اخبار اليوم الصحيفة, طريق هيجة العبد اخبار اليوم الصحيفة, طريق هيجة العبد
يطلق اليمنيون اسم « الهيجة »، او « النقيـل »، على كل منحدر جبلي يصعب تجاوزه والسير عليه بسهولة. فلا يوجد مصطلح مناسب في قواميس العربية مماثل لما اصطلح عليه اليمنيون. وهو مصطلح يمني خاص. مرتبط بطبيعة الارض اليمنية. و « هيجة العبد »، التي ذاع صيتها في الاونة الاخيرة. واحدة من اهم الطرق في يمننا الحبيب على الاطلاق. وتعتبر مكسبا وطنيا بامتياز. لان على عاتقها ربط التراب الوطني اقتصاديا واجتماعيا بعد اغلاق المنافذ الحيوية.
وقد تحول هذا الطريق الذي حفره ابناء المنطقة باظافرهم وامكاناتهم المتواضعة الى طريق « معجزة ». يقوم بدور لا تراه الجهات المعنية الان بسبب عمى الحرب واهوالها. ولكن بفضله فتحت ابواب الحياة للمواطنين وحركتهم، بعد ان حكمت عليهم الحرب بالعزلة. وبدلا من توظيف واستغلال اهميته. فقد اهمل كما اهملت للاسف كل المشاريع الخدمية عوضا عن تحسين كفاءته من اجل الحفاظ على ارواح المسافرين، بعد ان كثرت عليه الحوادث المميتة؟
فعلى من تقع مسؤولية انهيار اهم خط يربط البلاد بالداخل والخارج…؟ ولم لا تقوم الجهات المعنية بترميمه، بعد انهيار قواعده وجسوره، التي لا يعلم احد اين ستنتهي به…؟
بعد قيام الوحدة بعامين اعلن مكتب الامم المتحدة بصنعاء عن طلب تنفيذ دراسة استشارية لتحديد الطرق المتداخلة الاكثر اهمية بين لحج وتعز. وذلك من اجل اعادة ربط المناطق الحدودية التي ُشقّت بطرق تقليدية، وتنتظر الدعم لتشغيلها. ولما كانت « هيجة العبد »، عالقة في الذهن منذ الصغر، فقد اقترحت ان تكون ضمن هذا المشروع الميداني. الذي كنت من ضمن فريقه.
تحرك الفريق من تعز، في طريقه الى عدن. عن طريق هيجة العبد. وهي الطريق التي يمر بها ابناء المنطقة. وصلنا الاكاحلة قبل الظهر. وكان الضباب منتشرا. ومقياس الارتفاع في السيارة، يشير الى اكثر من ثلاثة الاف وثمانمائة قدم، عن سطح البحر. فاعتقد الخبراء المشاركين لنا، بان عطلا ما قد اصاب السيارة. ولكن ما ان انقشعت السحب، وبدا الضباب ينحسر تدريجيا، حتى ظهرت لنا طريق الهيجة. التي تم شقها بصورة اولية. طريق تتلوى كالثعبان. اصيب الفريق بالفزع. والتردد في النزول وكيفيته. فاقترحت نزول السيارات اولا. ونسير خلفها حتى نصل طور الباحة. ومن ثم نتابع الى عدن التي لا تبعد اكثر من ستين كيلو متر. والتي كنا نراها من مكاننا. ونعود بعدها عن طريق البطينة، والاغبرة، الى البرح. ثم الى تعز. في رحلة، ستمكن الفريق من الاطلاع على كل الطرق التقليدية.
بدات السيارات بالهبوط. ونحن نسير خلفها. في الطريق، كان بانتظارنا الشيخ احمد سعيد، الذي كان يتولى متابعة شق الطريق منذ بداية العمل. ورافقنا في النزول كي يرينا الطريق، ويشرح لنا بعض التفاصيل التي قد تكون غابت عنا. وعندها علمنا ان اهالي المنطقة، والمجلس المحلي، قد بداوا الحفر والتسوية، منذ اكثر من عشر سنوات. بفضل دعم الاهالي المتواصل. ولكن الطريق كان بحاجة الى تجهيزات مختلفة، وتمويل ضخم. لم تستطع الحكومة، ولا التعاونيات توفيرها. الا للطرق الرئيسية بين المحافظات. اما بالنسبة للطرق الداخلية، التي تعتبر ثانوية، فلم تحظ بالتمويل والتجهيزات اللازمة.
وصادف اثناء نزولنا، صعود امراة محمولة على الاكتاف. يقصدون بها مستشفى التربة. ولكنها فارقت الحياة بعد ان قطعوا بها كل هذه المسافة. كان الموقف محزنا لنا. وفهمنا عند توقفنا بالمدرسة الابتدائية الوحيدة في المنطقة، ان مثل هذا الحادث يمر بهم يوميا تقريبا. وشكل وجود مدرسين من خريجي كلية التربية، دعما للمشروع. وقد تعرف الفريق منهم على حجم الصعوبات اليومية، التي يواجهها المرضى والطلاب، للوصول الى الخدمات الصحية، والتعليمية، في التربة.
وتم دعم المشروع بحوالي ثلاثين مليون ريال حينها. قدمت الى الحكومة، لاستكمال العمل. فقام مشروع الطرق بمحافظة تعز، بتغطية بقية التكاليف. وتوفير المخططات الهندسية، والات الشق، والمهندسين، والاشراف الفني والهندسي على المشروع الذي اصبح تحت مسؤوليتهم بالكامل. وتم توفير الصيانة دون توقف منذ تشغيله. حتى اندلاع الحرب عام 2015. اما مهمة الاشراف والمتابعة، فبقيت تحت مسؤولية المجلس المحلي.
لقد شكل قهر وتطويع الهيجة حلما. طالما راود كثيرين في صغرهم. جيل كانت تنتهي رحلته عند مشارفه. لا يتجاوزونها نزولا عند تعليمات الاهل. خوفا من ذلك المنحدر الصخري الشاهق، الذي لا يمكن الاقتراب منه الا لمسافة معينة، لا تمكن من النظر الى الوديان. او رؤية ما حولها من القرى الواقعة تحت المنحدر. وكان المسافرون عن طريقه الى طور الباحة في الاسفل. يمرون عبر ممرات ضيقة جدا ليلا، كي لا تتردد البغال والحمير التي تحمل امتعتهم. اما السكان، فكانوا يتشاركون في توصيل المواد الغذائية والزراعية، الى البيوت المعلقة بالهيجة، عن طريق ربطها بالحبال. او بتمريرها عبر الانابيب من قمة « الجاهلي » و « الشرف » وهي المناطق التي تطل على الهيجة.
ومع مرور الايام، كبرت الاحلام في قهر هذا الطريق. والتمكن من الصعود اليه، والهبوط منه بسهولة. ولكن الخوف من ذلك الحلم المستحيل، كان يكبر مع التحرك الشاق والطويل للعمل. وتعرض الممرات الضيقة فيه للانهيار بسبب الامطار. وعدم وجود وسيلة اخرى لتجنب هذه المعاناة. سوى الالتفاف الكامل على الطريق، بمسافة تزيد عن مئتين وخمسين كيلو متر عن طريق الراهدة. مرورا بتعز والتربة. ومنها الى جبل صبران الربيصة، و الاكاحلة والكفيف. ومن ثم النزول الى الوادي سيرا على الاقدام. فكان يستغرق يوما كاملا. وقد بدات شيئا فشيئا تشق السيارات طريقها، صعودا الى بعض القرى المعلقة بالهيجة، ووديانها. قادمة من طور الباحة. وبدا الاهالي يفتحون لها مسارات تقليدية، شديدة الخطورة. تحت ضغط الحاجة. لربط القرى بالوحدات الادارية، والمدارس، والمستشفيات.
وقد منحت هذه المرحلة دفعة قوية للاهالي للاستمرار، ببذل جهود مضاعفة من خلال التعاونيات، بحفر ما يمكن حفره من طرق بدائية. انتشرت بفضل حركة التصحيح في اليمن. ومن خلال العمل التعاوني الاهلي، والمجالس المحلية. فوجد المشروع مبررا للاستمرار. حيث حفز العمل التعاوني البيئات المحلية لتوفير بنية اساسية. وكانت فكرة المشروع التعاوني تقوم على الشراكة بين المجتمع، والدولة، التي تعتمد على وضع المواطنين لاسس المشروعات، بحسب امكاناتهم. وتسليمها الى الدولة فيما بعد. كي تقوم بادارتها، وتوفير الكوادر لتشغيلها. كما هو الحال في المدارس، والمستوصفات، التي بنيت خلال فترة السبعينات.
حفر هذا الطريق على صعوبته وطول مدته التي استغرقت اجيالا، ذكريات ارتبطت ببعض مراحل التنفيذ، حتى نهاية الشق الاولي. الذي ساعد على وصول بعض السيارات الى قمة الهيجة. وكنا نلبي دعوات الاهل لحضور مناسباتهم الاجتماعية في قرية « المسيجيد »، او في قرى « الهويسة »، في منتصف الطريق من الهيجة. وكان النزول يستغرق ثلاث ساعات. بينما يستغرق الصعود من خمس الى ست ساعات. وكان الاهالي يراقبون مغامرة اقتحام الهيجة بالسيارات. من بداية تحركها، حتى وصولها. ويشاهدون اندفاع السيارة بضعة امتار، وعودتها للوراء امتارا اخرى. ونزول الركاب لدعمها بالحجارة مرات ومرات. كي تتمكن من الوصول بعد ساعات من الانتظار، والخوف، والدموع، والقلق. فهم غير متاكدين فيما لو سيعود الركاب بخير وسلام، ام لا…؟ فالطريق لم يتم تسويته بعد. ولا يتسع لمرور اكثر من سيارة. والصخور الضخمة تحاصره، من كل جانب. والوادي السحيق بانتظار كل خطا.
ومع اندلاع الحرب، وقطع شبكة الطرق في عموم البلاد. واجبار حركة السيارات على استخدام طريق هيجة العبد، بطريقة فوضوية. وتحويله الى طريق دولي، لكل انواع السيارات، والقاطرات، بامكانياته المحدودة، التي تتناقص مع زيادة الاستخدام، وتناقص الخدمات والقدرة على تحمل السيارات الثقيلة. والاهمال التام لابسط متطلبات الامان في الطريق. حتى ان هذا الطريق لم يعد يرضي وضعه احدا. لا محليا، ولا وطنيا. فقد استهلك تحت ضغط مروري اكبر من قدراته. دون صيانة، او توسيع. واصبح السير عليه في منتهى الخطورة. في الوقت الذي سيؤدي توقفه الى كارثة للمنطقة، ولعموم البلاد. التي اصبح شريانها الوحيد، مرهون اما بالتوقف، او بسرعة المعالجة…
فهل من قراءة صحيحة لاهمية هيجة العبد ومتابعة الجهات المؤثرة. التي تملك قرار توقيف هذا العبث. ومن سيجبر مصلحة الطرق، على توسیع هذا الطريق الشريان الحيوي بحق، وتطويره من اجل كل اليمن، قبل فوات الاوان. لان توقف الطريق، يعني توقف معظم الطرق التي يصلها. والمشاريع التي يغطيها. ويعني ايضا بالنسبة لابناء هذه المناطق ولكل من يستخدمه توقف للحياة في كل انحاء البلاد. وهي جريمة تكسر ظهور اليمنيين اكثر مما كسرتها الحرب…!
هل من مستجیب لانقاذ طريق « هيجة العبد ». وفي نفس الوقت صيانة وتطوير طريق نقيل « ال ُصحى » من الجهة المقابلة للقرية والحضارم الملاصق لمدينة التربة، او تهيئة وتعبيد طريق الاحكوم الٌمصلى القريب من هيجة العبد. وذلك من اجل دعم هيجة العبد وتخفيف الضغط عليها…؟طريق هيجة العبد .. بين الحلم والواقع الماساوي