queenarwauni

“السلطان الفاتح”.. النبوءة التي قهرت حصون القسطنطينية

اخبار اليوم الصحيفة, “السلطان الفاتح”.. النبوءة اخبار اليوم الصحيفة, “السلطان الفاتح”.. النبوءة

يُعدّ فيلم “فتح 1453” بنسخته التركية او “السلطان الفاتح” بنسخته العربية المدبلجة للمخرج التركي “فاروق اكصوي” اعلى فيلم في السينما التركية تكلفة، فقد بلغت 18,200,000 دولار امريكي، لكنّ شبّاك التذاكر جلب لشركته الانتاجية “اكصوي فيلم” اكثر من 61 مليون دولار امريكي، اذ شاهده في اليوم الاول من العرض 300 الف شخص ثم توالت عروضه الدولية، وقد اختلفت الاراء بصدد مضامينه الفكرية والدينية بين مؤيدين معجبين بالفيلم، ومعارضين منتقدين له، اذ اتهمه البعض بالعنصرية وحجب الحقائق التاريخية.
يُصنِّف النقاد هذا الفيلم بالدرامي والتاريخي ويُدرجونه ضمن افلام الحركة التي تتعلّق بالحروب وفنون القتال المتعارف عليها في القرن الخامس عشر، لكنهم نسوا او تناسوا بان هذا الفيلم الروائي -الذي كتب قصته “مليح عزة اجيل”، واشترك في كتابة السيناريو “اتيلا انجين” و”عرفان ساروهان”- هو فيلم سيرة ذاتية (Biopic) للسلطان محمد الفاتح الذي تتبعناه منذ ولادته وطفولته التي تفتقر لحنان الاب ورقته، ثم يفاعته ونضجه الفكري والسياسي والعسكري، وفتحه للقُسطنطينيّة واستمراره في فتوحات المدن والامصار شرقا وغربا طوال مدة حُكمه التي بلغت 31 عاما.
ولو وضعنا فكرة الفتح جانبا، وهي الفكرة الاساسية في القصة السينمائية؛ فان الفيلم برمته يكاد يكون فيلم شخصيات تبدا بالسلطان محمد الفاتح الذي يقف بمواجهة قُسطنطين الحادي عشر، والقائد الوباتلي حسن في مقابل القائد جيوفاني جوستينياني، وهكذا دواليك لبقية الشخصيات التي تحتل الوزارات والمناصب الرفيعة في الدولتين العثمانية والرومية وما سواهما من الممالك والامبراطوريات الاوروبية والاسيوية.
“نعم الامير اميرها”.. نبوءة مقرونة بالمعجزات
تبدا الاحداث في المدينة المنوّرة في زمن الرسول محمد “ص” سنة 627م حيث يُستهَل الفيلم بمشهد للصَحابي ابي ايوب الانصاري الذي يروي حديثا عن النبي محمد ﷺ يقول فيه: “لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الامير اميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش”.
يعزز القائمون على الفيلم هذا الحديث بعدد من المعجزات والاعاجيب حدثت في السنة التي ولد فيها محمد خان الثاني، ومن بينها ان الافراس انجبت توائم كثيرة، واغلت الارض اربع مرات في السنة، وانثنت افرع الاشجار ناحية الارض من فرط ثقل الفاكهة، كما خرَّ المذنّب في سماء القسطنطينية في العام ذاته، وعد دليلا على ان اسوار القسطنطينية التي لا تتحطم ستتداعى قريبا جدا.
“ساسميه محمد اجلالا للرسول ﷺ”.. ميلاد الفاتح
مما يؤكد النزعة البيوغرافية لهذا الفيلم التاريخي الذي يرصد 25 عاما من حياة محمد الفاتح انّ كاتب القصة بدا الاحداث بولادة هذا الطفل الذي سيكون مُختلفا عن بقية السلاطين العثمانيين، فبينما كان والده السلطان مراد الثاني منغمسا في تلاوة القران الكريم جاء احد العاملين في القصر واخبره قائلا: “هُما خاتون” قد انجبت لك ولدا مُعافى يا جلالة السلطان. فردّ عليه فرحا: سيكون اسمه محمد اجلالا للرسول ﷺ، لعلّ الله العظيم يباركه بهذا الاسم.
لكنّ هذا الاب السلطان لم يكرّس لابنه شيئا من وقته، فقد كان مشغولا بالفتوحات وصراعات السلطة في داخل الدولة العثمانية وخارجها، يتاثر محمد بعدم مبالاة والده ويشعر ان اباه كان يُجافيه ويعرض عنه، حتى يتطوّر هذا الاحساس الى ما يشبه العقدة النفسية، فلا غرابة ان يعامل محمد ابنه بايزيد بنفس الطريقة القاسية التي تخلو من الحُب والرِقّة والتحنان.
فعندما اخبروا محمدا بان اباه قد فارق الحياة دخل عليه لوحده وخاطبه قائلا: كانت ذراعاك قويتين قادرتين على اخضاع الجيوش وغزو المدن، لكنك لم تحملني بهما ابدا، وكنت تملك عينين حادتين تريان مستقبل دولتنا، لكنك لم تنظر الي بعطف ولو لمرة واحدة، ليتك علمت كم كنت احبك جدا، كان قلبي يتوق لتقبيل الارض التي تخطو عليها، لكنه الان يتوق لغزو الاراضي التي لن تسير عليها لاَبنيَ امبراطورية تشمل العالم باسره.
وعلى الرغم من هذا الجفاء الذي لمسناه كمشاهدين فان السلطان مراد الثاني خص ابنه بخيرة المعلمين الذين اشرفوا على تدريسه مختلف العلوم، ومهدوا له الطريق لحفظ القران الكريم وقراءة الاحاديث النبوية الشريفة والتبحر في الفقه الاسلامي ودراسة الفلَك والرياضيات وفنون الحرب والقتال.
كما اتقن ست لغات اجنبية على ايدي اساتذة مختصين بعلوم الالسن، لكن مدة الفيلم لا تسمح بالاشارة لكل هذه العلوم والمعارف الكثيرة التي نهلها محمد الثاني في طفولته وشبابه، فقد رايناه فقط وهو يبارز قائد جيشه وصديقه حسن الذي خسر المبارزة اول مرة، وكان يتمنى هذه الخسارة لانها تدل على انّ دروسه وتدريباته لم تذهب ادراج الرياح.
امارة مغنيسيا.. ميدان التدريب على شؤون الحكم
لم يتسلم محمد الثاني سُدة الحكم بشكل مفاجئ، فقد عهد اليه والده بامارة مغنيسيا وهو شاب يافع لكي يتدرب على شؤون ادارة الدولة ومعرفة اسرارها تحت عناية الشيخ “اق شمس الدين” والمُلا “احمد الكوراني” اللذين سيؤثران فيه كثيرا ويزرعان في عقله الباطن بانه هو الامير المقصود بفتح القُسطنطينية، فلا غرابة ان يفكر ببناء جيش قوي يحاصر به هذه المدينة العصية ويفتح به لاحقا الممالك والامصار.
يتنازل مراد الثاني عن العرش لابنه محمد لاكثر من سبب، فقد سئم الاعيب السياسة ومؤامراتها، كما ان وفاة ابنه الشاب المفضل لديه علاء الدين دفعته لان يتخلى عن كل شيء وينقطع للعبادة، غير ان الاخطار المُحدقة بالدولة العثمانية كانت كبيرة من جهة الغرب، وهو الامر الذي دفع الصدر الاعظم خليل باشا لان يُقنع السلطان بالعودة الى العرش كي يصدّ الخطر المحتمل من هجوم صليبي جديد وارسال محمد الثاني الى موقع ساروهان العسكري.
يرتقي محمد الثاني العرش بعد وفاة ابيه، وعلى الرغم من شكوكه بالصدر الاعظم خليل باشا ووزيريه شهاب الدين وساروكا فانه ابقاهما في مناصبهما وراقبهما عن كثب، وقد استعدّ لهذا المنصب الكبير الذي تقلّده اول مرة حينما كان غضا في الحادية والعشرين، لكنه عاد اليه بحزم وعزيمة بعد خمس سنوات من الخبرة والتامل ومراقبة سير الاعمال في الدولة العثمانية العلية، ومع ذلك فان نده قسطنطين في البلاط البيزنطي كان يسخر منه، وينتقد خبرته الضئيلة، غير ان الدوق “نوتاراس” كان يحذّر الامبراطور قسطنطين ورجال البلاط قائلا: لقد درس السلطان محمد علوم الهندسة ليكسر دفاعاتنا، وتعلم لغتنا ليفهم نقاط ضعفنا، وتعمق في ديننا ليفند عقيدتنا.
“انت القائد الشرعي الذي تنبا بقدومه نبينا”
يرصد المخرج الحياة الاسرية للسلطان محمد الفاتح، ويكتفي بالاشارة الى زوجته “كَلبهار خاتون” ام نجله بايزيد الذي كان يحاول التقرّب الى ابيه، لكن التقاليد السلطانية تحول دون ذلك، بل انهم لا يسمحون للطفل ان يخاطب والده بكلمة “ابي” وانما يتوجب عليه ان يقول “سُلطاني” حتى ينتابه الاحساس بان السلاطين لا يحبون ابناءهم، غير ان والدته تخفف عنه هذا الشعور وتخبره بانه سيعرف حينما يكبر حجم الحب الذي يكنه والده له.
ينهمك القائد محمد الثاني بالتفكير بالقُسطنطينية ليل نهار حتى ان كوابيس اجداده السابقين تداهمه في نومه فياتيه احدهم ويخاطبه قائلا: “انت من يستحق خاتم السلطنة، وانت القائد الشرعي الذي تنبا بقدومه نبينا، بارك الله حملتك”، وحينما تدخل عليه زوجته “كَلبهار” تجده متعرقا لاهثا من هول الحلم، وحينما تطمئنه يقول لها: “اما ان افتح القُسطنطينية او تهزمني هي”.
راينا في مشهد اخر “كَلبهار خاتون” وهي تتجمّل وتتضمخ بعطر الياسمين الذي يفضِّله السلطان محمد الثاني على غيره من العطور، ورغم ان طريق الرحلة كان طويلا فان رؤية زوجها السلطان تستحق كل هذا العناء كما تطفئ غلواء الاسئلة التي تتصاعد في عقل الطفل الذي ينادي اباه في نومه.
راية سلام مع المحيط.. خطة العقل الراجح
يمتلك السلطان محمد الثاني عقلا راجحا لا تنقصه الحيلة، وقدرة واضحة على المناورة السياسية، فقد امر كبير وزرائه خليل باشا ان يكتب رسائل عدة الى الدولة البابوية، ومملكتي المجر وبولندا، وجمهوريتي جنوة والبندقية والامارة الصربية، ويخبر ملوكها ورؤسائها وامرائها بان الدولة العثمانية تريد ان تعيش معهم بسلام.
وقد استجاب اكثر من مرة للجزية التي كان يطالب بها الامبراطور قسطنطين عن اسْره للامير اورخان جلبي الذي يطالب بعرش الدولة العثمانية، لكن السلطان محمد الثاني كان يضمر لهم شرا، فهو يريد اعادة بناء السفن في غاليبولي، وبناء “قلعة روملّي حصار” التي يُطلَق عليها “بوغازكسن”، اي “قاطع القناة” ويفتش كل السفن التي تاتي من البحر الاسود، ويفرض عليها رسوم المرور الجمركية.
يتدخّل خليل باشا كلما سنحت له الفرصة في الحديث لتثبيط همّة السلطان محمد الثاني بحجة ان الاعداء اللاتينيين -وهم قبيلة وسط ايطاليا القديمة- والبيزنطينيين والبابا يتربصون الدوائر بالسلطنة، لكن جواب السلطان كان قاطعا حيث قال: ليس اللاتينيون ولا البابا ولا قسطنطين هم همي، بل همي الوحيد هو شعبي الذي لا يدرك ان غزو القُسطنطينية هو امر في صالحه.
ثم يتدخل خليل باشا ثانية حينما يشرع السلطان في بناء قلعة روملّي حصار، لكن تدخلاته تذهب هباء منثورا ويكتمل انجاز القلعة خلال بضعة اشهر ويعززها بالجنود والمدافع والذخيرة، ليقطع الطريق على الاعداء الذين يحاولون كسر شوكته في البر والبحر، لكنهم لم يُدركوا طبيعة عزمه واصراره الذي لا يلين، واكثر من ذلك فان جنود السلطان محمد الثاني قد احرقوا “مورا” وقتلوا جنود الامبراطور قسطنطين، وفرّقوهم شذر مذر.
تتمثل حكمة السلطان محمد الثاني في اخماد التمرد الذي حدث في اقشهير، فلم يتوقع “كرمان اوغلو ابراهيم” مثل هذا الجيش العرمرم، وما ان طلب السلام حتى وافق السلطان مباشرة لانه لا يريد ان يلحق الاذى بجيشه الذي اعده لمهمة اكبر مثل فتح القسطنطينية.
يصادف السلطان في طريق عودته بعض الانكشاريين، ويدفع لهم الاموال رغم انهم لم يشاركوا فعليا في المعركة، لكنه يُصدر امرا مهما حينما يقرر ارسال قائدهم “كورتشو دوغان” الى المنفى لانه الحليف الاقوى لخليل باشا، وقد كان تاثير هذه الحادثة كبيرا لان السلطان استعاد سيطرته على الجيش بالكامل، ولم يجرؤ احد على التململ او التمرد.
“ايرا” والقائد “الوباتلي”.. قصة حُب على غرار السينما الهوليودية
ثمة قصة حُب او اكثر نجدها في غالبية الافلام الدرامية او التراجيدية لثلاثة اسباب رئيسة: الاول انها تخفّف من وقع الماساة، والثاني لانها تجذب جمهورا واسعا من مختلف الاعمار وخاصة الشباب، والثالث انها تمنح المتلقين فرصة لالتقاط الانفاس والاسترخاء بعيدا عن بؤر التوتّر والانشداد النفسيّين.
يقع القائد “الوباتلي حسن” في حُب فتاة شابة تُدعى “ايرا” ثم يروي كل منهما للاخر سيرته الذاتية المقتضبة جدا، فنفهم انّ الامبراطور قسطنطين قد هجم على القرى المسلمة وهو في طريقه الى البلقان واباد كل من فيها، وقد نجت “ايرا” بعد ان اختبات عن اعين الجنود المهاجمين الذي قتلوا امها واخواتها، وفي خاتمة المطاف يعثر عليها احدهم فيبيعها في سوق العبيد.
يصادف في ذلك اليوم ان يكون “اوربان”، وهو سيد هنغاري رفض ان يصنع مدفعا للامبراطور قسطنطين فانقذه حسن من ورطته، وجاء به الى ادرنة مع ابنته المُتبناة “ايرا” التي كان يظنّها الجميع ابنته الحقيقية، اما حسن فقد ماتت امه وهو صغير جدا، بينما كان والده محاربا واستشهد في كوسوفو.
خطة تدمير جدران منيعة.. صناعة المدفع السلطاني العملاق
نظرا لشجاعة حسن كمحارب مخلص من الطراز الرفيع فقد اصبح قائدا في جيش السلطان محمد الثاني، فقبل ان يهرب “اوربان” و”ايرا” هاجمهما رجال قسطنطين في منزلهما، وقد اوشك احدهم ان يطعن “اوربان” في ظهره، لكن وصول حسن في اللحظة المناسبة انقذه من موت محقق.
يقضي حسن خلال دقائق معدودة على المهاجمين وياخذ “اوربان” وابنته الى ادرنة، وفي الطريق يعرض عليه فكرة السلطان محمد الثاني بصناعة مدفع عملاق لم يُرَ مثله في التاريخ بحيث يكون كبيرا بما يكفي لتدمير جدران القُسطنطينية المنيعة، فيوافق اوربان ويشرع في صناعة المدفع العظيم الذي سيطلقون عليه اسم “المدفع السلطاني”، وسوف تشترك “ايرا” في صناعته بعد ان تقص شعرها وتتنكر بملابس الرجال.
فشل اختراق اسوار القسطنطينية.. عزلة السلطان
يشتمل الفيلم على اربع معارك رئيسية، واحدة تشن على مورا وينتصر فيها الجيش الاسلامي ويعود محملا بالغنائم، اما المعارك الثلاث الاخرى فتشن على القسطنطينية بعد حصارها لمدة 53 يوما، وتاخذ مساحة كبيرة من الفيلم.
يخفق الجيش السلطاني في المعركتين الاولى والثانية، ويعجز عن اختراق الاسوار الحصينة للقسطنطينية، الامر الذي يدفع السلطان محمد الثاني للاعتزال في خيمته ورفضه استقبال اي شخص مهما علا شانه وكَبُر منصبه، خاصة بعد ان دمر اسطول سفنه بالكامل، ولكي يكسروا حاجز العزلة التمسوا من معلمه “اق شمس الدين” ان يذهب اليه ويقدّم له الافكار والمقترحات المناسبة التي يمكن ان تشدّ من ازره، وترفع معنوياته التي هبطت واسقطته في ياس خانق.
يشحذ “اق شمس الدين” همّة السلطان ويذكِّره بالصحابي ابي ايوب الانصاري الذي قاتل على اسوار القسطنطينية رغم انه كان سقيما وطاعنا في السن، لكنه قاتل الاعداء حتى نال الشهادة ودُفن تحت اسوار القسطنطينية.
تهزّه كلمات معلمه وتحفزه الافكار التي تتزاحم في راسه، وابرزها نقل السفن على اليابسة حيث توضع على اخشاب مدهونة بالزيت، ليجرها ليلا المئات من الرجال، كما انّ بناء القلعة قد اكتمل والاف الجنود يحاصرون المدينة برا وبحرا، وقد خطرت في باله ايضا فكرة حفر الانفاق تحت السور للوصول الى القسطنطينية التي تضم خمسة الاف مقاتل لا غير.
“صباح جديد لم يرَه عبد من عباد الله قط”.. خطبة السلطان
يشرع الامبراطور قسطنطين بمخاطبة رعيته قائلا: “يا قادتي النبلاء وجنودي الشجعان وشعبي المخلص، انهم يتجراون على تهديد اسوارنا التي تحميها الام مريم التي لا يغلبها اي شيء، ان الهراطقة الاتراك في طريقهم لان يذوقوا سموم افعالهم وهم يتصورون ان بمقدورهم عبور اقوى وامتن اسوار عرفها التاريخ، لكننا سنغرقهم في بحور دمائهم”، ثم يمضي في حثّهم على اجتراح ملحمة جديدة تضاف الى سلسلة ملاحمهم القديمة التي يفتخرون بها امام الملا الاعظم.
اما السلطان محمد الثاني فقد كان يؤم الافا مؤلفة من المجاهدين ويصلي بهم ثم يشرع في خطبته العصماء التي قال فيها: “يا جنودي امامنا تاريخ مجيد من الانتصارات، لقد فتحنا العديد من القلاع والمدن الحصينة، وعبرنا الجبال الشاهقة، وكسرنا الرماح التي وجهها الاعداء الى صدورنا، وقد مزقنا رايات العدو، ومتنا وعانينا من اجل هذا المجد، واليوم علينا ان نبرهن باننا جديرون بمجد اجدادنا، وتذكروا ان النصر يتحقق بالايمان، وانا متيقن من عبورنا لهذه الاسوار بشجاعتنا، وغدا سنستيقظ على صباح جديد لم يرَه عبد من عباد الله قط، ولن ننال الشهادة الا بعد ان نركِّع عدونا”، ثم يكبِّر فتتعالى التكبيرات المدوية التي توقع الرعب في صدور الاعداء المختبئين وراء الاسوار.
“ادفنوا امبراطوركم الراحل وفقا لاحكام دينكم”.. تحقيق النبوءة المحمدية
تبدا المعركة الاخيرة في يوم الثلاثاء المُصادف 29 مارس/ايار 1453 م كعلامة فارقة في تاريخ الدولة العثمانية التي يشتبك رجالها برجال العدو في معركة نادرة تبدا برمي النبال والمبارزة بالسيوف وقصف المدافع وقذف المجانيق، ثم استعمال المدفع العملاق الذي كان يقوّض جدران الاسوار الحصينة.
وقد استعمل الجيش العثماني القلاع الخشبية المتحركة بطبقاتها المتعددة التي تفوق ارتفاع اسوار المدينة، وكان المقاتلون من رماة النبال يبلون بلاء حسنا رغم التضحيات الكبيرة التي كانوا يقدّمونها في كل هجوم على انفراد.
واذا كان السلطان محمد الثاني قد كتب رسالة مطوية الى زوجته “كَلبهار” يعبر فيها عن لواعج حُبه ومشاعره الداخلية المختلطة؛ فان القائد حسن الذي تزوج من “ايرا” وترك في بطنها جنينا شاهدناه وهو يقاتل بضراوة الاسود، خاصة حينما واجه الفارس المغوار “جوستنياني” وصرعه بعد نزال مرير، وبينما كان يقاتل على احدى القلاع المتكئة على السور الخارجي اصيب بعدة اسهم في صدره وبطنه، لكنه ظل متماسكا الى ان اسقط الراية البيزنطية وثبت بدلا منها الراية الاسلامية.
بينما كان يتطلع اليه من ساحة المعركة السلطان محمد الثاني الذي سيُلقب منذ الان بالفاتح، وزوجته “ايرا” التي كانت تتلمس الجنين الذي ينبض في رحمها بعد ان انتقمت لعائلتها من الجنود البيزنطيين الذين ابادوا الاف الضحايا من اطفال المسلمين ونسائهم ورجالهم العُزّل.
ينتهي الفيلم نهاية انسانية مليئة بالتسامح حينما يدخل السلطان محمد الفاتح الى المدينة وسط اهازيج جنوده الذين يهتفون “عاش السلطان المُحرِّر” ثم ينتهي به الامر بكنيسة اية صوفيا التي احتشد فيها جمع كبير من الناس الذين كانوا يتراجعون كلما تقدم السلطان الفاتح لكنه طمانهم في خاتمة المطاف، وادخل على قلوبهم السيكنة حين قال:”ادفنوا امبراطوركم الراحل وفقا لاحكام دينكم، وانّ حياتكم وممتلكاتكم ومصائركم قد اصبحت جزء منّا، ومن حقكِّم علينا ممارسة عقيدتكم بحرية”، فتهللت وجوه الجميع، وابتسمت الطفلة الصغيرة التي حملها السلطان بين يديه وراحت تداعب شعر لحيته وشاربيه، وتقبّل خدّه من دون خشية او وجل.
اختلاق القصص وحجب الحقائق.. موازين النقد الفني
تستدعي الامانة العلمية ان تكون الافلام التاريخية مطابقة للحقائق، وعلى كاتب القصة السينمائية ان لا يحرف الوقائع والاحداث، كان يحوّل النصر المؤزر الى هزيمة شنعاء، ولكنه يستطيع ان يضع لمساته الفنية المتفردة هنا وهناك، ويرى المواضيع من منظوره الشخصي الذي قد يختلف بالضرورة عن زوايا نظر المبدعين الاخرين.
فقصة حسن وحبيبته “ايرا” ليس لها وجود في فتح القسطنطينية، ولكن المخرج وكاتب السيناريو ادخلاها لاسباب تجارية تتناغم مع السينما الهوليودية التي تضع عينها دائما على شباك التذاكر، كي تستعيد الاموال الطائلة التي انفقتها، وهذا ليس عيبا او منقصة، لان السينما بالنتيجة هي صناعة وتجارة وفن يحتاج الى اغراءات ودعاية وتسويق وما الى ذلك.
يرى البعض ان وجود الجيش البيزنطي خارج اسوار المدينة المحصنة غير مبرر ولا معنى له والاّ فما الحاجة الى بناء الاسوار وتحصين المدينة طالما ان الجنود سيخرجون منها لمواجهة الغزاة او الفاتحين؟
القائدان “حسن اولوباتلي” و”جيوفاني جيوستنياني” في ذروة اشتبكاهما العنيف، حيث صورهما الفيلم كابطال خارقين
تمجيد الحروب.. صراع القوميات والاديان في قاعات السينما
ثمة مبالغات كثيرة في مثل هذه الافلام التي لا تخلو من نزعة التمجيد العرقي او القومي فلقد راينا ابطالا خارقين للعادة في الطرفين معا، ويكفي ان نشير الى القائد “حسن الوباتلي” الذي ظل واقفا بقامة منتصبة لاكثر من دقيقتين وهو يستقبل النبال في كتفه وصدره وبطنه، وهذا الغلوّ ينطبق على القائد البيزنطي “جيوستنياني” الذي كان يقاتل بضراوة الاسود قبل ان يلقى مصرعه على يد نظيره التركي.
تميز الفيلم بالمقابل بتقنيات عالية جدا فهو لا يختلف كثيرا عن فيلم “المُجالِد” من بطولة “راسل كرو” واخراج “ريدلي سكوت” وغيره من افلام الحروب الملحمية، فلا بد من الاشارة الى ان هناك لقطات ومشاهد كثيرة لا يمكن ان تغادر ذاكرة المتلقي بسهولة مثل مشاهد المبارزة، واحتراق المقاتلين الذي يهاجمون السور سواء بالنار التي تلتهمهم او بالزيت المسكوب على رؤوسهم من فتحات السور العالية.
اثار فيلم “السلطان الفاتح” حفيظة اليونانيين الذي راوا فيه فيلما عنصريا يمجد الحروب والغزوات التي فات اوانها ويُفترض ان يحلّ محلها حوار الحضارات والاديان والسلم العالمي، بينما لاقى الفيلم اعجابا منقطع النظير في عدد من بلدان اوروبا الشرقية ذات الاغلبية المسلمة او التي يشكِّل فيها الاسلام حضورا ملموسا وواضحا مثل البانيا ومقدونيا وصربيا وكوسوفو والبوسنة والهرسك اضافة الى بلدان العالمين العربي والاسلامي.
يضاف هذا الفيلم الملحمي التاريخي لرصيد المخرج التركي “فاروق اكصوي” الذي سبق ان عرفناه في اعمال اشكالية مثيرة للجدل مثل “الضوء الاخضر” و”حريم السلطان” و”العالم الحر”.“السلطان الفاتح”.. النبوءة التي قهرت حصون القسطنطينية

Scroll to Top