اخبار اليوم الصحيفة, ديمقراطية الدماء.. كيف اخبار اليوم الصحيفة, ديمقراطية الدماء.. كيف
“تاريخنا مكتوب بالحبر الابيض. ان اول ما يفعله المنتصر هو محو تاريخ المهزومين. ويا الله، ما اغزر دموعهم فوق دماء ضحاياهم، وما اسهل ان يسرقوا وجودهم من ضمير الارض! هذه واحدة من الابادات الكثيرة التي واجهناها وسيواجهها الفلسطينيون كذلك.. ان جلّادنا المقدّس واحد”.
(مايكل هولي ايجل، من نشطاء الهنود الحمر)
تتناول وسائل الاعلام القيم الاميركية بكثير من التفاؤل والتمجيد، فتُظهر وسائل الاعلام عادة جاذبية الامة الاميركية وتبشيرها بالحرية والمساواة وحقوق الانسان، ونبذها للعنف والكراهية والتعصب. تتبنى الولايات المتحدة هذه القيم من منطلق تفوقها العالمي، وهو ما تعلق عليه تسيانينا لوماويما، استاذة التاريخ الاميركي بجامعة اريزونا، ان الولايات المتحدة الاميركية “تؤمن باستثنائيتها، اي بتفوق الامة الاميركية على اي امة اخرى، ولكن هذا امر لا تدعمه الحقائق او التاريخ”[1]. لكن ماذا لو عدنا بالتاريخ الى نشاة الولايات المتحدة الاميركية، الى القرن الخامس عشر الميلادي تحديدا، عندما بدا الاوروبيون باستكشاف اراضي قارة اميركا الشمالية، لنسال، ما مدى تطبيق قيم الحرية والعدالة ونبذ العنف على السكان الاصليين للقارة؟ هل التزم الاميركيون فعلا بهذه القيم مع الهنود الحمر ام انهم خالفوها تماما معهم؟!
الهنود الحمر.. اصل التسمية
جاءت تسمية الهنود الحمر بطريقة عشوائية تماما، ففي عام 1492 خرج كريستوفر كولومبس من اسبانيا متجها الى الهند في قارة اسيا، لكنه ضل الطريق واستقر مقامه في اميركا الوسطى، هناك قابل كولومبس السكان الاصليين لكنه لم يكن يعرف انه كان تائها، ومن ثم اطلق عليهم لفظ “الهنود” معتقدا انه في اسيا وان هؤلاء هم سكان الهند بالفعل[2].
لم يمضِ وقت طويل حتى ادرك كولومبس انه ليس في الهند وانما في ارض “جديدة”، لكن التسمية استمرت كما هي مع اضافة وصف “الحمر” للهنود لميل بشرتهم الى الحمرة عوضا عن البشرة الداكنة للهند الاسيوية، هذا الاصرار على اعادة تسمية السكان الاصليين وفقا للرؤية اوروبية المركز، وكان كل ما هو ليس اوروبي فهو اخر تم تعريفه من قِبَل اوروبا سابقا، وهذا يوضح ان الاوروبيين لم يرتكبوا جرائم بحق شعب باكمله فحسب، بل اعادوا تسميته وتعريفه بالكلية وفقا لرؤية استعمارية بحتة.
كيف نظر الاوروبيون الى الهنود الحمر؟!
تنوعت رؤية الاوروبيين المحتلين نحو الهنود الحمر، لكنها اتفقت جميعا على تصويرهم وكانهم كائنات منحطة بالوراثة واقل منزلة من الانجليز والاسبان وعموم الاوروبيين، هذه النظرة الدونية يمكن اعتبارها الشرط التمهيدي لتجريد السكان الاصليين للاميركتين من انسانيتهم وارتكاب المجازر الوحشية ضدهم.
كانت اوصاف الاوروبيين للهنود الحمر تصل الى درجة اساطير “الزومبي” ومصاصي الدماء، ومثالا لذلك، تخبرنا عالمة الانسانية مارجريت هدجن ان اول كتاب انجليزي عن الهنود الحمر نُشر في عام 1511م “وصف الهنود بالوحوش التي لا تعقل ولا تفكر وتاكل بعضها، بل انهم كانوا ياكلون زوجاتهم وابناءهم”[3].
وفي السياق نفسه يقول الباحث السوري احمد دعدوش: “بعد اكتشاف الاوروبيين للقارة الاميركية وبدء حركة الهجرة والاستيطان، اقترنت ابادة الهنود الحمر برؤية توراتية وعلمانية مزدوجة، فسمى المتدينون البيوريتان (احدى طوائف البروتستانت) انفسهم عبرانيين، وظنوا انهم في مهمة مقدسة لتطهير ارض الميعاد من الكنعانيين.. ولم يختلف الامر كثيرا لدى العلمانيين الذين قدموا لازاحة “الهمج” عن طريق العقلانية والتنوير”[4].
لوحة فنية للفنان البروسي جون جاست رسمها في عام 1872م وسماها بـ “التقدم الاميركي”، حيث الفتاة الاوروبية الشقراء البيضاء وهي تحمل في احدى يديها كتابا يرمز الى التقدم العلمي، وتمسك باسلاك التليجراف باليد الاخرى في اشارة الى التقدم التقني، وتتوسط راسها نجمة السلام والتفوق. تتجه الفتاة قادمة من الشرق الاوروبي المستنير كما في يمين اللوحة الى السكان الاصليين الهمج البدائيين والظلاميين كما في يسار اللوحة، ورسم جاست السكان الاصليين وهم يهربون مستسلمين امام الحداثة الاوروبية التقدمية. وقد اُستُخدمت هذه الصورة في اطار دعائي ايديولوجي واسع داخل اوروبا وخارجها للترويج للسياسة الاوروبية الاستعمارية.
يقول منير العكش، الاستاذ بجامعة سفولك الاميركية: “تعتبر قصة الانجليز الذين اسسوا اول مستعمرة فيما صار يُعرف اليوم في الولايات المتحدة بانجلترا الجديدة، الاصل الاسطوري لكل التاريخ الاميركي.. وما يزال كل بيت اميركي يحتفل سنويا في عيد الشكر (Thanksgiving) بتلك النهاية السعيدة التي ختمت قصة نجاتهم من ظلم فرعون البريطاني و(خروجهم) من ارضه، و(تيههم) في البحر، و(عهدهم) الذي ابرموه على ظهر سفينتهم مع يهوذه، ووصولهم في النهاية الى (ارض كنعان). كل تصورات العبرانيين القدامى ومفاهيمهم عن السماء والارض والحياة والتاريخ زرعها هؤلاء المستعمرون الانجليز في اميركا التي اطلقوا عليها اسم “ارض الميعاد” و”صهيون” و”اسرائيل الله الجديدة” وغير ذلك من التسميات التي اطلقها العبرانيون القدامى على ارض فلسطين.
وقد استمد هؤلاء الانجليز كل اخلاق ابادة الهنود (وغير الهنود ايضا) من هذا التقمص التاريخي لاجتياح العبرانيين لارض كنعان. كانوا يقتلون الهنود وهم على قناعة بانهم عبرانيون فضّلهم الله على العالمين واعطاهم تفويضا بقتل الكنعانيين، وكانت تلك الابادة للهنود، وهي الابادة الاكبر والاطول في التاريخ الانساني، الخطوة الاولى على الطريق الى هيروشيما وفيتنام”[5].
ذبح الهنود على مدار قرون
حط كريستوفر كولومبس قدميه على اراضي القارة الاميركية عام 1492م، ومنذئذ دارت الحروب بين المحتلين الاوروبيين والسكان الاصليين للبلاد ولم تتوقف عجلة الدماء الا مع بدايات القرن العشرين، فتراكمت الجثث وجرت انهار الدم.
بالرغم من انه لا توجد احصائية دقيقة حول اعداد السكان الاصليين الذين كانوا موجودين على اراضي اميركا الشمالية لحظة قدوم الاوروبيين، فان بعض الدراسات تشير الى ان اعداد السكان الاصليين للاميركتين كانت تتراوح بين 10 ملايين الى 100 مليون في عام 1500م، ويرى الكثير من المتخصصين انها كانت نحو 50 مليونا، منهم نحو 15 مليونا من قبائل وعشائر الهنود الحمر في اميركا الشمالية وحدها[6].
ومنذ لحظة قدوم الاوروبيين، بدات اعداد الهنود الحمر تتناقص بسرعة خيالية بسبب الحروب والمجازر الجماعية والمجاعات والاوبئة، حتى وصلت الى اقل من 238,000 هندي احمر فقط مع انتهاء الحرب الاميركية الهندية في القرن التاسع عشر[7]، مما يعني ان القوات الاوروبية ذبحت نسبة اكثر من 95% من السكان الاصليين على الاقل لما يُعرف بالولايات المتحدة الاميركية اليوم، رغم ان بعض الباحثين يرون ان مجموع ارقام القتلى الحقيقية في الاميركتين قد يصل الى 300 مليون قتيل[8].
هذه الابادة الكبرى للهنود الحمر، من 10 ملايين انسان الى 200 الف انسان، لم تكن عشوائية او محض مصادفة، وانما كانت عملية مقصودة خُطّط لها من قِبَل المستعمرين، فكما يرى كلاوس كونور، الاستاذ بجامعة برينستون، فان الانجليز “هم اكثر القوى الاستعمارية الاوروبية ممارسة للابادات الجماعية، فهدفهم في العالم الجديد كاستراليا ونيوزيلاندا وكثير من المناطق التي يجتاحونها هو افراغ الارض من اهلها وتملّكها ووضع اليد على ثرواتها”[9].
ازاحة المذابح من الذاكرة الاميركية
“ان تاريخ المنتصر وحش لا يقوى الا بلحم الفرائس الادمية”
(منير العكش)
عندما يُذكر لفظ “الابادات الجماعية” في المدارس الاميركية، ينصرف ذهن الاميركيين الى محرقة الهولوكست، او الى مذابح الارمن، او السوفيت، او البوسنة والهرسك، لكن لا يتم التفكير ابدا في المذابح التي ارتكبتها الولايات المتحدة الاميركية.
وعندما قرر مجلس الجامعة الاميركي في عام 2012م ان يضيف موضوع مذابح الاميركيين بحق الهنود الحمر في مادة التاريخ الاميركي لطلاب الثانوي، قوبل ذلك باعتراض واسع في جميع انحاء الدولة، حتى اصدرت اللجنة الوطنية الجمهورية بيانا تطالب فيه الكونغرس بالتحقيق في “المنهج الجديد القائم على رؤية خاطئة وغير دقيقة لاحداث كبيرة في التاريخ الاميركي، بما في ذلك دوافع وافعال المحتلين بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر”[10].
اما رجال الكونغرس فقد انضموا الى الجهات الرافضة للمنهج الجديد، واصدروا ادانة لعدم تناول المنهج لمبررات الحرب، والاستثنائية الاميركية، ومصير اميركا الالهي في التوسع.[10]
فلم يتوقف الاحتلال عند احتلال التاريخ فقط، بل طال احتلال الثقافة ايضا، فحتى هذه اللحظة يصور الغرب الهنود الحمر في مختلف وسائل الاعلام في صورة ساذجة لا تختلف عن صورتهم التي رسمها الاوروبيون لهم منذ خمسة قرون مضت، ليتم التغاضي عن مذابح الهنود في المناهج والاعلام الاميركي، في مقابل استمرار نزع انسانية الهنود الحمر عند الجماهير الغربية.
وفي هذا السياق يرى احمد دعدوش ان المهاجرين الاوروبيين “رغم انهم ابادوا عشرات الملايين من السكان الاصليين، فقد استمرت سياسة تنميطهم في الاعلام الاميركي حتى التسعينيات من القرن العشرين، بل حملت عشرات الافلام الكرتونية الموجهة الى الاطفال رسائل الاساءة والتنميط التي يبدو فيها السكان الاصليون على هيئتهم البدائية نفسها التي كانوا عليها قبل اربعة قرون”[11].
لذا يقول المخرج ستيفان فيراكا: “هؤلاء الهنود الذين خلقتهم سينما هوليوود والبستهم ريش الطيور لا يتم اعتبارهم بشرا. ولم يكن الهدف من تصويرهم على هذه الشاكلة ان يكونوا بشرا، لان معظم الاميركيين لا ينظرون اليهم كبشر. وعلينا هنا ايضا ان نتذكر ان كثيرا من الاطفال الاميركيين يعتقدون اليوم ان الريش ينبت في رؤوس الهنود الحمر”[12].
هكذا تتبيّن اكذوبة بناء الولايات المتحدة الاميركية على قيم الحرية والعدالة والمساواة، فالحقيقة ان الدولة الاميركية بدات اولى خطواتها باقسى انواع الارهاب وابادت الملايين من السكان الاصليين للبلاد وارتكبت بحقهم ابشع المجازر واذاقتهم صنوف التعذيب والمعاناة، ثم بعد ذلك كله كتموا المذابح واخفوا الحقيقة التاريخية عن الجماهير، لتبقى صورة الهنود الحمر هي ذاك الرجل البدائي الذي لا يفقه شيئا من الحياة، ليستمر الاجرام الاميركي بحق هؤلاء الناس حتى اليوم.
لذلك فليس من المستغرب تماما ان تقوم حكومة الولايات المتحدة الاميركية بدعم اسرائيل التي ترتكب المذابح في حق الشعب الفلسطيني وتسرق ارضه، فالمبررات التي يعتمد عليها الكيان الصهيوني هي المبررات نفسها التي استخدمها المهاجرون الانجليز من قبل في سرقة ارض السكان الاصليين لاميركا واستباحتهم وابادتهم، ولربما لو فهمنا قصة السكان الاصليين لاميركا وكيف تعاملوا مع الاحتلال الانجليزي نستطيع ان نتعلم منها طرقا فعالة للتعامل مع الصهاينة.ديمقراطية الدماء.. كيف تاسست اميركا على اشلاء السكان الاصليين؟