اخبار اليوم الصحيفة, صديقة البيئة عدوة اخبار اليوم الصحيفة, صديقة البيئة عدوة
“مفاجاة”، هكذا اعتبرتها وسائل اعلامية المانية، ان تتحول علامة “مرسيدس” الشهيرة بالكامل الى تصنيع السيارات الكهربائية، هي لا تزال تحقق النسبة العليا من ايراداتها ببيع سياراتها التي تعمل بالبنزين او الديزل.
فيما لا عجب من قرار المصنع الالماني ذاك، باعتباره تحركاً كونياً نحو السيارات “صديقة البيئة”، كما ياتي تزامناً واعلان اوروبا عبر “اتفاقها الاخضر” اتخاذها اجراءات جديدة في سبيل بلوغ مرحلة “صفر انبعاث كاربوني” في حدود سنة 2050. قرار يرى فيه مراقبون صباً للزيت على النار المتقدة اساسا ًبفعل الاوضاع الاجتماعية التي خلفتها ازمة كورونا، وتقريباً للنار من برميل بارود سبق ان جرَّبت اوروبا انفجاره سنة 2018 مع حركة السترات الصفراء.
يعيد الامر التساؤل حول مدى الكلفة الاجتماعية لهذه القرارات المروَّج لها على انها تسعى لحل مشكلة المناخ، وبذات الكيف التساؤل عن مدى الصدف في تسمية السيارات الكهرابائية صديقة للبيئة. كل هذا في سياق جيو استراتيجي في طريقه للتشكل، يُعوَّض فيه السباق الطاقي حول موارد البترول، باخر حول موارد المعادن المستعملة في صناعات بطاريات هذه السيارات الكهربائية.
“مرسيدس” تستعد للتحول بالكامل الى السيارات الكهربائية
نقلًا عن وكالة الانباء الالمانية، اعلنت شركة “دايملر” الالمانية التي تنتج سيارات “مرسيدس” عن اهدافها “الاكثر طموحاً” في تحول خطوط انتاجها بالكامل الى السيارات الكهربائية بالكامل، منخرطة هي الاخرى في سوق صناعة المركبات هذه، التي تتنافس فيها شركات السيارات الكبرى في العالم لاثبات تفوقها.
كان ذلك خلال لقاء مع المستثمرين يوم الخميس 29 يوليو/تموز، حين كشفت “دايملر” عن خططها لتوديع عصر محركات الاحتراق الداخلي التي تعمل بالوقود الكربوني في سيارات “مرسيدس بنز”، في اعلان اعتُبر مفاجاة في ضوء حقيقة ان “مرسيدس” ما زالت تحقّق الجزء الاكبر من ايراداتها من مبيعات السيارات التي تعمل بالبنزين والديزل.
ويستهدف المصنِّع الالماني تحقيق 50% من مبيعات “مرسيدس” من السيارات الكهربائية بحلول 2025، وهي ضعف النسبة المستهدفة سابقاً. وتعتزم اقامة ثمانية مصانع ضخمة لانتاج بطاريات السيارات الكهربائية بطاقة انتاجية اجمالية تزيد على 200 غيغاوات/ساعة بالتعاون مع شركاء في مختلف انحاء العالم، في اهداف تُعَدّ اكبر من تلك السابقة.
في ما ياتي هذا الاعلان قبل ايام قليلة من اعلان رئيسة المفوضية الاوروبية عن “الاتفاق الاخضر” الخاص بالاتحاد الاوروبي. اتفاق اهم ما يتضمنه من اجراءات هو توسيع سوق انبعاثات الكربون لتشمل قطاعات جديدة، كالنقل وتسخين البنايات. ويهدف الاتفاق الى تخفيض انبعاثات الاتحاد من غاز ثنائي اكسيد الكربون الى 55% بحلول سنة 2030، والى 100% سنة 2050.
سيارات ليست بتلك النظافة
ويعلّل الاتحاد الاوروبي خطته تلك بان النقل البري يحظى بحصة الاسد من انبعاثات الكاربون الناتجة عن قطاع النقل، من هذا المنطلق رفعت المفوضية تحدي التحول الكامل نحو السيارات الكهربائية بحلول 2050. وهكذا نجد ماكرون، في تماهٍ مع هذا التوجه، يخصص 8 مليارات يورو من حزمة الاعانات الاوروبية للاقلاع الاقتصادي، لصالح صناعة “السيارات النظيفة”.
يقول واقع الامر ان هذه “السيارات النظيفة” ليست نظيفة تماماً، وان “الليثيوم لا يزال يطرح اسئلة اشكالية حول جدواه في تحقيق الانتقال الايكولوجي”، حسبما يقول البنك الدولي في تقرير سابق له. كما تؤكد دراسات علمية مقارنة ان انبعاثات الكربون الناتجة عن خطوط انتاج السيارات الكهربائية تفوق بـ60% نظيراتها التي تنتجها السيارات التي تعمل بالمحروقات. بالتالي فان “السيارات صديقة البيئة” تلوث البيئة مرَّتين اكثر من مثيلاتها الحرارية، كما يقر باحثون. سواء اكان ذلك تلويثاً للهواء كما ذكرنا انفاً، او كان تلويثاً للارض والفرشات المائية.
تتحدَّث تقارير عن ان حجم الكارثة التي تسببها عمليات تعدين الليثيوم، العنصر الاساسي في بطاريات السيارات الكهربائية، بمنطقة اتاكاما في الشيلي، اذ تستهلك المناجم هناك ما يقارب 200 مليون لتر ماء يومياً، وتدفع عمليات الضخّ التحت-ارضي الفرشات المائية الى الغور عميقاً في الارض، اضافة الى تسرُّب الموادّ الملوثة والمعادن الثقيلة نحو تلك الفرشات، مما يجعل المنطقة هي الاكثر عطشاً على الكوكب، ناهيك بهشاشة التربة وايلها الى الانهيار، والقضاء على الثروة النباتية والحيوانية هناك.
سيارات عدوَّة الانسان!
“اتفاق انتحاري”، هذا ما وصف به النائب الاوروبي باسكال كافين ما اعلنت عنه ارسولا فون دير لاين، محذراً الساسة في بروكسل بان يُحجِموا عن توسيع نطاق سوق الكربون، وقال: “لقد حاولنا فعل ذلك في فرنسا، وما حصلنا عليه كان انفجار السترات الصفراء!”. مع العلم انه وقت انفجار السترات الصفراء لم تكن الشعوب بهذا الانهاك الذي خلَّفته ازمة كورونا، فيما يعني اي توسيع لهذه السوق جبْيَ ضرائب اثقل تنزل في معظمها على كاهل المواطن الاوروبي البسيط.
لكن توحُّش هذا الانتقال البيئي يقع على الناحية الاخرى من البحر، كما تفضح تحقيقات الصحافة البيئية، حيث يقع “ممر الليثيوم” بامريكا اللاتينية على اراضٍ في معضمها مؤهولة بسكان تلك القارة الاصليين. ومع ضغط السوق الذي تستثيره قرارات كتلك التي اتخذها الاتحاد الاوروبي، تضرب الهُوية والذاكرة والسلامة الشخصية لتلك الشعوب الاصلية عرض الحائط، فداءً للمصالح الاقتصادية ولاستمرار نمط العيش الاوروبي المرفَّه.
نفس الامر بافريقيا، حيث يُعدَّن الكوبالت من اجل كاثودات بطاريات تلك السيارات، في مناجم لا تزال العمالة فيها تعتمد الطرق البدائية للحفر والتنقيب. ففي الكونغو حيث تاتي نصف واردات العالم من هذا المعدن، يشتغل اكثر من 200 عامل على استخراجه في ظروف تفتقر الى ادنى شروط السلامة، من بينهم اطفال حُرموا الدراسة، باجور لا تتعدى دولارين في اليوم، حسب ما تورده تقارير منظمات غير حكومية.
اضافة الى كل هذا، يضعنا تحوُّل التركيز الدولي نحو هذه المعادن امام واقع سباق جيوسياسي مهمّ، هو الذي غدا اكثر تهديداً لمصير تلك الشعوب، كما شهدناه يهدد سابقاً شعوباً اخرى وقت الاقتتال العالمي المحموم حول البترول.
وقد بدا اول تجليات ذلك الصراع، حسبما يخبرنا الرئيس البوليفي السابق ايفو موراليس، بان “الانقلاب الذي حصل ضده سنة 2019 كان من اجل التحكم في مناجم الليثيوم التي تزخر بها البلاد”، مشدداً على ان “الدول الصناعية لا ترغب في ان تنافسها الدول النامية على تلك الصناعات (…)، لهذا انا مقتنع تماماً بانه انقلاب، وانه انقلاب من اجل الليثيوم” يختم موراليس.صديقة البيئة عدوة الانسان.. ما مثالب التحول الى السيارات الكهربائية؟