اخبار اليوم الصحيفة, قراءة في رواية اخبار اليوم الصحيفة, قراءة في رواية
ما ان تفرغ من قراءة رواية دفاتر الطين والدم للزميل الصحفي والكاتب المبدع عبدالحليم غزالي Abdelhalim H. D. Ghazaly عن مراحل زمنية مضت من حياة صعيد مصر حتى يخال لك انك كنت في رحلة في اليمن وليس في الصعيد..الصراعات القبلية ذاتها .. فكرة الثار التي سادت حينها هي نفسها.. الافراح والاتراح.. السلاح والهواجس ..
الخوف والشجاعة ..حكاية الارض والانتماء وتشكيلها هوية المجتمع ..محاولات صنع التحولات من خلال التعليم.. تحديات التحول وصنوف المقاومة..
العادات والتقاليد..السياسة وشجونها .. انها حياة مليئه بالصدق والعنفوان والصراعات القبيلية في تلك المرحلة التاريخية والتي اجاد الزمل غزالي وضعنا في سياقها بصورة مدهشة .. انه يدهشك من قدرة التقاطه كل هذه التفاصيل حد انك تتذوق معه ” الشاي الحلو المر “.. وتعيش تصاعد الخط الزماني وتبدلات الامكنه بين ريف اسيوط ومدينته وتظل مشدودا نحو حامد بطل الرواية وماذا سيصنع في النهاية وما مصير قيمه التي حملها باكرا..
وفي التفاصيل كنت اخشى انهزامه وتراجعه في ظل مرواحته بين موقف تقليدي يعيده الى الوراء واخر تحديثي يجعله صانعا للتغيير لكن تعايشه مع الموقفين جعله ينتج واقعا توفيقيا يمزج بين عدم خسرانه النهائي لقبيلته واهله وناسه وبين تطوير مجتمعه من خلال التعليم وبناء المدرسة ثم استقراره اخيراً في المدينة بما هي رمز للتحول والانحياز لقيم التمدن والحضارة ..
كذلك ظهر هذا الانتصار في انخراط اولاده لاحقا في التعليم الجامعي وهو ما اسس لمرحلة قطف الثمار لنضال اجتماعي ساد حينها لسنوات طوال ..لم يك الامر سهلا بالنسبة لحامد فما ان تظهر تباشير نجاح في مواجهة الثار حتى تظهر عمليات ثار جديدة ومعها تصعب مهمة النضال الاجتماعي وتتعقد اكثر ليجد البطل نفسه اشبه مايكون وسط حقل الغام اجتماعية هي نفسها مرتبطة بحقول الزرع وخلافاتها وماينجم عنها من ثارات.. في النهاية كان حامد محمود ابوسعدواي الخارج عن ” الملةالطيناوية” على حد تعبير الكاتب رمزا للشخصيات المؤثرة التي تنجح وتسجل انتصارها في مسار طويل من التحولات الاجتماعية رغم العثرات والتردد احيانا.
حدث ذلك ويحدث ايضا في اليمن وان كان السير في اليمن يبدو بطيئا ومتدرجا بالنظر الى فارق بدايات حركة التطور الحديثة..
الرواية اتخذت من موضوع الثار محورا اساسيا لكنها في الواقع ذهبت ابعد من ذلك في تقديم حياة مجتمع صعيد مصر ببساطته وانفعالاته وتفاعلاته وحتى تعاطيه مع السياسة ومصادر الاخبار ..تعرف ايضا عن قرب حياة اهالي اسيوط عموما وتحديدا النجوع وعرب الجبالات .. تقرا واقع القبائل والمهمشين وجانب من الاضطهاد لفئات اجتماعية القائم انذاك .. تكون انطباعا عن ناس المنيا وضمنها ملوي حيث استقر حامد لسنوات.. وتعرف قليلا عن قنا.. فتعرج على بعض التباينات بين المناطق في اطار الصعيد نفسه لكن الثار يظل عاملا مشتركا غالبا ماكان يؤجل عملية التغيير ..تذهب مع دفاتر الطين والدم الى تفاصيل تختزل عقودا من الزمن ..ملامح الاربعينيات وربما قبلها وارهاصات الخمسينات وملامح الستينات وحتى تصل السبعينيات..تمر على هذه العقود بما فيها من انتصارات وانتكاسات.. من ارتفاع سقف الطموحات وانخفاضه..الاماني والخيبات.. انها حياة متدفقة يجعلك تتفق مع الكاتب من ان الحياة بدون العنفوان لاتحمل معنى.
يكشف غزالي بالاضافة الى مهارته الصحفية عن قدرات سرد ادبية لافتة تجعلك تعيش اجواء تلك الحقبة كما لو انك جزءٌ منها…صحيح في النهاية لاتعرف كيف اختفى البطل لكن هذا الرحيل الغامض هو ايضا لاجل ان تبقى قيم الرجل المدنية حيّة ومستمرة فلاتنتكس ولاتغيب بل ينبغي ان تنتصر وتسود ..واغلب الظن ان غزالي هو بصورة او باخرى ابن بيئة هذه الرواية فوثق بحس ابداعي مجرياتها وامسك بخيوطها رغم انه من مواليد 1964م ولقد بلغ بنا نهاية بديعة تفتح لنا خيارات التحليل وخيالات التوقع..يقول غزالي في نهاية الرواية عن البطل حامد وقد اختفى فجاة:
“هناك من تحدث عن الثار والتربص، وهناك من تكلم عن حوادث سير، وهناك من احكم تغليف الاختفاء بخيالات سخية.. هناك من جعل منه مسيحًا اخر رفع الى السماء، وهناك من امطر صوره الراحلة في الذاكرة بانهار من الدموع، ومن زرع حقولًا من الالام والشكايات والاحزان، وهناك من طارد غيابه باللعنات، بل ونبتت اساطير في جروح الطين ودروب التشتت، لكن الثابت انه اصبح مثل نجم بعيد، لا يغادر براح الذكريات الفسيح في النجوع الغربية وما حولها، تحوم حول سيرته الحاضرة دومًا جيوش الاسئلة، تمامًا مثل ما كان في حياته! ”
انتهى الاقتباس.
هل كان هذا والدك ياغزالي؟! لانعرف لكنك تعرفه تماما .. تماما تعرفه كما تعرف نفسك ومخيالك.
تحياتنا لك ياغزالي ولابداعكقراءة في رواية دفاتر الطين والدم لعبدالحليم غزالي