اخبار اليوم الصحيفة, لماذا كان زمن اخبار اليوم الصحيفة, لماذا كان زمن
في حين شهد تاريخ الكتابة الموسوعية في اوروبا القرون الوسطى عناية واهتماما بالغين، لا تزال اغلب الموسوعات العربية غامضة نسبيا ومحدودة الانتشار رغم كونها تعود لعصور مبكرة، ويرى بعض الباحثين ان مؤلفات للجاحظ وابن قتيبة يمكن اعتبارها اولى الموسوعات العربية.
ويوصف العصر المملوكي في مصر والشام (1250-1517/ 648هـ -923 هـ) بانه العصر الذهبي للادب الموسوعي العربي، اذ الفت فيه الموسوعات على نطاق واسع من قبل علماء مرموقين مقربين من البلاط السلطاني، مثل شهاب الدين النويري وابن فضل الله العمري وابي العباس احمد بن علي القلقشندي وجمال الدين الوطواط وغيرهم.
وبخلاف النظرة التقليدية لعصر ما بعد المغول كزمن انحطاط وانحدار واستنزاف للثقافة العربية، تُلقي دراسة الموسوعات التي ازدهرت في زمن المماليك ضوءا على الادب المملوكي والمعرفة البديلة التي وجدت في الشام ومصر بديلا لها عن بغداد التي سحقتها جيوش التتار ودمرت مكتباتها.
وعرف التراث العربي كذلك رسائل اخوان الصفاء وخلان الوفاء في القرن العاشر الميلادي، وتناولت رسائلهم الـ52 مواضيع في الرياضيات والطبيعة وعلوم النفس والاديان والفلسفة، كتبت بلغة ادبية بليغة وقُسّمت لاربعة اقسام مرتبة، وكذلك عرف التراث العربي اعمالا موسوعية مبكرة مثل عيون الاخبار لابن قتيبة ومفاتيح العلوم لمحمد الخوارزمي.
وكتب الجاحظ (المتوفى 868 للميلاد/255هـ) سفره الكبير “الحيوان”، وضمنه اخبار الحيوانات وطباعها، وناقش موضوعات فلسفية وعلمية مثل الكمون والتولد، والجواهر والاعراض، وفي “البيان والتبيين” قدّم مختارات نثرية وشعرية مبينا اسس البيان وفلسفة اللغة.
ويشكل الكتابان معا، وكذلك اعمال ابو الحسن المسعودي في القرن العاشر الميلادي ( المتوفى سنة 346 هـ)، ما يمكن اعتباره بدايات مبكرة للتقاليد الموسوعية العربية.
انتقال المراكز
اثار غزو المغول عام 1258 للميلاد (656 هـ) خوفا لدى العلماء دفعهم لكتابة موسوعات بهدف الحفاظ على تراث السابقين، وسط شعور عام بعدم الامان وتوالي الكوارث على الحواضر العربية بما في ذلك الطاعون الكبير او الموت الاسود 1348 للميلاد (756 هـ).
وتقول الرواية التقليدية انه بعد سقوط بغداد، ورثت بلاد الشام والقاهرة دورها كمركز ثقافي للعالم الاسلامي، وفرّ العلماء والشعراء من العراق، ليجدوا في المدن المملوكية ملاذا بديلا.
وبعد قرنين ونصف من دمار بغداد، كتبت الموسوعات العربية -التي تعكس قلقا على دمار المعرفة- في خضم الخوف من مصير مشابه لكتب ومخطوطات بغداد التي احرقت او القيت في نهر دجلة.
ومع ذلك ينقل الاكاديمي المختص بالادب المقارن الياس مهنا عن الرحالة الاندلسي ابن جبير (المتوفى 1217 للميلاد/617هـ) وصفه لبغداد بانها فقدت الكثير من معانيها وبقيت “كالظل الدارس، والاثر الطامس، او تمثال الخيال الشاخص، فلا حسن فيها يستوقف البصر ويستدعي من المستوفز (المتعجل) العقلة (الوقوف) والنظر”.
ويرى مهنا ان مصطلح الموسوعة لم يكن رائجا قبل القرن الثامن عشر، اذ استعمل للاشارة الى الاعمال المرجعية الضخمة التي تمكّن من الانتقال بين التخصصات المختلفة بسهولة، ومع ذلك فقد جرى لاحقا تصنيف عدد من الاعمال القديمة كموسوعات.
ويمكن الاشارة الى “روح موسوعية” ميزت مجموعة من المؤلفات العربية الكبيرة، وخاصة في القرن 14 للميلاد الذي اعتبر عصرا ذهبيا لهذا التقليد الفكري.
ولم يبدا تقليد كتابة الموسوعات العربية في العصر المملوكي، لكن اعمال القرن 14 الميلادي تتميز بنطاقها الموضوعي الواسع، وتنظيمها وترتيبها المنهجي وتنوع مصادرها، وهي السمات التي في مجملها تكسب ادبيات هذا القرن صفحتها الموسوعية المميزة.
وعُرف هذا القرن كذلك بالعدد الكبير من الاعمال الموسوعية التي تم تاليفها في ظل رعاية سلاطين المماليك، كنشاط سائد للنخبة المصرية والشامية في ذلك العصر.
مدن المماليك المستقرة
توفر في المدن المملوكية نوع من الاستقرار والامان في ظل امبراطورية فتية، وفي حين سعى المماليك للتوسع، تزايد الاهتمام بالاداب التاريخية والجغرافية ووصف الاراضي البعيدة والمتنوعة من الهند الى مالي واثيوبيا والاندلس، ووجد كثير من العلماء فرص عمل في بلاط المماليك المزدهر، مما مكنهم من لقاء المسافرين والرحالة من جميع انحاء العالم الاسلامي والمتوسطي.
وعمل المؤرخ والاديب الدمشقي ابن فضل الله العمري في بلاط السلطان الناصر قلاوون، وتراس ديوان الانشاء الذي يتولى تحرير كتب الخليفة ورسائله، مما سهّل عليه كتابة موسوعته “مسالك الابصار في ممالك الامصار” التي تناول فيها جغرافيا المسالك والاقاليم والبحار، وطبقات الفقهاء واللغويين والفلاسفة والاطباء، والموسيقى والشعر، والحيوان والنبات والاعشاب، والمعادن والاحجار، والمذاهب والاديان، وتاريخ الملوك وغيرها من الموضوعات.
ولم يكن العمري فريدا من نوعه، فقد عمل كتاب موسوعيون اخرون في ذلك القرن على مقربة من البلاط المملوكي او كموظفين فيه، وشهدت الفترة المملوكية ارتفاعا كبيرا في عدد المؤسسات التعليمية والمدارس الدينية في المراكز الحضرية، وانتشر الرحالة والمسافرون والباحثون العلميون المتفرغون على حد سواء في المدن المملوكية.
واكتسب هذا النشاط طابعا مؤسسيا بشكل متزايد في العصر المملوكي، عبر تحديد مناصب ووظائف تعليمية باجر من قبل المسؤولين المماليك، بحسب دراسة الاكاديمي اللبناني الياس مهنا المنشورة ضمن كتاب “الموسوعية من العصور القديمة وحتى عصر النهضة” الصادر عن مطبعة جامعة كامبريدج.
وفي القرن الرابع عشر للميلاد كذلك، كتب شهاب الدين النويري -الذي ولد في بني سويف المصرية ودرس بالقاهرة المملوكية- موسوعته الضخمة، وكان النويري قريبا كذلك من الناصر قلاوون، اذ عمل في بلاطه في مهام الكتابة والحسبة والمقايسات، ودوّن موسوعته “نهاية الارب في فنون الادب” في 33 مجلدا وقرابة 4500 صفحة، وفيها فصول عن الجغرافيا والانسان وعلومه والحيوان والنبات والتاريخ من ادم وحتى عصره.
التقاليد الموسوعية
وعرفت طبقات المثقفين في الزمن المملوكي بتقاليدها العلمية التي تمزج ثقافات مختلفة ومعارف واسعة، واشتهر علماء ذلك العصر بالموسوعية والطلاقة في مجالات متعددة، وعكست الموسوعات المملوكية هذه الروح التي تمثل عودة لتقاليد عربية ويونانية اقدم.
وكتب ابو العباس القلقشندي الذي تولى ديوان الانشاء في عهد السلطان المملوكي الظاهر برقوق، موسوعته المكونة من 14 جزءا “صبح الاعشى في صناعة الانشا”، وفيها مواضيع وفصول عن انظمة الحكم والادارة والسياسة والمكتبات، والتقاليد والملابس في المشرق العربي، وتاريخ الدواوين والوزارات، وفنون الكتابة، وملابس الجنود واسلحتهم، والالعاب الرياضية، ومظاهر المجتمع العربي، وكذلك علم الخط وادواته.
واعتبرت موسوعة القلقشندي دليلا شاملا في فن الكتابة الرسمية للدولة وفنون التراسل والمخاطبة المكتوبة، وترجمت اجزاء منها للغات اوروبية.
ونتج عن زيادة القراءة والكتابة بين “الطبقات الوسطى” في مجتمع المماليك سوق كتب نابضة بالحياة، توفر بدائل للباحثين لكسب المعيشة عبر الكتابة والتاليف.
وبكل المقاييس، كان هذا هو الوقت المناسب للعمل في مجال الكتاب وصناعة التاليف، وقد ترك النويري وظيفة مرموقة في الادارة المملوكية لكي يعمل ناسخا للمخطوطات الشعبية بينما كان يكتب موسوعته الضخمة.لماذا كان زمن المماليك عصرا ذهبيا للموسوعات العربية؟