الدماغ تنتج هذه التجارب المتميزة.
يلعب الفص الصدغي ايضًا دورًا مهمًا في تجارب الموت القريب. هذه المنطقة من الدماغ تشارك في معالجة المعلومات والذاكرة الحسية، لذلك يمكن للانشطة غير الطبيعية في هذا الفص انتاج احاسيس غريبة وتصورات غريبة، ومع وجود العديد من النظريات المستخدمة لتفسير تجارب الاقتراب من الموت، الا ان الوصول الى اساس ما يسببها هو امر صعب بالفعل
المتدينون وتفسير الظاهرة
يعتقد المتدينون ان تجارب الاقتراب من الموت توفر دليلًا على وجود حياة بعد الموت – على وجه الخصوص، انفصال الروح عن الجسد. ياتي هذا في الوقت الذي تشمل فيه التفسيرات العلمية لتجارب الاقتراب من الموت ظاهرة تسمى «نزع الشخصية» depersonalisation، وهو الشعور بالانفصال عن جسمك، حتى ان العالم كارل ساجان اقترح ان ضغوط الموت تتسبب في انتاج ذكريات من لحظات الميلاد، مما يشير الى ان الناس التي تعيش في تجربة الدخول الى النفق، ترى اعادة تخيل لعملية ولادتها.
لكن هناك تفسيرات كيميائية ايضًا
ولكن بسبب «الطبيعة الخيالية» لهذه النظريات غير المرتبطة باي ادلة، ظهرت تفسيرات اخرى. فيدعي بعض الباحثين ان مادة «الاندورفين» الذي يطلقه جسم الانسان خلال الاحداث المجهدة، قد ينتج عنه تجربة مشابهة للوفاة، بشكل خاص من خلال تقليل الالم وزيادة الاحساس اللطيف الذي تتسبب فيه هذه المادة.
وبالمثل، يمكن لمركبات التخدير مثل «الكيتامين» ان تحاكي خصائص تجربة الاقتراب من الموت، مثل تجارب الخروج من الجسم. وتشير نظريات اخرى الى ان تجارب الاقتراب من الموت تنشا من مادة ثنائي ميثيل تريبتامين (DMT)، وهو عقار مخدر يتواجد طبيعيًا في بعض النباتات.
ولاحظ ريك ستراسمان، استاذ الطب النفسي، في دراسة اجريت في الفترة من 1990 الى 1995، ان الاشخاص مروا بالفعل بتجارب الاقتراب من الموت او تجارب روحانية بعد حقنهم بمادة ثنائي ميثيل تريبتامين (DMT)، ووفقًا لستراسمان، فان الجسم لديه ثنائي ميثيل تريبتامين (DMT) طبيعي، والذي يطلقه الجسم عند الولادة والموت. ومع ذلك، لا يوجد دليل قاطع لدعم هذا الراي. بشكل عام، تفتقر النظريات الكيميائية في تفسير ظاهرة الاقتراب من الموت الى الدقة، ولا يمكن ان تفسر المجموعة الكاملة من تجارب الاقتراب من الموت التي يجربها الناس.
تفسير اخر يتعلق بالاكسجين
كما اوضح الباحثون ان تجارب الاقتراب من الموت تحدث من خلال نقص الاكسجين الواصل الى الدماغ (cerebral anoxia). ووجد احد الباحثين ان طياري الطائرات الذين عانوا من فقدان الوعي اثناء عمليات التسارع الكبيرة وصفوا مرورهم بحالات تشبه تجربة الاقتراب من الموت، مثل رؤية الانفاق.
قد يؤدي نقص الاكسجين ايضًا الى حدوث نوبات في الفص الصدغي التي تسبب الهلوسة. قد تكون هذه النوبات مشابهة لتجربة الاقتراب من الموت.
وهذا هو التفسير الاكثر انتشارًا حتى الان
لكن التفسير الاكثر انتشارًا لتجارب الاقتراب من الموت هو فرضية «الدماغ المحتضرة» (dying brain hypothesis). تفترض هذه النظرية ان تجارب الاقتراب من الموت هي هلوسات يسببها ذلك النشاط في الدماغ الذي يحدث عندما تبدا الخلايا في الموت.
وكما يحدث هذا الامر في اوقات الازمات، هذا من شانه ان يفسر قصص الناجين. تكمن المشكلة في هذه النظرية، رغم انها معقولة، في فشلها في شرح النطاق الكامل للخصائص التي قد تحدث اثناء تجارب الاقتراب من الموت، مثل لماذا يمر بعض الناس بتجارب الخروج من الجسم؟
هناك تفسير يتعلق بتجارب الخروج من الجسم
يمكن ان تختلف تجربة الخروج من الجسم من شخص لاخر، ولكنها غالبًا ما تنطوي على الاحساس بالطيران او السباحة فوق جسد الشخص الفعلي والنظر اليه من اعلى. بالنسبة لعلماء الاعصاب، فان هذه الظاهرة هي لغز وفرصة؛ اذ ان فهم الكيفية التي يسير بها الدماغ يمكن ان ينير ايضًا الكيفية التي يفترض ان يعمل بها.
يعتقد علماء الاعصاب الان ان تجارب الخروج من الجسم تشمل الجهاز الدهليزي (vestibular system) – يتكون من قنوات في الاذن الداخلية تتعقب مواقع الشخص في الفراغ – وكيفية دمج هذه المعلومات مع الحواس الاخرى في الدماغ.
في دراسة فرنسية حديثة، تعاون كريستوف لوبيز، عالم الاعصاب في جامعة ايكس مرسيليا، مع مايا اليزيير، وهو طبيب يتابع مرضى يعانون من اضطرابات في الجهاز الدهليزي. اشتكى بعض هؤلاء المرضى من الدوخة، مع اسباب جسدية تراوحت بين تسرب السائل من الاذن الداخلية الى اصابة عصب مجاور.
من اصل 210 مريضًا ابلغوا عن الدوخة، قال 14% منهم ان لديهم تجارب تتعلق بالخروج من الجسم. في المقابل، افاد 5% فقط من المشاركين الاصحاء في هذه الدراسة انهم مروا بهذه التجربة. بين المرضى الذين خضعوا لتجارب خارج الجسم، افاد البعض انهم «يجذبون نحو دوامة، كما لو انهم في نفق». بينما قال اخرون انهم «يدخلون اجسادهم، كما هو الحال عند انغلاق ظرف من الاعلى». وقال لوبيز انه يعتقد ان هذا الاحساس هو نتيجة لعدم التطابق بين المعلومات الواردة من النظام الدهليزي التالف والنظام البصري العادي.
وقال اولاف بلانك، عالِم الاعصاب في لوزان، ان الدراسة «تضع مقترحات سابقة حول التاثير القوي للنظام الدهليزي في تجارب الخروج من الجسم على اسس ثابتة». واظهرت الدراسة ان التحفيز الكهربائي لمنطقة الدماغ التي تدمج المعلومات الدهليزية والبصرية يمكن ان يؤدي الى وهم الاحساس بالخروج من الجسم. سواء كان الاضطراب في الاذن الداخلية نفسها او الدماغ، فان النتيجة النهائية تبدو هي نفسها: الشعور بتحدي الفيزياء وترك جسد المرء، التجربة السابقة وضعت اسسًا جيدة يمكن البناء عليها، لكنها لم تمنح تفسيرًا اكيدًا دامغًا.
حاليًا، لا يوجد تفسير محدد حول سبب حدوث تجارب الاقتراب من الموت. لكن الابحاث العلمية الجارية لا تزال تسعى جاهدة لفهم هذه الظاهرة المبهمة. وسواء كانت هذه تجارب الاقتراب من الموت خارقة للطبيعة ام لا، فان هذه التجارب مهمة للغاية. فهي توفر المعنى والامل والغاية للعديد من الناس، في حين تقدم تقديرًا لرغبة الانسان في البقاء بعد الموت.سكرات الموت.. هل يملك العلم تفسيرًا لها؟