اخبار اليوم الصحيفة, غريبة الماء والالم اخبار اليوم الصحيفة, غريبة الماء والالم
مات سالم في النهاية ام لم يمت؟ هل هي مجرد لحظة عابرة داخل الاسطورة حيث الحياة والموت يتوازيان في دوامة تبادلية للادوار وفي صراع شرس وابدي ضد طبيعة جافة وليست كريمة دائماً، لكنها تنصاع للارادة والعقل والخرافة ايضاً؟
شيء عظيم يحدث اليوم في عُمان ابداعياً، وروائياً تحديداً، يستحق تامل اسبابه. فجاة ظهرت كاتبة كبيرة، جوخة الحارثي، فازت بجائزة البوكر العالمية (للنص الاجنبي 2019) من خلال عملها «سيدة القمر» (2010)، ثم بشرى خلفان برواية دلشاد/ سيرة الجوع والشبع، (2021) التي اخطات البوكر بانش واحد، لتفسح المجال امام عماني اخر، زهران القاسمي (الف مبروك). ظهور عماني بهذه الجودة لا يمكنه ان يكون وليد الصدفة. هناك ارضية سرية كانت تشتغل في الخفاء لتجعل من هذا الجيل انبل وريث لجهود الاجيال السابقة.
عندما التقيت بزهران القاسمي، قبل اسابيع قليلة في بغداد، لم اكن اعرفه الا من خلال روايته الاخيرة التي تلقيتها كهدية ثمينة في معرض الشارقة. سالته هل هو صاحب رواية «تغريبة القافر» (دار مسكلياني 2023). قال نعم، ببعض الخجل. قلت له: «رواية ساحرة وجميلة، جعلت من اسطورة الانجاب السحري من صلب الموت، والموت المربك، مادتها الاساسية. انا بصدد الكتابة عنها بكثير من الحب». ثم دخلنا في احتمالات البوكر، ووصلنا الى نتيجة جميلة احبها: «المهم في كل هذا ان الرواية اصبحت مرئية في عالم كل الاشياء الجميلة فيه مخفية او مطموسة، بل وتردم وهي حية. يكفي البوكر هذا في انها تجعل من التجربة الشبابية التي تنشا داخل هذا الخراب العربي تملك كل امكانات الشيوع والتطور والمنافسة.
فوز اي رواية بجائزة كبيرة يحمّل صاحبه (ته) بعد لحظة الزهو والفرح مسؤوليتين: الاستمرار والخلق الجديد. من دون ذلك، تنطفئ جدوة الابداع. عندما نراجع خرائط الجوائز العربية الكبرى واسماء الفائزين، في الشيخ زايد، كتارا، البوكر، جائزة الابداع العربي وغيرها، لا نجد الكثيرين ممن بقوا في استمرارية ابداعية، وكان الجائزة كانت قاتلة.
يضعنا الروائي زهران القاسمي في خضم اللعبة الرواية منذ البداية التي تستند الى الاسطورة الشعبية التي اصبحت اليوم جزءاً من تصنيع الفعل السردي الذي يجعل الروائي يتفادى واقعية الاحداث التي كثيراً ما حولت الكاتب الى مجرد كاميرا راصدة لحركة المجتمع. الاسطورة هي الفعل التخييلي بامتياز، النابع من القاع المجتمعي الذي يمنح الرواية قوة وقدرات تعبيرية غير متوفرة في السرد الواقعي المباشر، وفي خضم حالة وجودية تتعلق بالماء الذي يمنح الحياة ولكنه يمنح الموت ايضاً. بؤرة الحكاية/ الرواية كانت الماء واساطيره؛ الماء هو مال كل شيء حي، لكن في عالم الماء لا شيء دائم ومؤكد. كل ما نظنه مسلمة في حياتنا وتاريخنا ليس الا سلسلة اوهام، لان العالم اكثر تعقيداً مما نتصوره.
تستيقظ القرية على فجيعة لا احد يعرف سرها، يتراكض الناس في كل الاتجاهات بحثاً عن حقيقة الخبر الذي يقول بان شخصاً مات غريقاً في احدى الابار العميقة؟ منذ تلك اللحظة البدئية، تقودنا الرواية نحو حكاية الموت/ الماء. بسرعة ينجلي الخبر، فليست الضحية الا مريم بنت حمد ود. غانم، سيدة الماء التي فقدت تركيزها قبل ان تدخل مرحلة شبيهة بالجنون الذي احتل دماغها ولم ينفع فيه اي دواء او مسكن. ولم يكن لها من دواء الا الماء الحاضر في محيطها والابار والافلاج. هناك ترتسم سعادتها ويخف ما بها من معاناة قبل فجيعة النهاية في «عمق البئر» الذي كان منقذها من الالام.
موت مريم لم ينه حياتها، فقد منحها استمرارية من خلال ابنها سالم، الممتلئ باصداء الماء بعد موت ام سالم غرقاً داخل بيئة عمانية شديدة الجمال والجفاف ايضاً.
لغة زهران الجميلة ارتفعت بها عالياً لدرجة ملامسة التراجيدية، لغة بسيطة وليست تبسيطية، Simple et pas simpliste موصلة للمعني بايحاءات اسطورية اكسبتها دلالات غنية وعميقة. ربما كان لشاعرية الكاتب (فهو شاعر ايضاً) الدور الاهم في ذلك. اشتغل على خزان التعبير الشعري والصور دون ان يخل بسرديته، الامر لم يفلح فيه كثيرون من الذين انتقلوا من الشعر للرواية، وهم كثر. هناك داخل هذه الرواية وعي مسبق بالوظيفة اللغوية من خلال التبدلات على مستوى الاجناسي.
مريم ماتت غرقاً، لكنها كانت حاملاً، كما عرفت ذلك عائشة بنت مبروك خالة الغريقة. حالة غير مسبوقة؛ هل يُترك الجنين يموت وهو في اواخر تكونه الكامل، ام يتم انقاذه لانه كائن حي ومن حقه ان يعيش. فتتخذ بنت غانم قرار فتح البطن في مشهدية قاسية، ويُخرَج سالم بن عبد الله بن جميل من بطن امه ليُمنح حياة اخرى بعد ان عاش الموت قليلاً في بطن امه وسمع الماء الذي كان يسكنها محملاً برسالته الصعبة والمهمة، وجعل من ذلك السحر مهنته، واكتشاف الماء في عمق الصحاري ومنح الناس الاستمرار والحياة. فجاة، تحول الى شخص يتشمم رائحة الماء فيحفر الافلاج والابار بشق جسد الصحراء الجاف. كان يعرف مساراته السرية التحتية، ويعرف متى يحفر وكيف يحفر، ويجعل الماء يندفع بقوة نحو السماء. يعرف مخابئه بالسماع فقط، ولكن اي سماع؟ فقد ورث شيئاً عن امه ظل يسري في خلاياه. فقد كانت مريم، صاحبة التطريز الجميل قبل اصابة دماغها، تمد راسها نحو البئر ليهدا المها الذي يشبه الشقيقة التي لم ينفع فيها الكي والادوية.
سالم العاشق والقافر، كما سمّته كاذية بنت غانم، ينسحب فجاة من المشهد القروي بمجرد زواجه من نصرا غازلة الصوف التي احبها. قيل انه وقع في اسر سكان الارض السفلية الذين سجنوه وقيدوه. هذا الغياب وضع نصرا في مرمى اهلها، اذ يُطلب منها ان تتزوج من جديد لكنها ترفض كلياً. تواصل انتظارها بعزلها في مشهدية اسطورية قريبة من ملحمة هوميروس. بنيلوب وهي تغزل في انتظار زوج طال غيابه. تسمي خيوط نسيجها باسماء الافلاج التي حفرها زوجها. يصبح الغزل هاجسها للانتظار والحياة. قيل انه حينما كان يحفر فجّ محسن بن سيف، داهمه صداع غير مسبوق قبل ان يجرفه الماء ويدخل في صراع مع الاسماك العمياء التي كانت تدميه، ويرى اشياء كثيرة هي بين حافتي الحقيقة والتخييل، مثلاً سجن قلعة الرستاق حيث كان ينتهي السجناء في حفر عميقة. لا تهم نهاية الرواية المفتوحة سوى ان معركة الماء ستظل مستمرة حتى الابدية.غريبة الماء والالم الوجودي