queenarwauni

نصري حجاج.. عصفور الحرية الفلسطينية الذي ضلّ طريق العودة الى السينما

اخبار اليوم الصحيفة, نصري حجاج.. عصفور اخبار اليوم الصحيفة, نصري حجاج.. عصفور

في صباح نمساوي غائم وممطر بحث “اللاجئ الخالد” الابدي عن بقايا جسده وذاكرته وهويته التي توارت عن برقع الليل، واعلن ان لا ارض تتسع لجسد حبيبته فلسطين، وان لا ارض بشرية تحفظ ذاكرته المثقوبة بالهموم، وان لا ارض تعترف بهويته الفلسطينية المثقلة بالانسانية.
جسده المثقل بالسرطان والمثقوب بالابر كان يتوق الى النوم في احضان حبيباته اللاتي احتضنّه في طفولته “الناعمة” وشبابه وعنفوانه وكهولته وشيخوخته.
هو العاشق الابدي للفن والحياة، اللاجئ الخالد -كما كان يقول عن نفسه- من الظلم، المسافر الابدي من دون حقائب، الحالم الابدي بعروسه المقدسية، المتعثر دوما بجراح شعبه ووطنه، المغني الابدي من دون ربابة كصديقه درويش يصرخ من وراء المنفى “اه يا جرحي المكابر.. وطني ليس حقيبة وانا لست مسافر.. انني العاشق والارض حبيبة”.
الحكواتي المتوحد بالسينما
الحبيبة الحرباء المتحولة التي تغير اسمها كل مرة، ولون بشرتها وعينيها، وشعرها وصوتها لتتخفى عن الانظار، والعدو المتربص في كل البقاع والمتخفي في ذاكرة الحنين، لكي تلتقي اللاجئ العاشق وتهبه الحب والكرم والعطف والحنان والامومة، فتسمى مرة قرية الناعمة في الشمال الفلسطيني، ومرة اخرى مخيم عين الحلوة في الجنوب اللبناني، ومرة ثالثة صيدا، ومرة سوريا، ومرة تونس.
وهي الحبيبة نفسها التي اراد تحنيطها في اسم ابنته شام، ومثلما وهبته حبيباته كل هذا الاحساس والرفق والمحبة اراد ان يردّ لهن الجميل ويهبهن كل ما تبقى من جسده الراشح بالثقوب، فكانت وصيته الاخيرة، مثلما كتبتها ونشرتها زوجته عبير، بان يحرق جسده وينثر رماده في ارض حبيباته واوطانه الصغيرة، الوصية الموحية المعبرة كلقطة اخيرة في احد افلامه، التي بلغ فيها الفعل الفني ذروته الرمزية القصوى.
ولكن الاكيد ان نصري حجاج همس في اذن زوجته عبير بعد ان كتب وصيته، وشدد على ان تكون الصرّة الاكبر من الرماد للحبيبة الاولى والاخيرة المنقوشة على حجر القلب والمعلقة بمشكاة الروح فلسطين.
حجاج الذي تحول الى قصة فنية ولحظة ذروة من الفعل الابداعي ولقطة سينمائية نادرة يذوب فيها جسد البطل ورماده مع جسد الحبيبة وروحها ويتوحدان في قبلة ابدية تنتهي على اثرها القصة والفيلم والحكاية، فهل هناك نهاية للموت اكثر شاعرية وفنية ورمزية من هذه؟
ولان حجاج متوحد مع الحكاية والفعل القصصي الفني، لذلك عاش ومات “حكواتيا” واختار لنفسه هذه النهاية والوصية المعبرة السينمائية، وهو ما يؤكده بنفسه في احد لقاءاته “استطيع القول اني حكواتي، وانني استمتع بحكاية القصص، فقد اتيت الى السينما من الادب”.
انسنة الموت وترميزه
حجاج الذي توفي يوم 11 سبتمبر/ايلول الماضي في فيينا بعد صراع مع المرض، تعوّد في كل اعماله السينمائية انسنة الموت وترميزه وتخليصه من النظرة العامية البسيطة، والسموّ به الى الافاق الفلسفية والمعاني الروحية الصوفية، وترجم ذلك في افلامه “في ظل الغياب” و”كما قال الشاعر” و”العصفور” .
وفي “رحلة الشتاء والصيف” بين الصرخة الاولى والشهقة الاخيرة، حمل نصري حجاج عبء قلبه وحده، وتاه في الدروب والبلدان والبقاع باحثا عن بقايا طفولته وترهل جسده وثورة روحه بين مخيم عين الحلوة الذي ولد فيه، ومقبرة صيدا حيث ترقد امه، وفي تونس حيث رتق ذاكرته الفلسطينية واحلامه السينمائية، وفي سوريا حيث تفتحت قريحته الفنية والشعرية، مسترجعا في كل ذلك بيت جدّه الاموي صقر قريش عبد الرحمن الداخل وصرخته المبكية الدفينة السرمدية “ايها الراكب الميمم ارضي، اقر من بعضي السلام لبعض، ان جسمي كما علمت بارض، وفؤادي ومالكيه بارض”. وكانه يستجدي حبيبته وارضه وحلمه وفلسطينه على لسان درويش “فبعضي لدي وبعضي لديك، وبعضي مُشتاق لبعضي، فهلّا اتيت”.
الهوية والبحث عن ذاكرة المكان
حجاج المولود عام 1951 بمخيم عين الحلوة (جنوب لبنان) لاب لاجئ من بلدة الناعمة في سهل الحولة بالجليل الادنى وام لبنانية، والحاصل من لندن على شهادة في الادب الانجليزي من الجمعية الملكية للفنون والاداب، وماجستير في السياسات الاجتماعية من جامعة “ميدل سكسك” البريطانية، هو الفنان والكاتب والمثقف والمناضل الذي شارك في صفوف الثورة الفلسطينية، ورافق بدايتها وذروتها وشتاتها وانكساراتها، وصادق مبدعيها ورموزها، مثل ناجي العلي ومعين بسيسو وسميح القاسم ومحمود درويش وياسر عرفات، وكتب عن الثورة وتوحد بها.
وقد استغل حبه للسينما ووظفه في خدمة القضية الفلسطينية والقضايا الانسانية من لجوء وهجرة ووطن وهوية وحوار بين الثقافات، وقد مثلت قضية الهوية احدى القضايا الكبرى التي وسمت كل اعماله السينمائية، فصار يطاردها ويلاحقها عبر ذاكرة المكان والحنين والحياة وصورة الوطن المفقود وفكرة الموت ايضا.
وقد كان فيلمه الوثائقي “ظل الغياب” الذي حاز جائزة “المهر” البرونزي للافلام الوثائقية في مهرجان دبي السينمائي عام 2007 ترجمة حقيقية لهذه القضايا الانسانية التي يشتغل عليها، وخاصة قضية الهوية وعلاقتها بالذاكرة مكانا وحنينا وخيالا، حيث تتحرك الكاميرا بلمسة فنية شاعرية للتنقيب عن هوية الفلسطيني الضائعة، عبر عشرات المقابر لمبدعين وثوار ورموز فلسطينية دفنوا في الشتات بانحاء متفرقة من المعمورة وحرمتهم اسرائيل من حقهم ووصيتهم الاخيرة البسيطة بان يدفنوا في وطنهم الام فلسطين.
وعن الفكرة الاولى التي خامرته لكتابة وولادة فيلم “ظل الغياب”، يقول حجاج في احد حواراته “في عام 1999 وفي اول زيارة لي الى فلسطين بعد حصولي على الرقم الوطني، ذهبت لازور قرية اجدادي (الناعمة) في سهل الحولة في الجليل الادنى، وحين وطئت قدماي ارض الناعمة اصبت بحالة لم اعهدها من قبل واحسست بانني مقبل على الموت، وفي تلك اللحظة وفي مواجهة مع سؤال الموت تداعت في ذهني كل قصص الموت الفلسطيني وارتباطها بالمكان، وسالت نفسي السؤال الذي لم يخطر على بالي قط: لو انني متّ الان فهل ساتمكن من ان ادفن في الناعمة ارض اجدادي وحيث ولد ابي وحيث كان حلمه بالعودة والموت؟ من سؤال العلاقة بين الموت والحياة والوطن والمنفى كما في تجربة الفلسطيني ولدت فكرة فيلم (ظل الغياب)”.
ويؤكد الناقد السينمائي امير العمري هذه العلاقة المتينة بين الفيلم وقضية الذاكرة بالقول “ان نصري حجاج في فيلمه (ظل الغياب) مشغول بفكرة الذاكرة الفلسطينية، من خلال البحث في الموت، وفي الشعر، وفي الاماكن، في مغزى العيش المحكوم بالموت، وفي معنى الموت مع وجود الذاكرة التي تحفظ وتحافظ، ولكن ايضا مع الحياة، مع البقاء والاستمرار في التعبير عن رفض الظلم والدعوة الى رفض الموت، والانتصار للحياة”.
وربما من خلال هذا الفيلم وهذه التغريبة نفهم وصيته الموحية التي ارادها انتقاما من العدو الصهيوني الذي حرمه واباءه واجداده واصدقاءه من قبر بسيط في ارضه فلسطين، فاخترع قبرا فنيا اوسع واشمل يحلق في الفضاء الانساني الواسع الرحب ولا يتقيد بمكان او جغرافيا انتقاما من بوتقة المكان وقيوده الضيقة وطوقه، وتوقا نحو عالم سماوي وصوفي وفلسفي ارحب.
العصفور الحالم بالحرية
ولان حجاج عاش الفقر والظلم والحاجة والتشرد في المنافي الكثيرة، فقد فطم ككل فلسطيني في الشتات على حلم العودة، ورضع من غيمة الحرية المشتهاة، وتلحف برداء الصبر في ليالي الشتاء الباردة تحت زنك المخيمات، لذلك نراه في قصصه وكتاباته وافلامه ينحاز من دون تردد الى مبادئ الثورة والحرية وينتصر للطبقات المهمشة المظلومة مهما كان انتماؤها، وقد ترجم قناعاته الانسانية العميقة هذه في مناصرته للثورات العربية منذ انبلاجها، فنراه يصرح في احد حواراته “منذ ان خرج الشعب السوري الى الشوارع يهتف من اجل حريته، وقفتُ الى جانب هذا الهتاف، كما وقفت الى جانب هتاف التونسيين والمصريين والليبيين واليمنيين، لا استطيع ان اكون الا مع الشعوب في تطلعها الى الحرية والعدل والمساواة وتخلصها من القهر والتجويع والاستعباد”.
هو الطفل الحالم بحق العودة وحق احتضان تراب امه فلسطين، قلبه يقطر احساسا ورقة وشعرا متاثرا بالبيئة اللبنانية التي ولد فيها ومدرسة الرحابنة التي تربى عليها، يقول “في طفولتنا في مخيم عين الحلوة كنا نظن ان الناس جميعهم في شتى انحاء العالم يعيشون مثلنا في المخيمات تحت سقوف الزنك، وانهم حين يهطلُ المطر عليه يحلمون مثلنا بفلسطين”.
وفي هذا السياق نفسه جاء فيلمه الاخير “العصفور” الذي عالج فيه قضية العبودية والخنوع وطوق السجون في مقابل التوق الى الحرية، من خلال قصة ام مسجونة في احد السجون العربية تنجب طفلتها داخل هذا المعتقل.
ويفضح الفيلم -الحائز جائزة الزيتون الذهبية لافضل فيلم روائي قصير في مهرجان القدس الدولي- المثقف الخانع المهادن من خلال شخصية السجين الذي يجرّه السجان ويوبخه وهو في ثيابه الرثة من دون ادنى مقاومة منه.
كما تتكشف صورة السجين حين يحاول ان يقصّ على الطفلة البريئة قصة العصفور الملون، فتساله الطفلة المولودة في السجن: ماذا يعني عصفور؟ وهي التي لم تغادر باب السجن يوما ولا تعرف معنى “عصفور”، في كوميديا سوداء من المخرج والكاتب نصري حجاج.
وكانه اراد ان يروي قصة اجيال المناضلين الذين يقبعون في السجون، وكذلك قصة الشعوب العربية التي ولدت وتعيش في اوطان محاصرة نفسيا وجسديا بالقمع والتعذيب والترهيب، وهي اقرب الى السجون منها الى الاوطان، انه الحلم نفسه الذي طالما راود عصفور الحرية الذي ضلّ طريق العودة الى السينما، من غيره؟! المبدع الفلسطيني الحر نصري حجاج.نصري حجاج.. عصفور الحرية الفلسطينية الذي ضلّ طريق العودة الى السينما

Scroll to Top