queenarwauni

رئيس عربي ثروته الكتب والسمفونيات والاصدقاء.. حوار مع المنصف المرزوقي

اخبار اليوم الصحيفة, رئيس عربي ثروته اخبار اليوم الصحيفة, رئيس عربي ثروته

اذا كنت دقيقًا في مواعيدك مع اصدقائك، فستصل الى المكان قبل 5 دقائق من الموعد. لكن ماذا تفعل حين تواعد رئيس جمهورية سابق؟ لا اعرف اجابتك، لكني اعرف اني جئت قبل موعدي بـ40 دقيقة. لا تلمني، لا التقي برؤساء كل يوم.
وصلتُ الى فندق شيراتون الدوحة في الثامنة وخمسين دقيقة مساءً، كان موعدي مع الدكتور المنصف المرزوقي، اول رئيس منتخب في انتخابات حرة بعد الربيع العربي، في التاسعة والنصف. وكنت اطمع بان يتاح لي وقت اضافي اذا بدانا اللقاء قبل الموعد المحدد بنصف ساعة.
جلستُ في البهو اقلّبُ اوراقي وانتظر املًا في ان يؤذن لي قبل الموعد فاخذ نصف ساعتي منضافًا اليها دقائق من الهوامش.. فتحت هاتفي وارسلت صورتي لوالديّ وكتبت لهما: اتجهّز الان لاجراء حوار مع اول رئيس عربيّ منتخب. بابٌ من ابواب البرّ تعلّمته من زكي مبارك، ولكن بطريقة معكوسة. قرات لزكي مبارك (ت 1952) مرةً انه لم يشكُ يومًا لابيه صعوبات عيشه، مخافة ان يهمّه. وانا لا اشارك والديّ الا الاخبار السعيدة. ولعل الفتى زكي المغروس في التراث العربيّ اقتبس هذا الخلق الرفيع من مقولة ابراهيم بن اسحاق الحربي (ت 285هـ = 898 م): “الرجلُ كل الرجل، من يدخل غمه على نفسه، ولا يدخله على اهله”.
في التاسعة الا 5 دقائق، وقف شاب انيق في قلب البهو، عرفت من امساكه بهاتفه وتلفّته انه من فريق المنصف، فمشيتُ نحوه.
مرحبًا، انا عبد القدوس.
مرحبًا، الدكتور مستعدٌ لاستقبالك الان. ومشينا نحو المصعد. اذا كنتَ ممن يحتمل الصمت الرهيب، في المساحات الضيقة كالمصاعد، فلستُ افهمك، ذلك شيء لا اطيقه. قطعت الصمت المزعج بسؤاله عن مكان اقامته، وعن عمله، ففهمت انه يملك مخبزًا في فرنسا منذ وقت طويل. التفتّ اليه بكلّي، واستقبلته، ومددت اليه يدي لاصافحه للمرة الثانية.
“حسنًا سيدي هذا سؤالٌ خارج عن الحوار مع فخامة الرئيس، لكن لا بدَّ لي منه” سالته بكل جديّة.
“تفضل” قالها وهو يشدّ يده على يدي، ليعكس جديّته في تلقي السؤال.
“ما هو سر الكرواسون عندكم، الناس عندنا ياكلون عجينًا صرفًا على شكل هلال ويسمونه كرواسون، وهو مختلف لما ذقته في فرنسا، هل السر في تخمير العجين، ام جودة الافران، ام ماذا؟”.
“هذا سؤال جيّد، سابوح لك بسر الصنعة، السرّ في الزبدة! لا بد ان تكون ذات جودة ليكون الكرواسون ممتازًا” قال هذا وانفتح باب المصعد، وظن ان السؤال قد انتهى.
تشبثت بيده لاشعره ان الموضوع لم ينتهِ بعد، وسالته: وما هي الزبدة التي تستخدمونها. بنصف ابتسامة ونصف دهشة قال: “نشتري زبدتنا من اقليم فرنسي مشهور بجودة البانه قريب من بواتييه، واسمه (grand fermage)، ها قد اصبح لديك كل اسباب المنافسة”. اردف ممازحًا. دوّنت اسم الزبدة، ووضعت الورقة في جيبي.
ربما لو انتصر عبد الرحمن الغافقي على شارل مارتل في معركة بواتييه بلاط الشهداء 114هـ/ 732م، لكان الوصول الى هذه الزبدة الجيّدة اسهل..
في الطابق الخامس ينفتح الباب رقم 34 على جناحٍ واسع انيق، سرنا في الممر المفضي الى جلسة واسعة وغرفتين تتوزعان على الممر يمينيًا وشمالا. في نهاية الممر يقف رجلٌ على راس الـ70، في بدلة زرقاء داكنة وقميص ابيض. انتهينا الى غرفة الجلوس المتسعة بمكتب واريكتين، تطل من شاشة الحاسوب المفتوح على المكتب صورة لطفلتين جميلتين، فهمتُ لاحقًا انهما حفيدتاه.
رحبَ بي، واجلسني على اريكة مفردة، وجلس مما يليني على الاريكة الممتدة. وقال لمساعده: قبل ان تذهب، ارجوك تفاهم مع الة القهوة هذه لم احسن التعامل معها.
قدّم لنا مساعده القهوة وودعنا.
بعد السلام والرسميات، بادرته قائلًا:
“فخامة الرئيس استاذنك في مسالتين”
فقال: بحفاوة “بالتاكيد تفضل”
اولا، في طرح الالقاب، حتى ينطلق لساني بالاسئلة، وانت تعلم ان اول ما فاتح به ابو حيان التوحيدي الوزير ابن العارض في ليالي الامتاع والمؤانسة ان قال له: [ايها الوزير] يُؤذن لي في كاف المخاطبة، وتاء المواجهة، حتى اتخلص من مزاحمة الكناية ومضايقة التعريض، واركب جَدَد القول من غير تقيّة”.
وثانيا، ان الصحفيّ اذا لم يتواقح في بعض اسئلته بقيت غصَّة في قلبه، وشجًا في حلقه. فاحتمل لي جراتي في السؤال، واغفر لي تطاولي في التنقيب.
فقال متبسمًا: “شيء طبيعي، خذ راحتك!”
ففتحتُ مذكّرتي، وتوجهت له باول سؤال مُعدّ: حسنا، ما الذي يفعله المنصف المرزوقي الان، رجل في الـ70، كان معارضًا ثم وصل الى سدة الرئاسة حين نفخت رياح الربيع في شراعه، ثم انقلبوا عليه وصار اليومَ شبه مشرّد يلاحقه القضاء التونسي كما يطارد المجرمين، فلماذا لا يستريح ويتقاعد عن العمل السياسي، فقد بلغ الغاية في الجهد، ولم تعد بوارق الامل تشي بتغيير قريب. كثير من الشباب -والتفاؤل اقرب الى اخلاق الشباب من الشيوخ- كفروا بالتغيير حين راوا ما الت اليه الامور، فلم لا تستريح؟
كان يستمع اليّ بتركيز، ولم اكد افرغ من طرح السؤال حتى انقض مجيبًا وكان الجواب كان مختمرًا في ذهنه “شوف، انا لا انغمس في الزمن القصير بل انا منغمس في الزمن الطويل، انا قارئ جيّد للتاريخ، وقد عشتُ معركة والدي الذي قاوم الاستعمار الفرنسي ودخل السجن بسبب نضاله، ثم وجد نفسه في الصف الخاسر بين صالح بن يوسف الذي كان عروبيًا اسلاميًا وبو رقيبة الذي كان فرنكفونيا، اختار والدي الشق الخاسر، ووُصِم بالخيانة، بالمناسبة، وصف الخيانة يلاحقني منذ كنت طفلًا حين كان يطلق على والدي، والان صار يطلق عليّ، لقد بقي والدي معارضًا للسلطة 33 سنة، ولا بد ان احطم رقمه واصمد 34 سنة” قالها باسمًا، كالممازح.
ثم عادت ملامح الجدِّ على وجهه الراسخ في السحنة العربيّة وقال “نحن بدو، والبدويّ عنيد بطبعه، تعوّدنا على شظف العيش والصراع، الدرس الذي حفظته من التاريخ ان زمن الافراد ليس هو زمن الشعوب، الذي قد يمتد لمئة او مئتين سنة.. دورك انت ان تكون حلقة في مسار التحرر” قال الجملة الاخيرة، وقد لانت ملامحه، وعاد كمعلّمٍ ينصح لتلميذه، او شيخ يلقي بوصيته الاخيرة الى حفيده.
متى توفي الوالد؟
“في عام 1988، لقد قاوم والدي الاستعمار، وانا اقاوم الاستبداد، والاستبداد والاستعمار وجهان لعملة واحدة، وساورِّث هذا لابنتي التي تدرِّس الان في برنستون، سانغّض عيشهم الى ان اموت، وبعد الموت سانغّص عيشهم اكثر لاني تركت كتبًا وكتاباتٍ كثيرة.. حتى بعد موتي ساواصلُ النضال!”.
لا يمكن ان تمنع نفسك من التاثر بتيّار الحماسة السياسيّة، الذي يولّده المنصف المرزوقي حتى وهو جالس على الاريكة، وكانه امام حفل جماهيريّ في ميدان من ميادين التحرير. اردتُ ان نكسر نمط الحديث السياسيّ الذي بدا ساخنًا منذ البداية فقلبتُ اوراق مذكرتي الى السؤال الاخير.
“حدثني عن القناعات التي توصّلتَ اليها بعد كل هذا العمر المديد” ولاوضّح السؤال اكثر، ضربتُ له مثالًا “قراتُ مرة في مذكرات مراد هوفمان، انه كان يكتب خلاصة قناعاته ومعتقداته الفكريّة التي انتهى اليها في دفتر صغير، فلما شبَّ ابنه، دفع الدفتر اليه في عيد ميلاده الـ18”.
“خلاصاتي الحياتيّة ستجدها في كتابي الرحلة، وهو كتاب سمين في 600 صفحة، فلا يمكن تلخيصه في جلسة، ولكن دعني اقول لك خلاصة رئيسة وصلت اليها، وهي ان البشريّة تهددها 3 افات طبيعية و3 افات من صنع الانسان، اما الافات الطبيعية: فالزلازل والطوفان والاوبئة وهذه الاخيرة اعرفها لتخصصي فيها.
واما تلك التي من صنع الانسان فهي: الاستبداد، والاستعباد، والاستعمار، واذا استطعنا ان نخلص البشرية منها فسنصنع عملًا عظيما. في تونس عام 1846 كان البشر يباعون على قارعة الطريق، كالبهائم، وقد كانت تونس رائدة العالم في الغاء نظام العبودية، قبل سنوات من قرار الغاء الولايات المتحدة له، وانا فخور بهذا. اذن، الاستعباد قد انتهى اذا استثنينا تجارة الجنس، والاستعمار كذلك انتهى ما عدا في فلسطين، وبقي الاستبداد الذي هو من بقايا النزعات الحيوانيّة التي في الانسان، فهو من شريعة الغاب. اذا ارادت البشرية العيش بكرامة لابد من القضاء على هذه الافات. ودوري كمثقف وسياسي دفع البشرية للتخلص من الاستبداد”.
قلتُ في نفسي لقد عدنا الى السياسة، وبالتالي يبدو ان محاولة الخروج عنها جهدٌ ضائع، يقول الفرنسيّون في امثالهم: بائعة السجائر مهما بلغ جمالها، لا يمكنها ان تبيعك شيئًا غير السجائر.
هذه خلاصة طيّبة، لنعد الى المشهد اليوم، كيف تنظر الى “طوفان الاقصى” وهل احدث لديك تغييرًا او مراجعات؟
“لديّ نظريّة في مسالة الربيع العربي، فالتسمية واردة الينا ولا تعبر عن واقعنا، اما انا فاشبّه وضعنا في المنطقة العربية بالبراكين التي تحصل بدون توقع ويكون اثرها هائلًا، فنحن لا نعلم متى واين سيثور البركان، لانه لا يثور الا فجاة، وكذلك كان الربيع العربي، والطوفان هو بركان ثانٍ من البراكين التي انفجرت في منطقتنا، وهو من جهة تصفية لفاتورة الانقلاب على الربيع العربي، انفجار هذه البراكين وتغيير الواقع امر حتمي”.
“لكن البراكين تخمد لقرون!” قلتُ معلقًا، بعد ان اعجبتني الاستعارة، واردتُ مجاراته فيها ولكن بنظرة تشاؤميّة.
“صحيح لكنها اذا ثارت تغيّر كل ما حولها. وتصبح اراضيها من اخصب الاراضي للعيش من بعد”.
عشتَ في الغرب طويلًا، الم يغيّر الطوفان نظرتك الى الغرب، الم يبدِ لك وجهه القبيح؟
“بالعكس، ما حصل تجميل لوجه الغرب!” وصاحبت كلمته التالية تعابير وجهي التي قراها سريعًا فقال: “وهنا ستفاجا!”
كيف؟
مد يده الى كوب القهوة امامه وارتشف منه، ثم قال:
“اين خرجت المظاهرات لمناصرة غزة؟ في لندن، ونيويورك، وسيدني. انا حضرت مظاهرة في باريس كان 90% من المتظاهرين من الفرنسيين البيض! هؤلاء لم تخرجهم القرابة، وانما القيم. نحن دائما ما نخلط بين الشعوب والانظمة. الغرب ليس هو الحكومات الغربية. اضف الى ذلك الحديث عن الاعتراف بدولة فلسطينية لدى اسبانيا وايرلندا وبلجيكا. لقد حسّن الطوفان نظرتي الى الغرب، ارادتها اسرائيل حربًا ضد اليهود وضد السامية لكنها بدت حرب تحرر عند الغرب!.
لكن يا سيدي، تخرج المظاهرات في الغرب وتملا الشوارع هتافًا، وبعدها تطير الطائرات بالاسلحة لاسرائيل لتذبح الفلسطينيين، وبالتالي ما الفائدة من موقف الشعوب، والفعل المؤثّر يحتكره السياسي؟
“في البلاد الديمقراطية تؤثر الشعوب في القرار. ليس كدول الاستبداد، صدقني ان الحراك في فرنسا غير قليلا في موقف الحكومة، وهذا الشارع الاميركي يحاصر بايدن في سياسته مع اسرائيل. من احرق نفسه تظاهرًا لغزة؟ طيار اميركي. هل تصورت هذا من قبل؟ انا منذ 50 سنة اعيش في اوروبا ولم ار تفاعلًا اوروبيا مثل المظاهرات الحالية” عاد ليرتشف من كوبه، واردف “هذا جيل جديد. ولا يشبه الاجيال القديمة، اجيال الاستعمار، ولا بد ان نتواصل ونتفاعل معه”.
اغراني شربه للقهوة بان امدَّ يدي الى كوب القهوة امامي، وارتشف منه، لم تكن قهوةً رئاسية، غسلت بقاياها في فمي، بشربة من كاس الماء، ثم وجهت اليه سؤالا كان يلوح في ذهني وانا اتابع مسيرة ذلك الرئيس الذي يشبه شعبه، ويشبهنا.
لماذا يكره المنصف المرزوقي المال؟
“كيف قلت لي؟” نظر اليّ باستغراب
لقد خرجتَ من الرئاسة بذمة مالية نقيّة، وبقيتَ رافضًا لكل عروض الثراء المقدمة لك من قوى الرجعية، هل تكره المال، هل اثرت ميولك اليسارية في نظرتك له؟
“المال وسيلة وليس هدفًا. يساعد على تسهيل حياة الناس، لكن عندما يكون وسيلة لشراء الضمائر..”
قاطعته قائلًا “اتكلم عنك انت، الا يداعبك خيال المال والغنى وتكوين ثروة؟”
ابدًا، انا اظن الثروة هي ثروة ثقافية، اعتبر نفسي غنيا جدًا، غنيٌّ بالكتب التي قراتها، بكل السيمفونيات التي استمعت اليها، والاشخاص البديعين الذين صادقتهم وتعرفت عليهم هذه هي الثروة بالنسبة لي”.
هذا مفهوم غريب للثراء، هل هو شيء نشات عليه ام اكتسبته؟
“بل نشات عليه، لتربيتي البدوية، اللذة عندنا في العطاء لا في الاخذ!”.
على ذكر البداوة من اين جئت بهذه الفصاحة؟ كيف تكوّنت قدرتك على كَبْسَلَة الافكار في عبارات مشرقة؟
“نحن المرازيق قبيلة عربية، اختي شاعرة بدوية، جدي كذلك كان شاعرًا، يقال اننا من بني سُليم [اذن، فالخنساء منكم]، هاجرنا الى مصر ثم طردنا الفاطميون فاتجهنا غربا. لماذا احب القطريين؟، لان لهجتهم تذكرني بلهجة اختي وارضنا”.
كان نظام بن علي موغلًا في الدناءة تجاه خصومه السياسيين، ويعرف ان مسالة الشرف مسالة حاسمة لدى التونسيين. في الوقت الذي فرض النظام البائد على المرزوقي الاقامة الجبرية في منزله، مطوقًا اياه بكتيبة من الشرطة، دسّ اليه سيدة لتتهمه بنفسها، وفي اللحظة التي خرج فيها المنصف ليودّع ضيوفًا نزلوا عليه، تسلطت الكاميرا على الباب، وقفزت السيدة على الرجل وتعلقت به واخذت تصرخ “سي المنصف لقد فعلت بي وفعلت” ليقاطعها الشرطي من خلفها، “ليس هذا هو، لقد امسكت بالشخص الغلط، المرزوقي يقف الى جانبه!” وتحولت هذه المكيدة الى كوميديا سوداء.
بعد ان اُجهِضَ حلم الربيع العربي على ايدي العسكر وقوى اقليميّة، هل ترى ان قضيّتنا قضية استقلال ام تحوّل ديمقراطي؟
“لا تفصل المعركتين، الاستعمار والاستبداد شيء واحد في منطقتنا، كيف يمكننا ان نقيم نظاما ديمقراطيا في بيئة استبدادية، لا يمكن، ولذلك يجب علينا ان تكون معركتنا معركة ديمقراطية واسعة، يجب ان تكون جماعات الديمقراطية متواصلة ومتعاونة فيما بينها في الدول العربية، وهذا ما اعمل عليه الان من خلال شبكة الديمقراطيين العرب”.
من يستمع لخطابات المنصف المرزوقي في مسائل الهوية والثقافة والحضارة، يظنه اسلاميًا، لتشابه الخطابين، لماذا لست اسلاميًا؟
“اولا انا مسلم بطبيعة الحال، لكن ما اخشاه لدى الاسلاميين هو الاستبداد بالصبغة الدينية، هذا خوفي الاكبر. ايران نموذج لدولة اسلامية لكنها استبدادية. وعليه فانا لا اقبل الاستبداد سواء كان علمانيًا او اسلاميًا ما اريده هو نظام ديمقراطي. اما ثقافيًا، فانا مؤمن بان العمود الفقري لهذه الامة هو الاسلام واللغة العربية!”.
تقرا الادب الفرنسي؟
بعد ضحكة مجلجلة وكان السؤال كان مقلوبًا، “لا اكاد اقرا الا الادب الفرنسي. قرات كثيرا منه. يغيظ الفرنكفونيين هذا، يقولون انت منا ولست منّا! انت منتج للمدرسة الفرنسية، ومطلع على الثقافة الفرنسية. فاقول لهم انا جئت لفرنسا وتعلمت الفرنسية وقرات للكتاب الفرنسيين لاخذ اسباب القوة لا لاصبح فرنسيًا!”.
اذن بقيت بدويًا حتى في فرنسا!
“تمامًا. انا احب الثقافة الفرنسية لكني لن اكون خادما لهم، انا عربي مسلم!.
ما الذي تقرؤه هذه الايام؟
“اقرا ذلك الكتاب” واشار الى كتاب بالانجليزية يستلقي على مكتبه (اقتصاديات الكعك المحلى: سبع طرق لتفكر كاقتصادي في القرن الواحد والعشرين، لكيت رورث) “وهو كتاب في الاقتصاد اوصتني به ابنتي. كما اني حصلت قبل يومين على رواية صديقي الكاتب احمد فال ولد الدين “دانشمد” وسابدا بقراءتها.
والادب العربي كيف اطلاعك عليه؟
انا شغوف بالادب العربي، لو اطلعت على موقعي ستجد كتابًا عن مسامراتي الادبيّة. في ايام كورونا قلت لاصدقائي الذين التقيهم على شاشة الجهاز، نحوا عنا السياسة. اريد شعرًا وادبًا، لنتناول في كل مجلس شاعرًا. في كل مرة كنت احضر صحبة احد الشعراء: المتنبي، او الشابي، او المعري، او الشنفرى ..”.
صار يتكلم بحماسة مختلفة عن حماسته السياسيّة، وهو يتذكر مجالس سمره، حين دخل علينا مساعده، ليقول له ان لديه ضيوفًا يحبون ان يودعوه قبل سفره، ويساله كم تبقى لكم من وقت الحوار، نظرتُ الى ساعتي، واذا هي العاشرة، لقد انقضت نصف الساعة المخصصة للحوار، نظر اليّ وما زالت نشوة الحديث عن الادب تيّارًا يسري بيننا، فقال نحتاج الى ربع ساعة ايضًا، ويمكن ان يسلموا عليّ الان، ادخلهم.
ثم عاد اليّ، ليكمل حديثه “في احد المجالس جئتهم: ببيت للشنفرى يقول فيه:
دَعَسْتُ على غَطْشٍ وبَغْشٍ وصُحْبَتِي ** سُعارٌ واِرْزِيزٌ ووَجْرٌ واَفْكَلُ
هذا البيت تعلمتُه في الثانوية ولم اعرف معناه، فصار تحديًا بالنسبة لي، ودار المجلس على غطش وبغش وسُعار ووجر وافكل وكانت جلسة ممتعة” انفجرنا بالضحك، وقد فُتح الباب ودخل الضيوف مسلمين، فاستاذن وقام اليهم.
لنترك فخامة الرئيس يودّع ضيوفه، وتعال لاشرح لك هذا البيت الوعر، الذي يصف فيه ذلك الصعلوك الفاتك احدى لياليه في الغزو، وهي ليلة معتمة باردة، يسخو فيها المرء بقوسه وسهامه فيشعل فيها النار مستدفئًا بها، يقول انه مشى فيها مسرعًا فهذا معنى (دعست) يلفُّه الغطش وهو الظلام، والبغش وهو المطر الخفيف، وقد اصطحب معه جوعه الشديد الذي تسميه العرب (سعار) وجلده المتغضّن من البرد وهو (الارزيز) والخوف والارتعاد وهما (وجر، وافكل) على الترتيب.
ثم عاد الى مجلسه وهو يقول:
“تحولت هذه المجالس الى كتاب شعراء بلا حدود، مسامرات ادبية معفاة من السياسة” وهو على موقعي.
حين عدت للكتاب وجدت المنصف قد صدّره بهذا الاهداء:
“الى المصرين على قراءة الشعر والادب، يهيئون من حيث لا يعلمون لمرحلة ما بعد الخراب”.
الا تعترف بحقوق النشر؟
“كل كتبي مجانية”
من اين جاءتك هذه الافكار الاشتراكية؟
“كنت اشتراكيا في شبابي، وحججت الى مسقط راس ماوتسي تونغ في 1975”.
كنتَ ماويًا؟
“نعم، لكني تركت هذه الفكرة، لانها تحولت الى دين”.
لكني تعلمت في زيارتي من الصين، فكرة الطب من اجل الشعب، وحين عدت منها تركت تخصصي في الاعصاب الى الطب الجماعي. كانت اشتراكيتي طبيّة اكثر من اي شيء اخر.
سالت احد اصدقائي من الشيوعيين اللبنانيين، وقد جاوز الـ60، ما الذي بقي من شيوعيّتك، فقال: حبي للعدالة!.
“وانا كذلك” قال معلقًا. ثم اضاف “اكبر عدو للناس هو الفقر، حاولت اخراج مليوني تونسي من الفقر محاكيًا تجربة لولا دي سيلفا في البرازيل، لكن الثورة المضادة لم تمهلني لتحقيق المشروع، والحمد لله اني خرجت منها حيًّا، لان مرسي خرج منها ميّتًا!”.
الحمد لله على سلامتك، اعرف انك بقيتَ عربيًا صِرفًا فترة اقامتك في فرنسا، لكن الم تؤثر فيك الثقافة الفرنسية؟
بلى، درسنا فولتير، وتاثرت منه بكلمة واحدة هي “الواجب” وارتباط فكرة الشرف بالواجب. مشكلتنا نحن العرب ان مفهوم الحرية لدينا مرتبط بالمتعة، الحرية مرتبطة بالواجب، والواجب هو ضابط الحرية!”.
كيف انت مع المطبخ الفرنسي؟
“مطبخ طيّب، لكن المطبخ المفضل لدي هو المطبخ اليمني. حين اذهب الى اميركا او اي مكان اقول لهم خذوني الى مطعم يمني، لديكم الحلبة وهذا المرق العجيب! احسن طبخ!”.
لم تكتمل فرحتي بهذا التصريح او يتم حديثي لنفسي مفكرًا في نسبة الحقيقة من المجاملة في هذا التصريح، حتى تذكر المنصف بدويّته ونفوره من المجاملات، فاستدرك “كنتُ عاشقًا للمطبخ المغربي، حسنًا دعني اكون صريحًا معك، المطبخ المغربي لا يقارن، لكن بعده يجيء المطبخ اليمني”.
“لن اعتبر هذا الاستدراك في كتابتي للحوار، سوف احتفظ بالتصريح الاول فحسب” قلت ممازحًا، ثم سالته:
هل تتعاطى الملوخية بطريقة اخرى غير طريقتكم الرهيبة؟
ابدًا، بالنسبة لي فالشرقيون لا يعرفون الملوخية، الملوخية هي ملوخيتنا احنا، ذاك السائل الخفيف ليس ملوخية! [يقصد الملوخية المصرية].
لكن فخامة الرئيس تطبخونها لـ 10 ساعات، اليس هذا تطرفًا؟
“دعني احكي لك نكتة، حين زرنا المغرب احبت امي ان تكرم جارتها المغربية، وتقدم لها افخم طبق لدينا وهو الملوخيّة، وظلت تتفنن في طبخها واعدادها لـ6 ساعات بعد قليها مع الزيت واللحم، وحين قربته للجارة المغربية، قفزت الجارة بعد اول لقمة، وخرجت تصيح وتقول: التوانسة ياكلون الحنّاء بالزيت!”.
استغرق الامر بعض الوقت لنعود الى جو الحوار بعد حكاية المغربية وضحكنا على فعلها.
بمناسبة جارتكم المغربيّة اكلة الحنّاء، كيف كانت علاقتك بجيرانك حين صرت رئيسًا؟
“تلك قصة محزنة للغاية. بنيت بيتي في منطقة نائية، ثم تحولت هذه المنطقة الى حي سياحي، وسكن حولي اصحاب المال من النظام البائد، فعشت بينهم كما يعيش اليهودي بين النازيين. اضطهدوني اضطهادًا، حين خرجت للانتخابات كانوا يسبونني من النوافذ، يا عميل النهضة! لقد كانوا ينظرون لي اني خائن طبقي، خنت الطبقة التي ينتمون اليها. في الرئاسة وبعدها كنت اشعر بغربة في داري.. فكرت في بيعها، لكن بناتي يحبونها، كنت اريد توسيعها وبناء حديقة في فنائها، لكني اجلت المشروع حين توليت الرئاسة اتقاء لقالة السوء، حتى لا يقال وسّع داره من مال الشعب. ثم جاء الانقلاب ولم يمهلني، ولن ابني الحديقة، ولن اموت في داري!” قال الجملة الاخيرة بصلابة مهيبة.
اغرتني صلابته، ان اساله عن اسمه، سُميتَ بالمنصف، لتعيش في عالم السياسة الذي يقوم على الخداع والمناورة، هل ترى لاسمك تاثيرا في طباعك؟
لم يدقّ السؤال على وترٍ في نفسه، فقال: “سماني ابي على (المنصف باي) ملك وطني، سُميَ عليه الكثير من التوانسة بعد الاستقلال. وحين وصلت الى القصر، اعدت الاعتبار لذلك الملك الوطني، وجمعت المؤرخين، واحييت سيرته، تمنيت ان يكون والدي قد راى فعلي هذا، ودخولي الى قصر قرطاج!”.
لقد وصلت الى القصر، رجلٌ من الشعب يصل الى القصر باصوات الشعب، لا بد انه شعور لا يُنسى، ماهي اسعد لحظاتك في فترة رئاستك؟
“اسعد لحظاتي عندما وقعت الدستور، لقد كُتب عقد اجتماعي حر بين سكان هذا البلد لاول مرة منذ 3000 سنة.
ولم يكتبه شخص واحد، بل انتخب مجلس تاسيسي، وعين المجلس اشخاصًا فقدموا مسودة دستور ثم وقع النقاش على المسودّة لمدة عام ونصف، لقد صرنا شعبًا من الفلاسفة. عُقدَ 400 اجتماع في البلد. وبعد تسوية الخلافات، تم اقراره.
لقد اتفقنا على هويتنا وكيف نريد ان نعيش مع بعضنا البعض. وحين امهرت الدستور شعرت بفخر رهيب. بعدها اتصلت بزوجتي وقلت لها ساخذ اجازة لـ3 ايام. منذ 3 سنوات لم اخذ عطلة!”.
هذه اسعد اللحظات، فما هي اصعبها؟
“اصعب لحظة عندما جاء هذا المنقلب ورمى الدستور في سلة المهملات!”.
وما هي امنياتك اليوم؟
“امنياتي، ان تقف الحرب في غزة وفي السودان، ويخرج السجناء، وان ينتهي الكابوس في تونس”.
“حزين ولكني لست يائسًا. الحياة اقوى من كل شيء”.
هل انت نادم على شيء؟
“ندمت على عدم حزمنا مع اعداء الثورة، كان ينبغي ان ننظف النظام! تلك هي ندامتي العظمى والدرس الاكبر” اجاب على هذا السؤال ونظر الى ساعته، ففهمت انها علامة لنهاية المجلس، كانت علامة انتهاء مجلس معاوية بن ابي سفيان ان يقول: “ان شئتم”، فيفهم جلساؤه انه يريد ان يقوم. وعلامة يزيد بن معاوية ان يقول: “على بركة الله” وعلامة عبد الملك بن مروان، ان يلقي الخيزرانة من يده. اما المنصف، فالنظر الى ساعته.رئيس عربي ثروته الكتب والسمفونيات والاصدقاء.. حوار مع المنصف المرزوقي

Scroll to Top