رحيل-مظفّر-النوّاب.-جسارة-الكلمة-التي-لم-تسقط-يوماً-

رحيل مظفّر النوّاب.. جسارة الكلمة التي لم تسقط يوماً

اخبار اليوم الصحيفة, رحيل مظفّر النوّاب.. اخبار اليوم الصحيفة, رحيل مظفّر النوّاب..

يكاد مظفّر النوّاب، الذي غادر عالمنا اليوم الجمعة، يكون اخر شعراء السرديات الكبرى العرب. غادر معظم الشعراء القضيةَ الكبرى، وانحازوا الى الهمّ الشخصي الموغل في الفردانية بكل خساراتها وهزائمها وطموحاتها، في حين ظلّ، الى جانب قلّة، متمسّكاً بجسارة الكلمة التي لم تسقط يوماً من حسابات الثورة والقدرة على التغيير، وهي الكلمة ذاتها، التي ذهبت به الى قلب دائرة التورُّط؛ منفيّاً ومهدَّداً بالاعدام وممنوعة كتبه من التداوُل، ليس على صعيد القُطر العراقي فحسب، بل في اكثر من بلدٍ في المنطقة العربية.
سيذهب النوّاب (بغداد 1934 – الشارقة 2022) في منفاه القسري الطويل، عبر نفق محفور بسكّين مطبخ. نجح الشاعر العراقي، ذات ليلة باردة من ليالي شتاء 1967 في مغادرة سجن “الحلّة” ببابل، هرباً منه ومن الاعدام شنقاً؛ ليشرع في تلك الرحلة الطويلة من الشعر والالم والخسارة الشخصية، مسكوناً بهواجس الوطن البعيد بنخيله ومقاهيه وبالفرات ودجلة، قارئاً على اذان الناس بعدها:
ولكنّها بلادي
لا ابكي من القلب
ولا اضحك من القلب
ولا اموت من القلب الّا فيها.
لم يكن صاحبُ “وتريات ليلية” منشغلاً، على طريقة السياسيّين المدرَّبين، برسم جداريات الخطابة اللائقة التي لا تُزعج احداً، بل كان محمولاً على قلب الشاعر، شديد الهشاشة والانفعال، يشتم هنا، ويسخر هناك، ويبكي:
افل الليل
وكبرق في الافق الشرقي يوازي السعف
يوازي همسات السعف.
الحالة اياها، التي جعلته في ليلة وضحاها، شاعراً بموقف اشكاليّ عندما رحّب بسقوط نظام صدّام حسين، مُدلياً بصوته في اوّل انتخابات تجري في “العراق الجديد”، ثم رافضاً ان يستقرّ في عراق ما بعد الاحتلال.
شكّلت لغتُه المتفرّدة، بكلّ ما تحتويه من اللامالوف في اللغة الشعرية ومفردات الرفض والغضب والتحريض، ميزةً لافتة لتجربته الطويلة، وخصوصاً في الشعر السياسي والعامّي؛ ميزةٌ اثارت العديد من عواصف النقاش بين جماهير المشتغلين بالنقد والادب حول الملاءمة والاصالة في شعره. لكنّها، في ذات الوقت، جعلت جماهير واسعة تُصغي الى ما يقوله، قبل ان يصبح علامة ثوريةً فارقة لجيل السبعينيات والثمانينيات يُشار اليه باعتباره منظّراً ومحرّضاً ضدّ انظمة القمع في المنطقة. يقول في احدى قصائده:
احترق الخنصر
اعطى ضوءاً عربيّاً
ليس لاصبعي الوسطى في الليل امان
وادير على هذي الاصبع حكّام الردّة قاطبةً
سوف اُحدّثكم في الفصل الثالث عن احكام الهمزة
في الفصل الرابع عن حكّام الردّةِ
امّا الان فحانات العالم فاترة
مللٌ يشبه علكة بغي لصقته الايام بقلبي.
لم يتوقّف مظفّر النوّاب عند هذه الحدود، بل حاول التاصيل ايضاً لجمالية اللغة العامّية وصُوَرها. يقول: “الكلام ضدّ العامية يسود في لغة التنظير، امّا في لغة الحقيقة فهي اُخرى، بدليل انّ الذين يهاجمونها يطربون حينما تغنّي ام كلثوم وفيروز بها. يطربون لصورها، ولكنهم حين يتحدّثون عن العامية يتحدّثون بلغة الادانة، وهذه ازدواجية عجيبة”.
كما لم ينشغل صاحبُ “قُل هي البندقية انت” ايضاً باقتراح قالبٍ شعريّ محدَّد في اطار انزياح الشعراء الى نمذجة تجاربهم الشعرية، سيذهب بعيداً في كلّ الممكن من ادواته؛ قارئاً للواقع: “واذاعات العرب الاشراف تبول على النار”، ومتنبّئاً بما سياتي، بما تمليه اللحظة الراهنة وبكلّ ما تفعله بقلب الشاعر المسكون بالانسان وقضاياه:
سيكون خراباً
هذي الامّة لا بدّ لها ان تاخذ درساً في التخريب.
ومحرّضاً:
اسنِد كوعك للكوّة
اسند كوعك للكوّة يا عبد الله
مدّ الرشّاشة في الفجر الشاحب.
سنرى مظفَّر النوّاب، في ما بعدُ، كهلاً ضعيفاً، يُعينه رجالٌ حوله على الحركة، عبر صُوَر قليلة ونادرة تتناقلها مواقع التواصل الاجتماعي، تستدرّ بكل اقتدار مشاعر التعاطف مع الرجل الذي شكّل، وحتى وقتنا الحاضر، ايقونة في الشعر العربي الحديث، ومَعلَماً شعرياً شاهداً على قسوة التبدّلات السياسية والاجتماعية في المنطقة العربية كلّها.
(العربي الجديد)رحيل مظفّر النوّاب.. جسارة الكلمة التي لم تسقط يوماً

Scroll to Top