queenarwauni

اسس تنظيما سريا لاسقاط العباسيين فصلبوه ثلاث مرات وقطعوه واحرقوه.. الحلّاج صوفي ثائر ام زنديق مارق؟

اخبار اليوم الصحيفة, اسس تنظيما سريا اخبار اليوم الصحيفة, اسس تنظيما سريا

“ثلاث علامات من اجتمعن له كان من عظماء الرجال، وكان له حقُّ في الخلود: فرط الاعجاب من محبيه ومريديه؛ وفرط الحقد من حاسديه والمنكرين عليه؛ وجوٌّ من الاسرار والالغاز يحيط به كانه من خوارق الخلق الذين يحار فيهم الواصفون…، فيردون تلك القدرة تارة الى الاعجاز الالهي، وتارة الى السحر والكهانة”؛ هذه ثلاثيّة الخلود التي وضع قانونها عباس العقّاد (ت 1964هـ) في كتابه ‘رجعة ابي العلاء المعري‘، ونراها نحن مجتمعة في الشخصية التي جعلناها موضوع مقالتنا هذه: الحسين بن منصور الحلاج الفارسي (ت 309هـ).
وقصدنا في هذا المقال ان نكشف عن حال الحلاج، ونجعل لقارئ سيرته نهجا في شانه يسير عليه بحيث لا يشكل عليه اختلاف الناس ولا تباين اقوالهم وارائهم في ابي منصور. وحاصل مقالتنا ان الحلاج صوفي سُنِّي، وقائد لحركة سياسية سرية، تروم خلع بني العباس ونقض خلافتهم. وسنبدا بذكر اختلاف الاراء فيه، ثم نعرّج على معتقده وسبب اضطراب الناس فيه، ثم نلقي نظرة على حياته السياسية والاشكال الذي طرا للناس في فهم حركته ومراسلاته.
تصور مشوش
غلا المنكرون على الحلاج حتى كفّره طائفة من العلماء في عصره وقالوا: “قُـتِـل الحلاجُ بسيف الشرع على الزندقة”، والّف في “زندقته” اعلام مثل الامام الذهبي (ت 748هـ) –وهو صاحب العبارة المتقدمة- الذي يقول عن الحلاج “جمعتُ بلاياه في جزاين”. وقبله صنّف ابن الجوزي (ت 597هـ) ‘القاطع لمِحال اللِّجاج القاطع بمُحال الحلاج‘؛ ثم جاء في عصرنا المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون (ت 1962م) فجعله مسيحًا ثانيًا بعد عيسى بن مريم عليه السلام.
وقد روت كتبُ الطبقات عن الحلاج خوارق ومعجزات يحار فيها الذهن حتى صيّره بعضهم “الهًا”، ونُسبت اليه احوال واقوال غامضة توارت حقيقتها حتى عن اهل بيته؛ يقول ابنه حمد بن الحلاج: “ثم دعا الناس لشيء لم اقف على حقيقة امره”؛ كما روى ابن باكويه الشيرازي (ت 428هـ)، والاخير لعله اول من افرد للحلاج تاليفًا يضم ترجمته واخباره، وقد وصف الذهبي ابن باكويه هذا بانه “الامام الصالح المحدث شيخ الصوفية”.
لقد كان الحلاج طِلَسْمًا من طلاسم تراثنا وشخصية جدّ محيّرة لدارسيه، ولا نجد نصًا يحكي هذه الحيرة في امره كنص للذهبي اورده في ترجمته، يعرض فيه الاحتمالات الثلاثة لموقف الناس منه، مع ميله هو الى اثبات زندقته.
يقول الذهبي: “فتدبر -يا عبد الله- نحلة الحلاج الذي هو من رؤوس القرامطة ودعاة الزندقة، وانصف وتورّع…؛ فان تَبَرْهَنَ لك ان شمائل هذا المرء شمائل عدوّ للاسلام، محبّ للرئاسة حريص على الظهور بباطل وبحق، فتبرا من نحلته؛ وان تبرهن لك -والعياذ بالله- انه كان… محقًّا هاديا مهديا، فجدد اسلامك واستغث بربك ان يوفقك للحق…؛ وان شككت ولم تعرف حقيقته وتبرات مما رُمي به ارحت نفسك، ولم يسالك الله عنه اصلا”.
والذهبي عندنا متهمٌ عموما على الشخصيات الجدلية من اهل التصوّف. فمع وضعه لقاعدة ذهبيّة في حال المختلَف فيهم؛ فانه لم تطب نفسه بالترحم على الحلاج والاستغفار له. وتجاهل ما سطره -قُبيل نصه السابق بسطرين- حيث يقول: “ان مَن كان طائفة مِن الامة تضلله، وطائفة من الامة تُثني عليه وتبجله، وطائفة ثالثة تقف فيه وتتورع من الحط عليه؛ فهو ممن ينبغي ان يُعرَض عنه، وان يفوَّض امرُه الى الله، وان يستغفَر له في الجملة، لان اسلامه اصلي بيقين وضلاله مشكوك فيه؛ فبهذا تستريح ويصفو قلبك من الغلّ للمؤمنين”.
شواهد تزكية
الحلاجُ صوفيّ سُنيّ، ومن زعم انه صوفي حلوليّ او من متصوفة الفلاسفة او قرمطي فقد اخطا وابعد التاويل، واغفل الادلة الواضحة؛ هذه هي الدعوى التي نقيمها هنا ونستدل لها من وجوه عدة:
اولها: مصادر تصوّفه؛ فهي مصادر سُنيّة لا خلاف في سنيّتها بشهادة الذهبي نفسه. فاول شيخ تتلمذ عليه كان سهل بن عبد الله التستري (ت 283هـ)؛ قال عنه الذهبي في ‘سير اعلام النبلاء‘: “شيخ العارفين.. الصوفي الزاهد..، له كلمات نافعة، ومواعظ حسنة، وقدم راسخـ[ـة] في الطريق”. ثم تتلمذ على عمرو بن عثمان المكي (ت نحو 300هـ) الذي وصفه الذهبي بانه: “الامام الرباني شيخ الصوفية ابو عبد الله المكي الزاهد”. كما كان من شيوخ الحلاج ابو القاسم الجنيد البغدادي (ت 298هـ) المعروف مقامه في التصوف السنيّ.
ومن مشايخه ايضا ابو الحسن النوري (ت 295هـ) الذي قال عنه الذهبي في ‘السير‘: “شيخ الطائفة بالعراق، واحذقهم بلطائف الحقائق، وله عبارات دقيقة يتعلق بها من انحرف من الصوفية”. وقد قُبض على النوري في زمن الخليفة المعتضد (ت 289هـ) بتهمة الزندقة، فلما عُرض النوري على قاضي القضاة اسماعيل بن اسحق المالكي (ت 282هـ) وناقشه، قال القاضي: ان كان هؤلاء القوم زنادقة فليس في الارض موَّحِّد”!! ونحن نعلم ان الزندقة كانت -في اغلب الاحيان- تهمة جاهزة في خزانة السلطة ترمي بها كل معارض لها، وهو ما سيتضح لنا من سيرة الحلاج ايضا.
ثانيها: صحة عقيدة المزكِّين للحلاج وسنّيتهم. ووفقا للذهبي؛ فقد “قال السلمي (النيسابوري مؤلف ‘طبقات الصوفية‘ المتوفى سنة 412هـ): “اكثر المشايخ ردّوا الحلاج ونفوْه، وابوْا ان يكون له قَدَم في التصوف، وقَبِـلَهُ ابنُ عطاء (ت 309هـ)، وابنُ خفيف (ت 371هـ)، والنصراباذي (ت 367هـ)”. فمَن هم هؤلاء المشايخ الذين قبلوا الحلاج في صفوف ائمة التصوف ورفضوا اتهامه بالزندقة والكفر؟ اليك تراجمهم لدى ائمة المحدّثين واولهم الذهبي نفسه:
فاولهم ذِكْراً ووفاةً هو ابو العباس ابن عطاء البغدادي الذي انتقد عليه الذهبي دفاعه عن الحلاج، لكنه مع ذلك وصفه بانه “الزاهد العابد المتاله”. وحسب الذهبي؛ فان ابن عطاء “امتُحن بسبب الحلاج” فكانت وفاته بسبب تعذيب السلطات اياه عقوبةً له على دعمه للحلاج. بل ان الخطيب البغدادي (ت 463هـ) يقول في ‘تاريخ بغداد‘: “سُئِل ابنُ عطاء عن مقالة الحلاج فقال بمقالته، فكان [ذلك] سبب قتله”!
وثانيهم ابن خفيف؛ وهو محمد بن خفيف الضبي الشيرازي الشافعي شيخ ابن باكويه الذي قدمنا انه اول من خصص كتابا لترجمة الحلاج. وقد نقل ابن عساكر –في كتابه ‘تبيين كذب المفتري‘- عن السلمي انه وصف ابن خفيف فقال: “هو اليوم شيخ المشايخ..، لم يبقَ للقوم اقدم منه سنًّا ولا اتمّ حالًا ووقتًا…، ولقي الحسين بن منصور (= الحلاج)، وهو من اعلم المشايخ بعلوم الظاهر متمسكًا بعلوم الشريعة من الكتاب والسنة”.
ووصف الذهبيُّ ابن خفيف في ‘السِّير‘ بانه: “الشيخ الامام العارف الفقيه القدوة.. ذو الفنون.. شيخ الصوفية”، وانه “جمع بين العلم والعمل وعلو السند والتمسك بالسنن، ومُتّع بطول العمر في الطاعة”. اما السبكي فيقول عنه -في ‘طبقات الشافعية‘: “بلغ ما لم يبلغه احد من الخلق في العلم والجاه عند الخاص والعام، وصار اوحد زمانه مقصودًا من الافاق..، مباركًا على من يقصده”.
دفاع مستميت
فمتى علمتَ حال ابن خفيف هذا فقد لزمك ان تعرف رايه في الحلاج الذي التقى به؛ فقد قال عنه: “رجلٌ من المسلمين، ان كان الذي رايته منه في الحبس لم يكن توحيدًا فليس في الدنيا توحيد”!! وقد ذكر الجنيد الحلاجَ بسوء في مجلسه -وسنبين لك فيما ياتي سبب تحول الجنيد من موقع الاستاذ للحلاج الى موقع الذامّ له- فانبرى له ابنُ خفيف يدافع عن الحلاج، ويقول: “يا شيخ لا تطوّل! ليس اجابة الدعاء والاخبار عن الاسرار من النيرنجات (= نوع من حركات الخفة والحِيل شبيه بالسحر) والشعبذة والسحر”.
وعند ابن كثير في ‘البداية والنهاية‘: “انشِد لابي عبد الله ابن خفيف قولُ الحلاج:
سبحان من اظهر ناسوته ** سِرَّ سَنَا لاهوته الثاقب
ثم بدا في خلقه ظاهرا ** في صورة الاكل والشارب
حتى لقد عاينه خلقُه ** كلحظة الحاجب بالحاجب
فقال ابن خفيف: على مَن يقول هذا لعنة الله! فقيل له: ان هذا من شعر الحلاج، فقال: قد يكون مَقُولاً عليه”!!
وثالث الثلاثة النصراباذي؛ وهو ابو القاسم ابراهيم بن محمد النصراباذي الذي قال في معرض دفاعه عن الحلاج: “ان كان بعد الصدّيقين موحدٌ فـ[هو] الحلاج”؛ وفقا لما نقله عنه السلمي النيسابوري في ‘طبقات الصوفية‘. وقد وصف هناك النصراباذي بانه “كان شيخ الصوفية بنيسابور، له لسان الاشارة مقرونا بالكتاب والسنة”. وقال الذهبي عن النصراباذي انه “الامام المحدِّث القدوة الواعظ شيخ الصوفية”.
وممن زكّى الحلاجَ ايضا: ابو العباس ابن سُريج (ت 306هـ) شيخ الشافعية ببغداد الذي كان يُلقَّب “الشافعي الصغير”؛ كما قال السبكي في ‘طبقات الشافعية‘، وحال ابن سُريج ومكانته في اهل السنة اشهر من ان يُستدل لها. فقد رفض ابن سريج الانخراط في الحملة المبكرة التي قادها الامام ابو بكر محمد بن داود الاصبهاني الظاهري (ت 297هـ) لاقناع السلطات بكفر الحلاج ووجوب قتله، وهو ما يدل عليه نقلُ الذهبي –في ‘السير‘- لقول “السلمي: سمعت علي بن سعيد الواسطي بالكوفة يقول: ما تجرّد احد على الحلاج وحمل السلطان على قتله كما تجرد له ابن داود”!
واورد ابن زنجي (ت 334هـ) -في رسالته ‘ذكر مقتل الحلاج‘- شهادة ابن سريج في الحلاج على النحو التالي: قال “الواسطي: قلتُ لابن سريج: ما تقول في الحلاج؟ قال: اما انا فاراه حافظًا للقران عالمًا به، ماهرًا في الفقه، عالمًا بالحديث والاخبار والسنن، صائمًا الدهر، قائمًا الليل، يعظ ويبكي، ويتكلم بكلام لا افهمه؛ فلا احكم بكفره”. وافاد ابن الوردي المعري الكندي (ت 749هـ) في تاريخه بـ”ان ابا العباس بن سريج قال عنه (= الحلاج): هذا رجل خفي علي حاله وما اقول فيه شيئا”.
تاييد حنبلي
ثالثًا: المترجِمون له: لعل ابا عبد الرحمن السلمي -في ‘طبقات الصوفية‘- وابن باكويه هما اول من ترجم لابي منصور الحلاج. اما ترجمة السلمي في طبقاته فتخلو من كل ما يوجب الحكم عليه بالزندقة والتكفير، كما تخلو من حكاية الخوارق والكرامات، ولم يذكر سوى اختلاف اهل التصوف فيه على النحو الذي ذكرناه سابقا.
واما ابن باكويه فسنده عالٍ في الحكاية عن الحلاج، اذ ينقل حياته من رواية ابنه حمد. وهي رواية خاليةٌ من الخوارق والكرامات، ولو وُجدت تلك الخوارق -التي تغصّ بها كتب التراجم المتاخرة- لكان الولد احرص الناس على ذكر كرامات ابيه. ثم نجد الامر فيمن بعدهم تطغى عليه نزعة الاسْطَرَة، او التكفير والنسبة الى الحلول والاتحاد.
رابعًا: كلامه هو عن نفسه: فقد اورد ابن الساعي (ت 674هـ) -في كتابه ‘اخبار الحلاج‘- نقلا عن تلميذ الحلاج احمد بن فاتك الصوفي ان الحلاج كان يقول: “من ظن ان الالهية تمتزج بالبشرية، او البشرية بالالهية فقد كفر”. وقال:
انا سِرُّ الحق! ما الحقُ انا ** بل انا حقٌ ففرِّق بيننا
وقال في مجلس محاكمته: “ظهري حِمَى، ودمي حرام، وما يحل لكم ان تتاولوا علي، واعتقادي الاسلام، ومذهبي السنة، فالله الله في دمي”!!
خامسًا: كلام من اتصل به من الاتباع عن صحة اعتقاده؛ فقد جاء في ‘اخبار الحلاج‘ ايضا قول ابراهيم الحلواني: “خدمت الحلاج عشر سنين، وكنت من اقرب الناس اليه. ومن كثرة ما سمعت الناس يقعون فيه، ويقولون انه زنديق توهمت في نفسي، فاختبرته: فقلت له يومًا يا شيخ اريد ان اعلم شيئًا من مذهب الباطن! فقال….: يا بُني! اذكر لك شيئًا من تحقيقي ظاهر الشريعة: ما تمذهبت بمذهب احد من الائمة جملة، وانما اخذت من كل مذهب اصعبه واشده، وانا الان على ذلك”. كما نجد ان ابا القاسم القشيري (ت 465هـ) -وهو امام عمدة لدى اهل التسنن- ينقل في رسالته ‘القشيرية‘ نصًا طويلا للحلاج في توحيد الله.
وبعد مقتل الحلاج بقرن ونصف؛ وجدنا ائمة كبارا يدافعون عن الحلاج حتى من داخل المذهب الحنبلي؛ فهذا الامام ابن عقيل الحنبلي “صنّف في مدح الحلاج جزءا في زمان شبابه تاول فيه اقواله وفسّر اشعاره واعتذر له”؛ وفقا لما قاله سبط ابن الجوزي (ت 654هـ) في ‘مراة الزمان‘. بل ان ابن عقيل نفسه اعترف بتاييده للحلاج وان “تراجع” عن ذلك حين “استتابته” السلطة العباسية بضغط من زملائه في المذهب الحنبلي.
فقد جاء في وثيقة هذه “الاستتابة” -التي حفظ لنا نصَّها ابنُ الجوزي في ‘المنتظم‘ نقلا عن خط ابن عقيل- قولُ الاخير: “واعتقدتُ في الحلاج انه من اهل الدين والزهد والكرامات، ونصرتُ ذلك في جزء عملته، وانا تائب الى الله تعالى منه، وانه قُـتِل باجماع فقهاء عصره، واصابوا في ذلك واخطا هو”. مع ان نص ابن عقيل هذا –حتى وان سلمنا بصدوره منه بدون اكراه- لا يتضمن حكما بالزندقة او الكفر على الحلاج وانما يصفه فقط بانه “اخطا”.
اسباب الاضطراب
فان قلت لي: لماذا وقع الاضطراب في حال الرجل.. والامر كما تذكره من سنيته؟! قلتُ لك ان ذلك يعود الى ان الحلاج اكتنف حياتَه غموضان: صوفي وسياسيّ؛ ومتى ادركتَ حقيقة هذين الغموضين فاعلم ان اكثر ما رُوي عن الحلاج -واستشكله العلماء- خارج من هذين البابين.
اما الغموض الاول فلكون الحلاج رجلا من الصوفيّة كان يقع له من الاحوال والكشوف ما لا يحسن التعبير عنه ونقله الى لغة الناس المفهومة لهم، فكشوف اهل التصوف ومشاهداتهم -في حال ما يصفونه هم بـ”الفناء وتجلي الحق”- تدقّ عن الوصف، فمتى عبّر الانسان عنها بلغة البشر المستمدة من عالمهم “وشطح” وقع في اشكال، ولذلك قال ابن خلدون -في مبحث التصوف من كتابه ‘المقدمة‘- ان “العبارة عن المواجِد صعبة لفقدان الوضع [اللغوي] لها”.
ولا سيما حديث الصوفية عن احوال “الفناء وتجلي الحق” التي يصفها ابن القيم (ت 751هـ) -في ‘مدارج السالكين‘ بقوله: “الفناء الذي يشير اليه القوم ويعملون عليه: ان تذهب المحدثات في شهود العبد، وتغيب في افق العدم كما كانت قبل ان توجد، ويبقى الحق تعالى كما لم يزل، ثم تغيب صورة المشاهد ورسمه ايضًا، فلا يبقى له صورةٌ ولا رسمٌ، ثم يغيب شهوده ايضًا فلا يبقى له شهودٌ، ويصير الحق هو الذي يشاهد نفسه بنفسه، كما كان الامر قبل ايجاد المكونات، وحقيقته ان يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل”.
ويصف شيخ الاسلام ابن تيمية (ت 728هـ) -في مجموع رسائله- هذه الحال فيقول: “وقد يعرض لبعض العارفين في مقام الفناء والجمع والاصطلام (= فقْد الادراك بسبب الجذب الصوفي) والسُّكْر -بقوة استيلاء الوجد والذكر عليه- من الحال ما يغيب فيه عن نفسه وغيره”. وبهذا ايضا اعتذر ابو حامد الغزالي (ت 505هـ) -في بعض كتبه مثل ‘مشكاة الانوار‘- للحلاج في تعبيره عن حال الفناء: “فمن حقق من الصوفية وعلم وقوف الاشياء عليه [اي الله عز وجل]، وان الامور لا قوام لها دونه؛ قال: ما في الجبة الا الله، وقال: انا الحق مبالغةً في التوحيد”. فكلام الصوفيّ اذن عن تلك الاحوال يوجب التهمة له عند العوام.
اما الغموض الثاني فهو الغموض الذي تفرضه طبيعة الحركات السرية السياسيّة؛ ونحن نرى ان الحلاج كان مما يمكن تسميته ‘تيار الصوفية السياسيّة‘، الذي يروم اصحابه انتزاع الحكم من بني العباس ورده الى ال عليّ ابتداءً، ثم صار لاحقا يدعو الى نفسه. والعمل السرّي يستلزم بعض الغموض في التحركات والمراسلات والترميز الذي لا يفهمه الا المنتسبون الى حركاته.
دعاية سوداء
لقد تتبعنا الروايات التي تقدح في الحلاج ويُطعن عليه بها فوجدنا اكثرها يدور على خصوم له. وقد تعدد هؤلاء الخصوم؛ فمنهم مَن كان موظفًا عند الدولة التي ثار عليها الحلاج فروايتهم عنه من باب “الدعاية السوداء”. ومن هؤلاء ابو القاسم التنوخي (ت 342هـ) والصولي (ت 335هـ) وعمرو بن عثمان المكي؛ وهذا الاخير تولى قضاء جدة فصار موظفًا للدولة بعد اذ كان شيخًا للحلاج، وكان يكتب الى الامصار بتكفير الحلاج.
وبعضهم غاظهم تصدُّر الحلاج واشتهاره حين “وقع له عند الناس قبول عظيم حتى حسده جميع مَن في وقته”؛ كما يقول ابنه حمد. ومن هذه الفئة ابو يعقوب النهرجوري (ت 330هـ) الذي يحكي حمد بن الحلاج سبب حسده لابيه؛ فيقول: “وخرج [الحلاج] ثانيًا الى مكة ولبس المرقّعة والفُوطة، وخرج معه في تلك السفرة خلق كثير [من اتباعه]، وحسده ابو يعقوب النهرجوري فتكلم فيه بما تكلم”!
ومن هؤلاء ايضا الجنيد البغدادي الذي كان شيخ الطائفة الصوفية. ولا ينبغي لنا ان نغفل عن غريزة التحاسد بين العلماء والمشايخ، ولنتذكر القاعدة الذهبية التي اهداها الينا امام الواعظين ابن الجوزي بقوله في ‘صيد الخاطر‘: “فاذا راك من يعتقدك مِثْلا له -وقد ارتقيت عليه- فلا بد ان يتاثر، وربما حسد؛ فان اخوة يوسف عليهم السلام من هذا الجنس”!!
والجنيد -في تقديرنا- انه كان على هرم تنظيم التصوف السياسي، وكان الحلاج من اتباع هذا التنظيم بادئ الامر؛ فقد كان يتلقى الاوامر من الجنيد في تدبير احواله. يحكي لنا حمد بن الحلاج فيما يرويه عنه ابن باكويه: “ثم اختلف والدي الى الجنيد بن محمد، وعرض عليه ما فيه من الاذيّة لاجل ما جرى بين ابي يعقوب [النهرجوري] وبين عمرو [المكي]، فامره بالسكوت والمراعاة؛ فصبر”.
ثم بعد عودة الحلاج من مكة ازداد اتباعه وعظم نفوذه، ويبدو انه كان متهورًا واكثر جراة من خط الجنيد المؤْثِر للسريّة والبطء. فلما راه الجنيد ذا اتباع وميل الى الرئاسة اتهمه بالادعاء وتنكّر له، فاستقل الحلاج بنفسه. قال حمد ابنه: “ورجع الى بغداد مع جماعة من الفقراء الصوفية، فقصد الجنيد بن محمد وساله مسالة فلم يجبه، ونسبه الى انه مدّعٍ فيما ساله، فاستوحش واخذ والدتي ورجع الى تُسْتَر (= مدينة تقع الان غربي ايران)”. وهناك في تستر عظُم امر الحلاج وتمددت قاعدته الشعبية.
حركية سياسية
كان للصوفية –خلال النصف الثاني من القرن الثالث الهجري- مزاجٌ عَلَويٌ واضح، وهذا عائد لامرين اثنين؛ اولًا: سندهم العلميّ -او ان شئت الطُّرُقي- الذي يذهبون به الى علي بن ابي طالب رضي الله عنه. واسنادهم هذا -فيما يذكرونه- يدور على الجنيد الذي هو شيخ الطائفة ورئيس الحركة السريّة فيما نظن نحن؛ فقد اخذ الجنيد الطريقة عن سري السقطي (ت 253هـ) عن معروف الكرخي (ت 200هـ) عن داود الطائي (ت 162هـ) عن حبيب العجمي (ت 119هـ) عن الحسن البصري (ت 110هـ) عن علي رضي الله عنه. وقد اخذ ابو بكر الشبلي (ت 334هـ) عن الجنيد، وعن الشبلي اخذ ابو القاسم النصراباذي، كما صحب الحلاجُ الجنيدَ وتتلمذ عليه.
وثانيًا: ان جُلّ هذه المجموعة من المتصوفة من عَجَم خراسان، وهم –كما هو معروف- النواة الصلبة التي قامت عليها الدعوة لال البيت وبهم تاسست الدولة العباسية. وقد كان الحلاج من ضمن هذه الحركة السياسية، بيد انه راى لنفسه قبولًا واشتهارًا فتجاوز التراتبية الحركية، وهذا الذي اغضب عليه شيخَه الجنيد فيما سقناه من خبر اختلافهما بعد عودته من مكة التي دخلها ومعه “اربعمئة رجل” من اتباعه؛ وفقا لرواية الذهبي.
كما ان من دلائل حركية الجنيد السياسية انه كان يقاطع المسؤولين الذي يعملون لدى الحكومة العباسية، وهذا ما حصل له مع عمرو بن عثمان المكي بعد ان ولي قضاء جدة، فتنكّر له الجنيد؛ حسبما يقول الذهبي في ‘السير‘. وليس قولنا بالحركيّة السياسيّة للحلاج من عندِيّاتنا، بل هو امرٌ اشتهر عنه لدى المتقدمين، واشار اليه اعلامٌ منهم مثل معاصره “شيخ الصوفية” ابراهيم بن شيبان (ت 337هـ)، والنديم صاحب ‘الفهرست‘ (ت 384هـ)، وامام الحرمين الجويني (ت 478هـ).
قال امام الحرمين -فيما رواه عنه ابن الجوزي في ‘صيد الخاطر‘ ثم نقله ابن خلكان (ت 681هـ) في ‘وفيات الاعيان‘- انه “ذكرت طائفة من الثقات المعتنين بالبحث عن البواطن ان الحلاج والجنابي القرمطي (= ابو سعيد الجنابي المقتول 301هـ) وابن المقنع (اراد المقنع وهو من القاب علي بن محمد البصري قائد ثورة الزنج بالعراق المقتول 270هـ) تواصوا على قلب الدولة، والتعرض لافساد المملكة، واستعطاف القلوب واستمالتها. وارتاد كل واحد منهم قُطْراً: (…) وارتاد الحلاج قُطْرَ بغداد، فحكم عليه صاحباه بالهلكة والقصور عن درك الامنية لبعد اهل العراق عن الانخداع”!!
وقال النديم -في ‘الفهرست‘- ان الحلاج “كان يُظهر دين الشيعة للملوك، ومذاهب الصوفية للعامة… يتحلى الفاظهم ويدعي كل علم.. وكان مقدامًا متهورًا جسورًا على السلاطين، مرتكبًا للعظائم ويروم انقلاب الدول”. واضاف النديم ان الحلاج “في اول امره كان يدعو الى الرضا من ال محمد فسُعِي به واُخِذ بالجبل (= منطقة بايران) فضُرب بالسوط”. وقال ابراهيم بن شيبان كما في ‘اخبار الحلاج‘ لابن الساعي: “اياكم والدعوى! ومن اراد ان ينظر الى ثمرات الدعوى فلينظر الى الحلاج وما جرى عليه”!!
وقد كانت الخلية الثورية -التي نبذها اهل التصوف من اتباع الجنيد وابتعد عنها ابو بكر الشبلي الذي كان يقول: “كنت انا والحسين بن منصور (= الحلاج) شيئَا واحدًا الا انه اظهر وكتمتُ”- تتكون من الحلاج رئيسا للحركة، ونائبه ابي العباس بن عطاء الذي كان صلبًا في مساندته للحلاج حتى قُـتِل بسببها؛ كما تقدم ذكره.
هذا اضافة الى ابي القاسم النصراباذي المتقدم ذكره والذي كان له سجل ثوري ونضالي ضد الدولة العباسية، حيث يقول السلمي في ‘طبقات الصوفية‘: “ومع عِظَم محلّه؛ كم من مرة قد ضُرب واهين وكم حبس؟!”. ومحمد بن خفيف المتقدم ذكره ايضا والذي كان من ابناء الامراء كما يقول الذهبي، وقد زاره مرة في السجن فقال له الحلاج “قل لابي العباس ابن عطاء احتفظ بتلك الرقاع”؛ يعني المراسلات السرية التي كانت تدور بينهما، وسياتي بعض القول بشانها.
بل ان الحلاج استطاع ان يصل بتنظيمه الى الدائرة القريبة من راس السلطة، فقد استقطب لعضويته بعض كبار موظفي بلاط الخليفة العباسي المقتدر بالله (ت 320هـ)، حتى اكتشف وزيره حامد بن العباس الخراساني (ت 311هـ) “انه (= الحلاج) قدّموه على جماعة من الخدم والحشم واصحاب المقتدر، وعلى خدم نصر الحاجب، وحمد بن محمد الكاتب”؛ كما يقول سبط ابن الجوزي في ‘مراة الزمان‘ والذهبي في ‘العِـبَر‘.
جولان بالبلدان
اخذ الحلاج يطوف البلدان ويجمع الاتباع لدعوته السرية، وكان اكثر تحركاته في بلاد خراسان وما وراء النهر ولم يتخيّر بلاد العرب، وهذا يتفق مما ذكرناه من ميل عجم خراسان الى الدعوة لال البيت حتى كانوا وقوده. كما انه كان يجتاز بالبحرين في طريقه الى مكة لتنسيق تحركاته مع القرامطة، ومما يؤيد ذلك ان السلطات اعتقلت الحلاج سنة 301هـ “نودِي عليه: هذا احد دعاة القرامطة فاعرفوه!”؛ حسبما يرويه سبط ابن الجوزي في ‘مراة الزمان‘.
ونحن نقرر انه كان هناك تنسيق بين الحركات السرية العلوية خاصة ذات الطابع الصوفي؛ فقد كانت بداية القرامطة حركة رجل متصوف فيما يحكيه ابن الاثير (ت 630هـ) -في تاريخه ‘الكامل‘- حيث يقول: “في هذه السنة (= 278هـ) تحرك قوم بسواد الكوفة يُعرفون بالقرامطة، وكان ابتداء امرهم -فيما ذُكر- ان رجلاً منهم… [كان] يُظهر الزهد والتقشف…، فاقام على ذلك مدة… حتى فشا ذلك [عنه] بموضعه، ثم اعلمهم انه يدعو الى امام من ال بيت الرسول، فلم يزل على ذلك حتى استجاب له جمع كثير”.
واذن يتضح لنا ان اسفار الحلاج الى مكة واجتيازه بالبحرين –التي كانت حينها تحت سيطرة القرامطة- دليل على التعاون السياسي الذي حصل بين الطرفين، وربما مع حركة الفاطميين في المغرب الاسلامي عبر صلاتها المعروفة حينها مع القرامطة رغم انفصال الحركتين تنظيميا. ونحن نؤكد هنا ان التنسيق الحركي بين هذه الحركات السياسية لا يقتضي بالضرورة تقاربًا فكريًا بينها وانما تكفي فيه وحدة الهدف السياسي.
لقد كان الحلاج –خلال تحركاته الواسعة تلك- يغيّر “اسمه الحركي” كما ذكر ذلك الخطيب البغدادي –في تاريخه- رواية عن حمد بن الحلاج: “ولم يزل عمرو بن عثمان [المكي] يكتب الكتب في بابه الى خوزستان ويتكلم فيه بالعظائم حتى حرِد ورمى ثياب الصوفية، ولبس قَبَاءً واخذ في صحبة ابناء الدنيا، ثم خرج وغاب عنا خمس سنين الى خراسان وما وراء النهر، ودخل سجستان وكرمان، ثم رجع الى فارس فاخذ يتكلم على الناس، ويدعو الخلقَ الى الله تعالى، وكان يعرف بابي عبد الله الزاهد، وصنّف لهم تصانيف”.
ثم يضيف انه “لما رجع [الى العراق] كانوا يكاتبونه من الهند بـ‘المُغيث‘، ومن بلاد ماصين (كذا في المصادر ولعلها: الصين) وتركستان بـ‘المُقيت‘ (= المُطعِم)، ومن خراسان بـ‘المميّز‘، ومن فارس بـ‘ابي عبد الله الزاهد‘، ومن خوزستان بـ‘الشيخ حلّاج الاسرار‘ (اي كاشفها)، وكان ببغداد قوم يسمّونه ‘المصطلم‘ (= المسلوب الادراك بسبب الجذب الصوفي)، وبالبصرة قوم يسمونه ‘المجير‘”.
ويفيدنا الخطيب ايضا بان الحلاج كان دائم التغيير لنوع ملابسه: “وكان بالاوقات يلبس المسوح، وبالاوقات يمشي بخرقتيْ مصبغ، ويلبس بالاوقات الدراعة والعمامة، ويمشي بالقباء ايضا على [هيئة] زيّ الجند”. واما الذهبي فيسجل –في كتابه ‘العِبر‘- تقلب خطابه طبقا لطبيعة سكان كل بلاد “فاذا علم ان اهل بلد يرون الاعتزال صار معتزليا، او يرون التشيع تشيّع، او يرون التسنّن تسنّن”. فهذه النصوص تدل على نشاط الحلاج في جمعه وتاجيجه ضد الدولة العباسية، كما ان اختلاف البسته والقابه وتنوع خطابه يدل على شمول حركته للبعدين العسكريّ والمدنيّ ولكل طبقات الناس. وبمناسبة تعدد اسماء الحلاج.
مراسلات مشفرة
وهنا نصل الى باب كثر فيه الخلط والغلط على ابي منصور الحلاج فقاد الى نسبته الى الالحاد والزندقة والحلول، وهو -في اعتقادنا- بعيد من ذلك. فقد تحدث سبط ابن الجوزي –في ‘مراة الزمان‘- عن “رقاع وُجدت في منزل الحلاج فيها رموز”، كما كانت له لغة خاصة “مرموزة” (= مشفّرة) في مراسلاته مع اتباعه، وحمْلُ هذه اللغة على ظاهرها يوقع في سوء فهم وتخليط عظيمين.
وقد ظفرنا بنصوص تشير الى هذا المعنى منها ما اورده التنوخي الابن (ت 384هـ) في ‘نشوار المحاضرة‘ من قوله: “كان في الكتب الموجودة (= رسائل للحلاج) عجائب من مكاتباته [الى] اصحابه النافذين الى النواحي، وتوصيتهم بما يدعون الناس اليه، وما يامرهم به من نقلهم من حال الى اخرى ومرتبة الى مرتبة حتى يبلغوا الغاية القصوى، وان يخاطبوا كل قوم على حسب عقولهم وافهامهم، وعلى قدر استجابتهم وانقيادهم، وجوابات لقوم كاتبوه بالفاظ مرموزة لا يعرفها الا مَن كَتبها ومَن كُتبت اليه…، وفي بعضها صورة فيها اسم الله تعالى مكتوب على تعويج، وفي داخل ذلك التعويج مكتوبٌ: ‘علي عليه السلام‘؛ كتابة لا يقف عليها الا من تاملها”.
وينقل ابن كثير -في ‘البداية والنهاية‘- عن السلمي بسنده عن شيخ الصوفية ابي بكر ابن ممشاذ الدينَوَري الزاهد (ت 350هـ) قال: “حضر عندنا بالدينور رجل ومعه مخلاة، فما كان يفارقها بالليل ولا بالنهار (يبدو انه احد اتباع الحلاج يحمل مراسلات سريّة)، ففتشوا المخلاة فوجدوا فيها كتابًا (= رسالة) عنوانه: ‘من الرحمن الرحيم الى فلان بن فلان‘، فبُعث به الى بغداد، فسُئل الحلاج عن ذلك فاقرّ انه كَتَبه، فقالوا له كنت تدعي النبوة فصرت تدعي الالوهية والربوبية! فقال: لا، ولكن هذا عين الجمع عندنا، هل الكاتب الا الله، وانا واليد الة”! فذهب بهم جدلا الى المماحكة الكلاميّة، وحمل المعنى على قول مذهب الجبريّة من ان الفاعل هو الله.
فان هالك استخدام هذه الالفاظ الشريفة من اسماء الله الحسنى للتعبير عن غرض سياسيّ؛ فقد وجدنا قاموسًا لـ”فكّ” رموز الرسائل السرية في قصة محمد بن علي الشلمغاني (ت 323هـ) المعروف بـ‘ابن ابي العزاقر‘، وهو احد الشيعة الثوريين الذين خرج بعد مقتل الحلاج على دولة بني العباس. حيث يحكي لنا ابن الاثير بعض اصطلاحاتهم “العقدية” الظاهر و”الحركية” الباطن، وذلك بناء على ما تم العثور عليه من مكاتباتهم؛ وهو ما قد يفيدنا في قراءة بعض رسائل الحلاج وفهم اشعاره.
يقول ابن الاثير ان من اعتقادهم “ان الله خلقَ الاضداد لتدل على المضدود (= التعبير عن اللفظ وارادة ضده)… وان الله اسم لمعنى، وان من احتاج الناس اليه فهو اله (= تحويل لفظ ‘الاله‘ من مصطلح كلامي/ عقدي الى لفظ رمزي/ تنظيمي)، ولهذا المعنى يستوجب كل احد ان يُسمَّى الهاً؛ وان كل احد من اشياعه يقول: انه ربّ لمن هو.. دون درجته (= تشفير في الخطابات السريّة الداخلية بين اعضاء التنظيم)، وان الرجل منهم يقول: انا ربّ لفلان وفلان ربُّ ربِّي، حتى يقع الانتهاء الى ابن ابي العزاقر (= الشلمغاني رئيس التنظيم) فيقول انا رب الارباب”!!
ويبدو لنا ان ابن الاثير وقع في الفهم الظاهري لهذا النص الذي يحكي بعض شفرات القوم؛ فمن الواضح ان دلالة النص -بالنظر الى اصحابه وهم حركة معرضة سياسية سرية تطاردها السلطة- تشير الى لغة اجرائية في المراسلات، ولا تدل على عقيدة ودين. ومتى استصحبنا هذه الشفرات في فهم مراسلات الحلاج اتضح لنا قدرتها على تفسير ما اشكل من مراسلاته والمعاني المستبشَعة التي يجدها القارئ في “رِقاعه”، ونفهم حينها انها ليست نصوصًا اعتقادية وانما تمويهات لفظية املتها ظروف امنية ضاغطة.
وقد كان الحلاج يعي خطورة هذه اللغة السرية واحتمال تشويشها على العوام، فحذّر مَن اطلع على بعضها ممن حوله؛ ففي ‘اخبار الحلاج‘ لابن زنجي ان علي بن ماردويه قال له شيخه الحلاج: “خذ من كلامي ما يبلغ اليه علمك، وما انكره علمك فاضرب به وجهي ولا تتعلق به فتضل عن الطريق”. كما انه كان يعذر المشايخ الذين يواجهونه بالمعنى الحرفي لمراسلاته السرية، ولا يتكلف الدفاع عنها امامهم: “وقال للمشايخ: تريدون مناظرتي؟ انا اعرف انكم على الحق وانا على الباطل”!
طريق النهاية
يبدو ان الحلاج بعد عودته من رحلته الثالثة للحج في نحو 290هــ نقل مشروعه الى المواجهة مع السلطة العباسية، مستغلا الظروف العامة التي كانت تشهدها الخلافة العباسية على امتداد رقعتها الجغرافية؛ حيث كانت تواجه ثورة القرامطة في شرقي الجزيرة العربية منذ سنة 278هـ، وظهورا قويا ومتناميا لحركة الفاطميين في الغرب الاسلامي منذ حوالي 280هـ. لكنه ما ان اعلن المواجهة للسلطة حتى تنكر له بعض اصحابه من مشايخ الصوفية مثل ابي بكر الشبلي وابي محمد الجريري الصوفي (ت 311هـ)، وكلاهما كان من كبار اصحاب الجنيد.
ثم كان عليه مقاومة حملة تشويه شنها عليه خصمه ابن داود الظاهري ولم تنقطع الا بوفاة الاخير سنة 297هـ، ففي رواية الخطيب البغدادي عن حمد بن الحلاج ان اباه “حج ثالثا وجاور سنتين ثم رجع وتغير عما كان عليه في الاول، واقتنى العقار ببغداد وبنى دارا، ودعا الناس الى معنى لم اقف الاّ على شطر منه، حتى خرج عليه محمد بن داود وجماعة من اهل العلم وقبّحوا صورته” لدى السلطة.
وحين تسلم حامد بن العباس الوزارة سنة 306هـ راى الاسراع باستئصال خطر الحلاج المحدق، فاخذ يلاحق اتباعه ويفتش دورهم ويستخرج مراسلاتهم، وكان يامر بقراءتها على علماء السلطان ليستخرجوا منها ما يُدين الحلاج. فاتفق ان قرؤوا على القاضي ابي عمر المالكي (ت 320هـ) في احدى رسائل الحلاج ان الانسان اذا اراد الحج ولم يمكنه ذلك، فله ان يطوف ببيته ثم يُكرم ثلاثين يتيما “فان ذلك يقوم لهم مقام الحج”. فلما سمع القاضي ذلك التفت الى الحلاج قائلا: “من اين لك هذا؟ فقال الحلاج من كتاب الحسن البصري ‘الاخلاص‘، فقال: كذبت يا حلال الدم”!!
فانفتح للوزير بذلك بابٌ الى التخلص من الحلاج بامر قضائي! فقال للقاضي: “اكتب بهذا”! اي اجعله قرارًا رسميًا، فاخذ القاضي يتمنّع اذ لم يجد في هذا موجبًا لقتله، ولكن الوزير لم يكن ليضيع فرصة كهذه، رغم ان الحلاج اخذ يذكّرهم بانه مؤمن لا يجوز لهم ان يتاولوا في قتله!! لكن الوزير ظل يُلحّ على القاضي حتى استخرج منه مرسومًا قضائيًا بشيء سبق على لسانه!
مضى الوزير الى الخليفة ليبشره بصنيعه فتاخّر عنه جواب الخليفة وخاف من ضياع الفرصة، فبعث اليه برسالة اخرى فيها ان ما جرى في مجلس المحاكمة “شاع وانتشر، ومتى لم يتبعه قتل الحلاج افتتن الناس به ولم يختلف عليه اثنان”!؛ وفقا للخطيب البغدادي. وكان ذلك كافيا لتشجيع الخليفة على المصادقة على الحكم.
ثم كان من كمال التدبير السياسي الا تكون طريقة الاعدام تقليديّة وانما فيها من الارهاب ما يردع غير الحلاج عن سلوك طريقته. فامر الخليفة ان يُجلد “الف سوط فان هلك والا ضُربت عنقه”؛ حسب الذهبي. واُخرج الحلاج تحت حراسة مشددة من الشرطة التي خافت ان تنتشله منها الجماهير؛ حسبما يحكيه التنوخي. جُلد الحلاج الف سوط فلم يتاوّه وانما كان يردد “احَدٌ احَدٌ”، فلما راوا هذا امروا بقطع اطرافه فـ”قُطعت يداه ورجلاه وحُزّ راسُه، واحرقت جثته والقي رمادها في دجلة، ونصب الراس يومين ببغداد.. ثم حُمل الى خراسان”!!
تم اعدام الحلاج –لثلاث او ست بقين من ذي القعدة سنة 309هـ- بالطريقة ذاتها التي اعدِم بها ثوار الزنج ورئيسهم علي بن محمد البصري سنة 270هـ، بل ان كتب التاريخ تقول ان الحلاج صُلب ثلاث مرات: اثنتان منها حين قـُبض عليه سنة 301هـ فصُلب -وهو حي- في جانبيْ بغداد الشرقي والغربي تخويفا للعامة لكنه لم يُقتل؛ والمرة الثالثة هي التي اعدِم فيها. وهكذا راح الحلاج نتيجة مغامراته السياسيّة ومحاولته قلب نظام الحكم لاقامة دولة تقوم على مبدا التزكية، وتعميم التجربة الصوفية. وقد وقف عليه صديقه الشبلي في اخر ساعاته ليبين له خطا الطريق الذي سلكه؛ فقال: “وقد راى الحلاج مصلوبا: الم انهك عن العالمين”؟!!اسس تنظيما سريا لاسقاط العباسيين فصلبوه ثلاث مرات وقطعوه واحرقوه.. الحلّاج صوفي ثائر ام زنديق مارق؟

Scroll to Top