queenarwauni

“سياسة الاذلال”: كيف تحطّم الجماعةُ الفردَ المختلف

اخبار اليوم الصحيفة, “سياسة الاذلال”: كيف اخبار اليوم الصحيفة, “سياسة الاذلال”: كيف

تعرض الكاتبة والمؤرخة الالمانية اوتا فريفرت في كتابها “سياسة الاذلال – مجالات القوة والعجز”، الصادر حديثاً عن “دار ممدوح عدوان”، جوانب عديدة للعار الذي يلحق بالافراد وبالدول، العار الذي تصنعهُ سياسات خاصّة، ومن ثمّ تستثمرهُ في اخضاع الاخرين. الكتاب الصادر بترجمة الاكاديمية هبة شريف عن الالمانيّة، بحثُ يمتدُّ من عصور التشهير في السّاحات العامّة الى عصور التشهير عبر الانترنت، وهو بحثُ في الكرامة الانسانية وفي كرامة الاوطان.
بعد تحليل عددٍ كبيرٍ من حوادث عامّة لتشهيرٍ واذلال، حوادث جرت في الشوارع او في اروقة الدبلوماسية، عبر مقاطع مصوّرة تداولها روّاد الانترنت لاستعراض اخطاء الاخرين وتوبيخهم، وتلقينهم دروس الطاعة، تخلص الباحثة الى حقيقة انّ الانسان لم يغادر العصور الوسطى بعد، حيثُ كانت تسود وسائل عقابيّة قائمة على امتهان كرامة الانسان امام ابناء جنسهِ، وما تزال اساليب القرون الوسطى متخفيّةً في المؤسسات وفي المجتمعات، من خلال التنمّر، والاذلال الناعم.
تعود فريفرت الى ممارسات الاذلال في اوروبا، على نحو خاص، في القرن الثامن عشر، وتستعيد كذلك ممارساتهِ في ثقافات اخرى غير مركزية. انّها ترتّب ذلك الارث البشري لصناعة الاذلال وتشير الى التغيّر الذي اعقب الحرب العالمية الثانية. لكن ما تزال القوانين التي تناهض الاذلال في طور النّمو، فالارث العميق من العار الذي ساد عصور البشرية اكثر حضوراً، خصوصاً انّ الدول ما تزال تمارس سياسات الاذلال البينية. وكما من المعروف، بوجود الحروب والوحشية يتعزّز فضاء الاذلال. وتستشهد الباحثة بحوادث شهدتها نزاعات عرقية او دينية، حيثُ تكون ممارسات الاذلال بداهةً لدى المرتكبين.
ما تزال اساليب القرون الوسطى متخفيّةً في المجتمعات
تحدّد الباحثة البنى التي تجعل من موقفٍ ما موقفاً مخزياً، وبالتالي، ما يجعله موقفاً تاديبياً. اذ انّ المواقف التي تحقّق العار، لا تحدثُ في الخفاء، وانّما يكون الجمهور احد اطراف العلاقة التي تجمعُ من يتعرّض للاذلال مع من يمارسهُ. وعلى ضوءِ ذلك، فانّ الجمهور الذي يرى مشهد العار لربما يتعرّض، بافرادهِ، الى الرّدع. على الرغم من انّ جمهوراً من البشر يُشاهد امتهان كرامة انسان، تكون انسانيتهُ موضعَ تساؤلٍ ايضاً. الامر الذي تنبّهت لهُ القوانين في الازمنة الحديثة، فالعقاب الذي كان يحدث على الملا امام جمهور غفير، بات يحدث في السجون.
كما يُمارَس الاذلال من شخص قوي صاحب سلطة على شخصٍ ضعيفٍ وخاضع، اذ تتكثف في مفهوم الاذلال اشكال علاقة السيد/ التابع كافةً؛ الرجل/ المراة، الاب/ الابن، الدولة/ المجتمع، واخيراً بين الدول المنتصرة والمهزومة في الحرب، ما يتجسّد في الاتفاقات التي تلي الحروب. وتذكر الباحثة: “الذي يجعل الخزي شيئاً بغيضاً… الادراك المؤلم لسلطة وقوة الفضح العلني، وهو موقف لا يمكن التخلّص من اثاره، فهو يدخل تحت الجلد، ويظلّ هناك داخل جسد من تعرّض للخزي”.
ينقسم الكتاب الى ثلاثة فصول، وتعرض الباحثة في الفصل الاول ممارسات الاذلال من اعمدة ومقاعد التشهير، والضرب والتوبيخ العلني، وحلق شعر النساء والوسم بالنار، وارتداء الاطواق او احجار العار والتجريس، كلها اساليب غابرة تهدف الى اهانة المعاقب.
وقد كانت العقوبة في العصور الوسطى مرتبطة بالاخلاق، اذ كثيراً ما كانت تعاقب الزوجات المتسلّطات بالتجريس، ومن كان يخرج عن عُرف الجماعات يوصم بالعار، فالاذلال العلني هو سلاح سلطة الجماعة لتحطيم الفرد المختلف.
اهناك قوّة قد يتسبّب الاذلال في اشعالها لدى المعاقَب
بدات الانتقادات تجاه عمود التشهير منذ القرن الثامن عشر ايضاً، لانّه لا يصلح شان الانسان المعاقب، وانّما يهدر كرامته. وبدات السجون تاخذ دورها كمؤسسات عقابية غير علنية. وفي القرن التاسع عشر، بدا الاعتقاد يسود بانّ كل عقوبة تهدر شرف الانسان تنحدر بهِ الى الحيوان، وبدا مفهوم “الكرامة الانسانية” بالظهور في التشريعات، على الرغم من مراعاة الطبقات الاجتماعية واستمرار التمييز بين النّساء والرجال.
تشير المؤرخة الالمانية الى استعادة النازيين لممارسات التشهير والفضح بهدف “ترسيخ نظام معياري جديد” يمنع اندماج اليهود وبناء علاقاتٍ معهم من اجل الوصول الى النّقاء العرقي، وهذا المثال يوضّح ايما توضيح قدرة سياسات الاذلال على ضبط سلوك الجماعات. في الفصل الثاني تستعرض المؤرخة امكنة الاذلال في المدارس والاخويات المغلقة والجيوش، في مجموعات الاقران وعلى الانترنت امام الاغراب ايضاً.
وتظهر الباحثة عبر الاستشهاد بالعقوبات المدرسية انّ الخزي جزءٌ من الحياة اليوميّة. لا سيما مع تضامن الاهل، لازمانٍ طويلة، مع العقوبات التي يفرضها المدرّس، الى جانب اعتبار شعور الكرامة لدى الاطفال شعور غير متطوّر. لكن تغير الحال مع منتصف القرن العشرين، اذ باتت ظاهرة “التنمّر” احد الموضوعات التي تعالجها كتب الاطفال بكثرة، كي يواجهوا قسوة الاخرين ولامبالاتهم باثار السلوك والكلمات عليهم.
ساسة لاذلال
تاخذ فريفرت الجيش مثالاً عن المؤسسات الشاملة التي تمارس الاحتواء على اعضائها، وذلك باستخدام صنوفٍ عديدة من سياسات الاذلال، فالجيش مؤسسة للتربية العسكرية، وغاية الاجراءات التاديبية الحفاظ على النظام وعلى الروح القتالية للجنود. ترتّب المؤرخة التشهير بدءاً من الجرائد الى التلفزيون عبر برامج الواقع انتهاءً بوسائل التواصل الاجتماعي التي تراها وسائل “مضادّة للتواصل الاجتماعي”، حيثُ انهارت فيها قدرة الفرد على مواجهة حوادث التنمّر التي قد تطاولهُ.
وتعيد الباحثة في الفصل الاخير بحثها الى القوانين، لكنها هنا تتحدث عن قوانين لتنظّم علاقات الدول في ما بينها. اذ يُمارَسُ بين الدول ما يمارس بين الافراد، خصوصاً في علاقات البعثات، فاهانة سفيرٍ بلدٍ ما هو اهانة لما يمثّلهُ.
كما تضرب عدداً كبيراً من الامثلة في هذا السياق، وتحدثنا عن اقتراب دولٍ من اعلان الحروب بسبب مواقف بروتوكولية، اذ انّ الكرامة بين الدول تُقاس بالقوة، ومن لا يرفض الاهانة يعدُّ ضعيفاً، وبالتالي تهمّش مصالحه. كما تشير في جانب اخر الى حالات الاعتذار التي قامت بها دول استعمارية عن ماضيها القاتم. وتضرب مثالاً لذلك زيارة مستشار المانيا الغربية فيلي برانت الى بولندا (1970)، وركوعهِ من غير تخطيط مسبق، كما تقول، امام نصب تذكاري لضحايا النازية، وقد بات مثلاً يُحتَذى في ثقافة الاعتذار الالمانية. بالطبع لا يغيب عنّا الابتزاز الذي مارسه ويمارسه الكيان الصهيوني باسم “الهولوكست” وغياب اي اعتذار الماني للشعب الفلسطيني، سواء عما لحق به من دعم المانيا لـ”اسرائيل” او كنتيجة للسياسات النازية وتاسيس الكيان الصهيوني على اثرها.
ينطوي كتاب المؤرخة الالمانية على تلميح الى تلك القوة التي قد يتسبّب الاذلال في اشعالها لدى المعاقَب، فالصفعة التي طاولت البوعزيزي، صارت ثورةً في بلدهِ. والاذلال قد يحطّم نفوساً، لكنه ايضاً قد يشعل بالغضب نفوساً اخرى، كي تنتفض وتستعيد انسانيها.“سياسة الاذلال”: كيف تحطّم الجماعةُ الفردَ المختلف

Scroll to Top