queenarwauni

وباء لا ينتهي.. لِمَ اصبح الشباب مُعرَّضا للسرطان اكثر من اي وقت مضى؟

اخبار اليوم الصحيفة, وباء لا ينتهي.. اخبار اليوم الصحيفة, وباء لا ينتهي..

يبدو ان ارتفاع معدلات الاصابة بالسرطان بين صفوف الفئات الاصغر سِنًّا صار حقيقة ملحوظة للاطباء واعضاء المجتمع العلمي، وهي حقيقة تُثير الكثير من القلق وتطرح العديد من التساؤلات: ما اسباب زيادة حالات الاصابة بين صفوف صغار السن؟ ولماذا تنتشر سرطانات بعينها اكثر من غيرها بين هذه الفئات؟ واخيرا والاهم، هل للامر علاقة بنظامنا الغذائي او انماط حياتنا المعاصرة؟ في هذا التقرير، تسعى كلير ويلسون، محررة الشؤون الطبية في “نيو ساينتيست”، لاستكشاف بعض هذه التساؤلات.
نص الترجمة:
في عالم تستمر فيه ابحاث السرطان في التوغل بقوة، يتناهى الى مسامعنا باستمرار اخبار جيدة عن عدد الاشخاص المستفيدين من التقدم الذي يطرا على العلاجات، غير ان لهذه القصة جانبا اخر لا يحظى باهتمام كافٍ. فعلى مدى ثلاثة عقود، ازداد تدريجيا عدد الاشخاص المصابين بمرض السرطان الذين تقل اعمارهم عن خمسين عاما. وفي حومة هذه الظروف، يقف وعينا حيال السبب الكامن وراء ذلك حائرا لا يدري شيئا.
تكشف لنا الايام تباعا ان سرطان الامعاء او القولون هو النوع الاشد ضراوة، غير ان ذلك لا ينفي الزيادة المستمرة للاورام التي تغشى جميع اعضاء الجسد الرئيسية تقريبا. ومما يزيد القلق انه في فبراير/شباط الماضي، عزم مركز ابحاث السرطان المشترك بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة على منح الاولوية القصوى لتمويل الابحاث حول هذا الامر (ما يعني ان الجو يعبق برائحة الخطر). وذلك يُحيلنا الى السؤال الاهم: “ما الاسباب المحتملة التي قد تُفضي الى ارتفاع معدل الاصابة بالسرطان؟”.
حسنا، بشكل معتاد يزداد معدل اصابة البشر بالسرطان مع تقدمهم في العمر، ويرجع السبب الرئيسي في ذلك الى ان خلايا كبار السن كان لديها مدة اطول لاكتساب الطفرات الجينية المسببة للاورام. على سبيل المثال، تستهدف تسعة من كل عشرة اورام سرطانية الاشخاص الذين تزيد اعمارهم على 50 عاما. ولتاكيد ذلك، تقول اليس ديفيز من مركز ابحاث السرطان في المملكة المتحدة: “من المهم ان نتذكر ان الغالبية العظمى من الحالات التي يزحف عليها السرطان هم المرضى الذين تزيد اعمارهم على 50 عاما”.
على الرغم من ذلك، فان الاتجاه الذي يتبناه السرطان ليشق طريقه الينا لا يزال مُقلِقا، اذ لا تظهر اي بادرة تشير الى ان عزيمته قد تتبدد في القريب العاجل. وعن ذلك، يقول ماريوس جياناكيس، اخصائي الاورام في معهد دانا فاربر للسرطان في بوسطن: “يغالبك شعور بان على الشباب في هذه المرحلة من عمرهم ان يتمتعوا بصحة جيدة وان ينشغلوا برعاية اطفالهم، لذا يتراءى لك وجه الحياة اشد تجهُّما ويغدو نهارك مؤلما للغاية كلما التقيت شابا مصابا بالسرطان”. في مقال راي له بدورية “ساينس” العلمية في فبراير/شباط الماضي، طالب جياناكيس بضرورة استكشاف الاسباب الكامنة وراء ارتفاع معدل الاصابة بسرطان الامعاء على وجه التحديد.
ما قد يخفف من وقع هذا الامر قليلا ويبعث على بعض الطمانينة هو ان زيادة الاصابة بمعظم انواع الاورام في الفئة العمرية التي تقل عن خمسين عاما هي زيادة طفيفة نسبيا حتى الان. فمثلا، في الفترة ما بين عامي 1993-2018، ارتفع معدل الاصابة بجميع انواع السرطانات في المملكة المتحدة بين الفئات العمرية التي تتراوح ما بين 25-49 عاما من 133 حالة الى 162 حالة فقط لكل مئة الف شخص. ورغم ذلك، يرى شوجي اوجينو، استاذ علم الامراض بكلية الطب بجامعة هارفارد، ان الارقام التي اظهرتها منظمة الصحة العالمية حول حالات السرطان في البلدان الغنية، ومتوسطة الدخل وحتى منخفضة الدخل، تدعو الى ضرورة النظر الى مرض السرطان باعتباره وباء عالميا مُستَجدا بقوله: “في اعتقادي ان الاتجاه الذي تبناه السرطان لن يتوقف في القريب العاجل، بل على العكس قد يُسرع من وتيرته”.
تُعَدُّ نسبة الاصابة بسرطان الامعاء هي الاشد مدعاة للقلق. فمنذ التسعينيات، ارتفعت نِسَب الاصابة بين الافراد الذين تتراوح اعمارهم ما بين 25-49 عاما في المملكة المتحدة -على سبيل المثال- بنحو 50%، وتتبع المرض نمطا مماثلا في الولايات المتحدة وكندا واستراليا وكوريا الجنوبية والعديد من الدول الاوروبية، بما فيها السويد وفنلندا وهولندا. للوهلة الاولى، قد تُعزَى هذه الظاهرة الى النهج الحديث نسبيا لفحوصات السرطان التي تهدف الى اقتفاء اثر الاورام التي لم يكن بامكاننا ملاحظتها لولا هذه الفحوصات.
لكن ذلك لا يفسر حقيقة ان ارتفاع معدل الاصابة بسرطان الامعاء هو الاعلى بين الفئات العمرية الاصغر، اولئك الذين قلما تُجرَى لهم فحوصات. اظهرت ابحاث اُجريتْ على عشرين دولة اوروبية ان نسبة اصابة الافراد الذين هم في الاربعينيات من عمرهم تزداد سنويا بنحو 2%، بينما تصل الى 5% بين مَن هم في الثلاثينيات من عمرهم، في حين تبلغ 8% بين مَن هم في العشرينيات. في هذا السياق، ترى مانون سباندر من المركز الطبي بجامعة ايراسموس في روتردام بهولندا انه ايًّا كان السبب، فان المرض ما زال مُستانِفا مسيره، ولا يبدو انه سيرتدع عن سبيله في الزيادة المستمرة.
تغيير النظام الغذائي
اعلى ارتفاع في سرطانات الامعاء نجده بين اولئك الذين تتراوح اعمارهم ما بين 18 و 49 عامًا، ويظهر على هيئة اورام في الجزء السفلي من الامعاء والمستقيم.
احد الاسباب الاخرى التي قد تدعو الى القلق هو ان بعض انواع السرطانات التي تنمو بين الافراد الذين هم دون سن الخمسين تبدو اشرس من تلك التي تهاجم كبار السن، واشهرها سرطان الامعاء والثدي والبروستاتا. قد يعود السبب في ذلك جزئيا الى ان الشباب يستغرق وقتا اطول الى ان يتلقى تشخصيا بالمرض، ربما لان هذه الفئة العمرية اقل عُرضة للاشتباه باصابتها بالسرطان، وغالبا ما تتميز تلك الاورام التي تصيب مَن هم دون الخمسين بسمات فطرية معينة على غرار الطفرات الجينية التي يصعب علاجها.
يشير الاعتقاد السائد الى ان السرطان في معظم الحالات يستغرق عدة عقود حتى يتطور وتكتسب الخلايا تدريجيا مزيدا من الطفرات التي تسمح لها بالمراوغة والتملص من قبضة المكابح الطبيعية او القيود التي تفرضها اجسادنا عند تكاثر الخلايا. لذا، وفقا لما يقوله استاذ علم الامراض “شوجي اوجينو”، فان السبب الرئيسي في الاورام التي استاثرت بالمرضى في العشرينيات والثلاثينيات والاربعينيات من عمرهم يرجع في الاساس الى اشياء تعرَّضوا اليها في طفولتهم، او ربما حتى منذ ان كانوا في رحم امهاتهم.
اما السبب الاكثر وضوحا لزيادة عدد الحالات، الذي تدور حوله معظم الشكوك، فهو التغييرات التي طرات على نظامنا الغذائي، واكبر دليل على ذلك ان النسبة الاعلى في الاصابات نجدها في سرطان الامعاء، حيث يتصل الجهاز الهضمي اتصالا مباشرا مع الطعام الذي نتناوله. ومن بين 14 نوعا من السرطانات الاخذة في الارتفاع بين الافراد دون سن الخمسين، فان ثمانية منها تشمل جزءا من الجهاز الهضمي، مثل المريء، والمعدة، والمرارة.
يعود احد الاعتقادات السائدة ايضا حول زيادة اعداد الاصابات الى بعض الجوانب المتعلِّقة بالانظمة الغذائية الغربية الغنية باللحوم الحمراء او المُصنعة، فتناول المزيد من هذه اللحوم المصنعة قد يُزيد من خطر الاصابة بسرطان الامعاء. والدليل على هذه الحجة ان اعلى ارتفاع في سرطانات الامعاء نجده بين اولئك الذين تتراوح اعمارهم ما بين 18-49 عاما، ويظهر على هيئة اورام في الجزء السفلي من الامعاء والمستقيم. وعن هذا يقول اخصائي الاورام جياناكيس: “ان هذه الانواع من السرطانات غالبا ما تكون مرتبطة في كثير من الاحيان بتناول اللحوم الحمراء المُصنعة”.
اننا هنا نتحدث بالاخص عن اللحوم المُصنعة، لان الادعاءات التي تشير الى ان اللحوم الحمراء (الطبيعية) مُسببة للسرطان ما زالتْ موضع خلاف بين الخبراء. ومع ذلك، فان اللحوم الحمراء ليست المشكلة الوحيدة التي يتسم بها النظام الغذائي الغربي، بل الادهى ما يجره وراءه من كوارث اشد ايلاما، كامتلائه بالسكريات، والدهون، والاطعمة المُجهزة او المنتجات الغذائية المصنّعة بدرجة فائقة (تلك التي تتميز بالمذاق الشهي والسعر الرخيص)، والكربوهيدرات المُكررة التي يُعَدُّ مصدرها الرئيسي دقيق القمح الذي يُصنع منه الخبز الابيض، ناهيك بافتقار هذا النظام الغذائي الى الالياف.
على الجانب الاخر، ينوء صدر العلماء بالشكوك حول ما اذا كان هذا النظام تمخض عنه احد اشد التاثيرات السلبية وضوحا في عصرنا الحالي وهو ارتفاع مستويات السمنة. تشير بعض الدراسات الى ان الافراد الذين يعانون من زيادة الوزن او السمنة هم اكثرعُرضة لان يرزحوا تحت وطاة انواع معينة من السرطان. في هذا السياق، قد لا يرتبط السبب في زيادة اعداد الاصابة ببعض انواع السرطان ارتباطا مباشرا بما ياكله الناس، وانما قد يكون له علاقة ببعض الجوانب الاخرى للحياة الحديثة، كالانتقال الى نمط حياة اكثر خمولا، او تعرضنا المتزايد لبعض الملوثات البيئية.
ثمة سبب اخر محتمل لهذه الزيادة، وهو استخدام المضادات الحيوية جرّاء تاثيرها المحتمل على بكتيريا الامعاء. تقول مانون سباندر من المركز الطبي بجامعة ايراسموس بهولندا ان استخدام المضادات الحيوية بدا في الخمسينيات من القرن الماضي، ما يعني ان الاطفال الذين تلقوا مضادات حيوية في ذلك الوقت بلغوا الاربعينيات من عمرهم بحلول التسعينيات، وهو الوقت الذي بدا فيه ظهور السرطان المبكر.
جهود متضافرة وابحاث مطلوبة
مع وجود العديد من الاسباب المحتملة، لا بد لابحاث السرطان ان تمنح اولوية اكبر لرصد الاسباب الكامنة وراء ذلك بوسيلة دقيقة يُعوَّل عليها. وبالفعل في فبراير/شباط الماضي، وافق اثنان من الممولين الرئيسيين، وهما هيئة بحوث السرطان البريطانية (CRUK) والمعهد الوطني الاميركي للسرطان، ان يمنحا اولوية لابحاث السرطان.
في هذا الصدد، ترى شيرين لوي من جامعة ملبورن باستراليا، التي ساعدت في اعداد الاولويات البحثية لتحديات السرطان الكبرى، اننا لا نزال بحاجة الى دراسات ضخمة وطويلة الامد تتبع الافراد منذ الصغر، وتسجل في نهاية المطاف معدلات اصابتهم بمرض السرطان بتعقُّب اسلوب حياتهم وبيئاتهم اثناء اخذ عينات منتظمة من الدم، ويُطلَق على هذا المشروع اسم “اكسبوزم” (exposome) (النتائج القادمة من البيئة المحيطة).
في نهاية المطاف، تقول شيرين لوي ان هذا البحث الجبار والشاق للغاية لا يلزم -لحُسن الحظ- ان نبداه من الصفر، اذ توجد بالفعل العديد من هذه الدراسات التي سبق واُعِدّتْ لاستكشاف العلاقة بين صحتنا واسلوب حياتنا، وهذا قد يُسهِّل عمل الباحثين في مجال السرطان بالاستفادة من جهودهم السابقة لاستخراج البيانات اللازمة او ذات الصلة بالموضوع. ترى لوي ان من السابق لاوانه في الوقت الحالي اسداء مشورة للجمهور لتجنب ايٍّ من عوامل الخطر المطروحة قبل ان نحصل على اجابات شافية. ولتاكيد ذلك، تُنهي حديثها قائلة: “ما زالت الاسباب الكامنة وراء مرض السرطان عصية على ادراكنا، لذا ما زلنا في الوقت الراهن نتخبط في الظلام”.وباء لا ينتهي.. لِمَ اصبح الشباب مُعرَّضا للسرطان اكثر من اي وقت مضى؟

Scroll to Top