اخبار اليوم الصحيفة, كلب الصين “الروبوتي” اخبار اليوم الصحيفة, كلب الصين “الروبوتي”
خلال مناقشة في الكونغرس الاميركي في يونيو/حزيران 2024، تحدث النواب اثناء استعراض مشروع قانون التفويض الدفاعي السنوي عن تهديد جديد قال بعضهم انه يمثل مستوى مختلفا من القتال، وهو الكلاب الروبوتية التي تحمل بنادق الية وتستخدمها الصين في التدريبات حاليا، وربما في الصراعات المستقبلية المحتملة.
حظيت الكلاب الصينية باهتمام الراي العام العالمي بعد ان عرضت هيئة الاذاعة والتلفزيون الصينية مقطعا مصورا لروبوتات مسلحة رباعية الارجل خلال التدريبات العسكرية الاخيرة مع كمبوديا. في المقطع، يظهر روبوت يشبه الكلب، يبلغ وزنه 15 كلغ تقريبا، وهو يحمل بندقية الية ويطلق النار. وفي ذات المقطع، قال متحدث باسم الجيش الصيني ان الروبوت، الذي يمكنه اداء العديد من المهام بشكل مستقل، يمكن ان يكون بمثابة “عضو جديد في عملياتنا القتالية الحضرية”.
يوضح المقطع ان الكلب الروبوتي يتشارك مع مجموعة من الجنود مهمةَ اقتحام مكان ما في بيئة تدريبية، وذلك في سياق مناورات التنين الذهبي المشتركة مع كمبوديا في خليج تايلند، التي يشارك فيها اكثر من 2000 جندي، الى جانب عشرات السفن الحربية.
حاملو “كيو بي زد”
لا نعرف الكثير عن المحددات التكنولوجية للروبوت الصيني المقاتل، لكنه يشبه روبوتا اخر من طراز يسمى “جو2″، اصدرته شركة “يونيتري” الصينية ومقرها مدينة هانغتشو غربي البلاد، وهي متخصصة في الروبوتات رباعية الارجل الموجهة، وتبيعها عبر الانترنت باسعار تبدا من 1000 دولار. في عام 2021، اصدرت الشركة نموذج “جو1″، وكان مزودا باثني عشر محركًا، ويتنقل على اسطح مختلفة، بما فيها الرمال والصخور والتراب.
اما النسخة الاحدث “جو2” فيمكنها التعرف على كل محيطها تقريبا اثناء المضي قدما، مع نقطة عمياء صغيرة جدًا، ومسافة اكتشاف للتضاريس لا تقل عن 0.05 متر عبر تقنية الليدار المتقدمة التي تحدد المدى عن طريق الليزر، مما يجعل “جو2” قادرا على التعرف على جميع اشكال التضاريس وبدقة شديدة. ومن خلال تدريب محاكاة بالذكاء الاصطناعي، تعلّم الروبوت حركات متقدمة، مثل المشي راسًا على عقب، والانقلاب، وتسلق العوائق، مع مرونة واستقرار ممتازين في نفس الوقت.
وفق ما سبق يُطرح تساؤل: هل الروبوت الصيني المقاتل الجديد هو “جو2″؟ الهيكل الخارجي للروبوت يُظهر ذلك، لكن الشركة اعلنت في بيان صحفي انها لا تبيع اجهزتها للجيش الصيني، وهو ما يضعنا مجددا في خانة التكهنات، لكنْ يمكن التاكيد انه حتى وان كان هذا الروبوت لا ينتمي الى “يونيتري”، فانه اولًا ماهر بالقدر نفسه، وثانيًا يمتلك ميزة اضافية وهي بندقية الية على ظهره من نوع “كيو بي زد-95″، وهذه وحدها كارثة.
هذه البندقية من فئة البنادق ذات الفتحة الامامية، حيث يقع مخزن السلاح خلف مجموعة المقبض والزناد، وهي بندقية هجومية تم تصنيعها بواسطة شركة نورينكو لقوات الجيش ووكالات انفاذ القانون الصينية، وتستخدم رصاصة يبلغ مداها حوالي 800 متر، ويمكنها اختراق صفائح فولاذية لعمق 3 مم.
هذه ليست المرةَ الاولى التي تعرض فيها الصين كلبًا اليًا مسلحًا، ففي اكتوبر 2022، نشرت شركة الدفاع الصينية “كيستريل ديفانس” مقطع فيديو يظهر طائرة مسيرة وهي تسقط مركبة شبيهة ارضية رباعية الارجل، وقد ثُبّتت عليها بندقية الية خفيفة من طراز “كيو بي بي97”. وُصفت المركبة بانها يمكنها الدخول مباشرة خلف خطوط العدو لشن هجوم مفاجئ، او يمكن وضعها على سطح العدو لاحتلال المرتفعات صاحبة نقاط القوة العسكرية لقمع القوة النارية. كما يمكن للقوات البرية ان تشن هجومًا على العدو في المبنى من الاسفل، فتصنع الكلاب والجنود كماشة على العدو.
ليست الصين فحسب
في الواقع، لدى الولايات المتحدة ايضا تجارب في هذا النطاق، ففي 2023 اجرى البنتاغون تجارب على روبوتات ارضية رباعية الارجل باستخدام بنادق من نوع “ام-4” القصيرة عيار 5.56 × 45 ملم، وبنادق اخرى من طراز “اكس ام7″، بل وحتى السلاح المضاد للدبابات “ام 72” الذي كان في الخدمة مع القوات الاميركية منذ حرب فيتنام.
وقبل اسابيع قليلة من لقطات الكلاب الروبوتية الصينية المسلحة، كشفت قيادة العمليات الخاصة في مشاة البحرية الاميركية انها جربت اضافة انظمة اسلحة محمولة مدعومة بالذكاء الاصطناعي على الكلاب الالية الخاصة بها. ونتحدث هنا عن “سينتري”، نظام الاسلحة عن بعد، الذي يعمل على كشف الهدف والتعرف عليه بشكل مستقل، ثم يمرر المعلومات الى مشغل بشري يتخذ القرار بالاستهداف من عدمه. ببساطة، نتحدث عن بندقية الية ضخمة، لكن بدون مُشغل يمسك بها.
وتتميز منظومة سينتري بالقدرة على العمل في بيئات مختلفة، ويمكنها التوافق مع الاعدادات الارضية والجوية والبحرية، وهي مزودة باجهزة استشعار ذكية للنهار والليل، بما في ذلك التصوير الحراري، كما انها خفيفة الوزن وسهلة التعبئة ويمكن تركيبها على منصات مختلفة. لكن الاهم من كل ذلك، ان هذه المنظومة تمثل تقدما كبيرا في منظومات الاسلحة عن بعد، حيث توفر وعيا محسّنا بالموقف وتضاعف القوة، مع الحفاظ على الامان البشري.
الى جانب كل هذا، هناك مشروعات مثل “سبوت” من شركة بوسطن ديناميكس، و”فيجن 60″ من شركة غوست روبوتيكس، ويجري العمل على قدم وساق لتاهيل تلك الكلاب الروبوتية باسلحة تعمل بدورها بشكل مستقل، وهو ما سيوفر في مرحلة ما اداة قتل دقيقة. لكن، ان كان رجال الكونغرس وجنرالات الجيش في الولايات المتحدة يمتلكون كلابا شبيهة، فما الذي يدفع للقلق تجاه فيديو الكلب الروبوتي الصيني؟
ما الذي يفعله الكلب الصيني؟
يفعل الكثير في الحقيقة، ويبدو ان ما اقلق الكونغرس الاميركي لم يكن -تحديدًا- الكلب وبندقيته، بل شكل المعركة التي ادمج بها عسكريا، وهو الاخطر على الاطلاق، فالروبوت يتصرف بشكل يتكامل خلاله مع فرقة من الجنود في تادية مهمة اقتحام، وربما يقوم الروبوت بعمل مسح اولي للمكان ثم تتبعه فرقة من الجنود البشريين، بشكل يفترض ان يقلل من حجم الخسائر البشرية في المعارك.. هذا التكامل يعني ان الكلب الروبوتي يمتلك درجة من التواصل مع الفريق وفهم اوامره وتنفيذها لحظة بلحظة.
منذ اللحظة الاولى التي ظهرت فيها الكلاب الروبوتية، كان مؤكدا انها ستمتلك يومًا ما مكانًا في ارض المعركة. ومثل كل “مُسيّر”، كانت الوظائف الاولى محددة مسبقًا، حيث يمكن تجهيز الكلاب الروبوتية بكاميرات واجهزة استشعار ومعدات مراقبة اخرى لجمع المعلومات الاستخبارية في الوقت الفعلي (الى جانب دوره في الحرب الالكترونية بتعطيل اتصالات العدو)، مع خاصية التنقل عبر التضاريس الوعرة ودخول المباني والعمل في بيئات خطرة دون المخاطرة بارواح البشر.
يمكن للكلاب الروبوتية حمل مختلف انواع الاسلحة بما يشمل القذائف المضادة للدبابات (لانس جاستين مارتي)
ستلعب الكلاب الروبوتية وفق هذا السياق دورا مهما، حيث يمكنها نشر رسومات الخرائط واستكشاف التضاريس غير المالوفة او الخطرة. ويمكن لاجهزة الاستشعار والكاميرات الخاصة بالكلب الروبوتي توفير مقاطع مصورة وبيانات في الوقت الفعلي لوحدات القيادة. كما يمكن استخدامه لمهام الاستطلاع الخفي لجمع المعلومات الاستخبارية عن مواقع العدو وتحركاته، او المشاركة في دوريات لتامين المحيط، وتنبيه المشغلين البشريين الى اي اقتحامات او نشاط غير اعتيادي.
اضافة لذلك، يمكن استخدام هذه الروبوتات للكشف عن الاجهزة المتفجرة ومن ثم تحييدها، كما يمكنها حمل الامدادات والذخيرة والمعدات الطبية عبر ساحة المعركة. وفي المناطق التي تعاني من ضعف البنية التحتية للاتصالات، يمكن للكلاب الروبوتية ان تعمل كمرحّلات اتصالات متنقلة، مما يوسع نطاق وموثوقية شبكات الاتصالات العسكرية.
اما مسالة العمل جنبًا الى جنب مع جنود بشريين، فتلك قصة اخرى، حيث يمكن استخدام هذه الكلاب الروبوتية لانشاء حالة من التشتيت، عبر جذب نيران العدو او انتباهه بعيدًا عن القوة العسكرية التي تتسلل الى مكان ما، ويمكن ان يكون هذا مفيدًا بشكل خاص في سيناريوهات الكمائن. وفي هذا النطاق تُجهَّز الكلاب الروبوتية باليات الصوت والحركة لمحاكاة الوجود البشري، وبالتالي ارباك العدو بشان مواقع القوات، كما يمكن لهذه الكلاب المسلحة الاشتباك مع الاهداف مباشرة في السيناريو ذاته.
وفي فرقة ذات مهام متكاملة، يمكن للكلاب الروبوتية ان تتولى زمام المبادرة، وتتحرك امام الجنود البشريين لكشف التهديدات وتطهير المسارات، كما حصل في حالة الكلاب الصينية، او ان تلعب دور الحرس الخلفي، فيتم نشرها لمراقبة وحماية مؤخرة الوحدات القتالية المتقدمة؛ من الهجمات المفاجئة. كما يمكن استخدام الكلاب الروبوتية لتنفيذ مناورات التطويق، ومهاجمة العدو من الجانبين، فبينما يقاتل الجنود البشريون من الامام، تقاتل الكلاب الروبوتية من الخلف، وهذا قد يؤدي الى خلق حالة من الارتباك لدى العدو وتعطيل تشكيلاته.
الصين القادمة
وفقًا للاتحاد الدولي للروبوتات، تم تركيب عدد قياسي بلغ 553 الف روبوت صناعي خلال عام 2022، وارتفع المخزون التشغيلي العالمي الى 3.9 ملايين قطعة بحلول نهاية العام نفسه. ومرة اخرى، كانت اسيا المحرك الاكبر لهذا النمو، حيث تم تركيب 73% من الروبوتات خلال العام المذكور؛ في دول القارة، بل وشكلت الصين وحدها اكثر من نصف التركيبات الجديدة، مما يجعلها اكبر سوق للروبوتات في العالم.
بالطبع، فان ما سبق لا يتعلق بالصناعات العسكرية تحديدا، لكنه مؤشر مهم على خطة الصين لتحويل كل شيء تقريبًا الى ايادي الروبوتات، وفي هذا السياق تعمل ادارة البلاد على تطوير قواعد ابتكار وانتاج وصيانة الروبوتات بشكل مدهش. وليس مستغربا ان يامل الصينيون السيطرةَ على العرض العالمي للمكونات الاساسية لصناعة الروبوتات بحلول عام 2025، وتحقيق الهيمنة العالمية في تصنيع الروبوتات الشبيهة بالبشر بحلول عام 2027.
في الصين ايضا يتم تشجيع الكيانات العسكرية والتجارية والاكاديمية على تطوير وتبادل الاختراقات في التكنولوجيات بشكل مشترك، وتعد الروبوتات استخداما مثاليا لهذا “الاندماج”، حيث تتفوق الشركات التجارية على نظيراتها العسكرية في تقنياتٍ مثل التشغيل والملاحة المستقلة والذكاء الاصطناعي والمكونات المتقدمة.
وفي هذا السياق، دعا الرئيس الصيني شي جين بينغ، الى ان تصبح البلاد رائدة عالمية في مجال الذكاء الاصطناعي، الذي يعد الجانب المكمل للصناعات الروبوتية، بحلول عام 2030، كما وضعَ الابتكارَ العسكري في قلب البرنامج، وشجّع جيش البلاد على العمل مع الشركات الناشئة في القطاع الخاص، ومع الجامعات.
وفي خطاب من المجلد الاول من سلسلة كتب “حوكمة الصين” بعنوان “الانتقال الى النمو المدفوع بالابتكار”، يقول الرئيس شي ان “الثورة الصناعية الحالية ستكون ثورة روبوتية”، وانها “ستعيد تعريف التصنيع العالمي والامن الاوسع”. وعلى هذا النحو، يرى الرئيس شي انه من الضروري ان تصبح الصين اكبر مصنع في العالم للتكنولوجيا من هذا النوع، ويمضي قائلا ان “التكامل بين تكنولوجيا الروبوت والجيل الجديد من تكنولوجيا المعلومات هدف رئيسي” في هذا السياق.
تدخل الصين حاليًا كمنافس قوي للولايات المتحدة في تصنيع الروبوتات للاغراض العسكرية، وبناء افضل تقنيات الذكاء الاصطناعي، لانها ببساطة تمتلك ما يكفي من البنية التحتية للخروج من هذا النوع من المنافسات منتصرة، خاصة في سياق ان الاجهزة الروبوتية العسكرية لا تختلف كثيرا عن الروبوتات المدنية، وهذا ما لاحظناه مثلا في حالة شبيه “جو2” الذي استخدمه الجيش الصيني.
يضاف ذلك كله الى مخاوف الكونغرس الاميركي. ورغم ان الولايات المتحدة والصين تلتزمان حتى الان بعدم ادخال الروبوتات المقاتلة، لدرجة ان بكين اعطت بعض الامل للناشطين الذين يطالبون بحظر مثل هذه الاسلحة؛ عبر ايضاح انها ضد استخدامها في ساحة المعركة. ورغم تلك التصريحات، فان ذلك لم يمنع الدولتين من المضي قدمًا في تطويرها او انتاجها، بل وتجريبها.
وكان ثمرة هذا المضيّ المتسارع نحو تطوير سوق الاسلحة الروبوتية تحديدًا، هو تضاعف حجم هذه الصناعات من حيث القيمة السوقية عامًا بعد عام، بحيث بات من المتوقع ان يصل الى نحو 33 مليار دولار بحلول عام 2030، وهذا لا يشمل الا المعلن عنه فقط. وتجدر الاشارة هنا الى ان الروبوتات العسكرية مستخدمة في ارض المعركة بالفعل، لكن لغير اغراض الاشتباك او القتال المباشر، فمثلا تستخدم الكلاب الروبوتية (او اية تقنيات شبيهة) في مسح منطقة القتال، وتفكيك المتفجرات، وايصال الدعم الى الجنود في ساحة المعركة، واغراض الاستخبارات، وغيرها من الاستخدامات.
صراع خاص جدا
كل ما سبق يصب بشكل خاص في مصلحة دول مثل الصين وروسيا والهند، فهي لا تتمكن بسهولة من منافسة الولايات المتحدة في سوق قائم بالفعل كانت لها سيادة عليه طوال عقود مضت، لتصنيع مختلف انواع الاسلحة التقليدية البحرية والبرية والجوية، لكن هذه الدول بدات مع الولايات المتحدة في سوق الصناعات العسكرية الناشئة، ومن المحتمل ان تتقدم عليها خلال السباق ناحية اي من تلك الصناعات.
ولا يقف ذلك عند الروبوتات العسكرية فحسب، بل يمتد الى الاسلحة المضادة للاقمار الصناعية، وحرب المسيّرات، والحرب السيبرانية، والصواريخ الفرط صوتية.. الخ. ان استخدام هذه النوعية من الاسلحة قد يتم خلال حرب غير متكافئة، حيث يستخدم احد الجانبين التكنولوجيا المتقدمة للتعويض عن المزايا العددية او العسكرية او الجغرافية للجانب الاخر.
اعلان
الى ذلك، يعتبر مخططو الدفاع والاستراتيجيون في الصين ان الروبوتات والانظمة غير الماهولة بشكل عام تمثل جزءا من اتجاه اوسع في طبيعة الحرب لتصبح ذات ثلاث سمات رئيسية؛ اكثر دقة، وبعيدة المدى، وشبكية.
وبحسب دراسة اصدرتها لجنة مراجعة العلاقات الاقتصادية والامنية بين الولايات المتحدة والصين التابعة للكونغرس، فان المقالات المنشورة على موقع وزارة الدفاع الصينية والاصدارات الموثوقة مثل مجلة “علم الاستراتيجية العسكرية”، تؤكد على الاهمية المتزايدة لمنصات الاسلحة بعيدة المدى والدقيقة والذكية والخفية وغير الماهولة، وهي القاعدة التي يتفق معها الكتاب الابيض الدفاعي الصيني لعام 2015.
وبينما كانت الميزة التكنولوجية محركًا اساسيًا للقوة العسكرية الاميركية، يهدف الجيش الصيني الى تحدي هذه الهيمنة عبر تشغيل تقنيات المقاتلين الروبوتيين المدعومين بالذكاء الاصطناعي في الحرب المستقبلية، من اجل التعويض عن تفوق الولايات المتحدة في التقنيات العسكرية الاخرى.
بل ودفعت قدرة الصين على منافسة الولايات المتحدة او تجاوزها في مجال الذكاء الاصطناعي؛ الجيشَ الاميركي الى اعادة النظر في ظهور الجيش الصيني كمنافس هائل في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، واعادة النظر في افاق المنافسة التكنولوجية بين البلدين.
في الواقع، يبدو ان واشنطن تواجه بالفعل مشكلة كبيرة في هذا النطاق، ففي مقالة بحثية صدرت بمجلة “فورين افيرز”، يقول الجنرال الاميركي مارك مايلي، والبروفيسور ايرك شميدت، ان الولايات المتحدة كما يبدو ليست مستعدة لمستقبل تحكمه مثلُ هذه الاسلحة التي تجعل من حروب المستقبل اقل اعتمادا على الحشد، واكثر اعتمادا على الاسلحة ذاتية التحكم والخوارزميات القوية.
وعلى الرغم من ان الحروب كانت دائما تحفز الابتكار، فان الامر هذه المرة مختلف، وكما يرى مايلي وشميدت، فانه متسارع بشكل كبير، مقارنة بما سبق من تاريخ التقنيات العسكرية كله، وهو ما يضع الولايات المتحدة، التي تتخلف عن دول اخرى في هذا النطاق، في ازمة تهدد بفقدان مركزها الاول، كاقوى جيش في العالم.
وقبل عدة سنوات اصدرت لجنة الامن القومي الاميركي للذكاء الاصطناعي تقريرها للحكومة، واوضحت فيه ان استخدام الذكاء الاصطناعي في الحرب -الامر الذي بدا بالفعل- سيُشكّل ثورة تقنية تتخطى في اثرها اكتشاف كلٍّ من البارود والسلاح النووي. واوصت اللجنة بمضاعفة الاستثمار في البحث العلمي الخاص بهذا النطاق عاما بعد عام.
الخطوة الاخطر: الاستقلالية
في مقال نشرته صحيفة “فايسكال تايمز” عام 2013، يستشهد ديفيد فرانسيس بارقام وزارة الدفاع الاميركية، التي تظهر ان “كل جندي في افغانستان يكلف البنتاغون قرابة 850 الف دولار سنويا”، بينما تبلغ تكلفة احد الروبوتات الصغيرة المسمى “تالون” وتجهيزه بالاسلحة 230 الف دولار فقط. وعليه، اقترح القائد السابق لقيادة التدريب والعقيدة بالجيش الاميركي، الجنرال روبرت كون، في ندوة طيران الجيش لعام 2014 ان يتم الاعتماد بشكل اكبر على “الروبوتات الداعمة”، وانه بذلك يمكن للجيش في النهاية تقليل حجم اللواء من 4000 الى 3000 جندي، دون ان يصاحب ذلك انخفاض في الفعالية.
يرى المحللون الصينيون ان هذا الكلام ليس مجرد راي فردي، بل هو عقيدة معاصرة للجيش الاميركي، حيث يعتقدون انه ينوي تبني الانظمة غير الماهولة مثل المسيّرات والروبوتات الارضية مع انتقاله من افغانستان والعراق وحاجته الماسة الى التكيف مع التخفيضات في الانفاق العسكري. وتؤكد بعض التقارير الصينية انه بحلول عام 2040، قد يفوق عدد الروبوتات عدد البشر في الجيش الاميركي، وفي عصر “ما بعد افغانستان”، ستكون هناك ثلاثة اتجاهات سائدة، اهمها “تكاملٌ اكبر للتكنولوجيا والقوى العاملة”، بحسب دراسة
نشرتها دورية “كورنيل انترناشيونال افيرز”.
اذن، تعمل الصين والولايات المتحدة في طريق تنافسي صدامي واضح، مبني على ان الطرف الاخر لا يتوقف في تطويره للمنصات من هذا النوع، وهنا نتجه لتوسيع الحديث بعيدًا عن الروبوتات المقاتلة على الارض لنضم المسيّرات الجوية والمسيرات المائية (الغواصات غير الماهولة)، وصولًا الى تشغيل الاسلحة الحالية بادوات الذكاء الاصطناعي، مثل طائرات الجيل السادس على سبيل المثال، التي يعتقد ان نسخا اساسية منها ستكون غير ماهولة.
ومع التسارع الشديد في تطوير الكلاب الروبوتية والذكاء الاصطناعي، يعرف الخبراء انه في مرحلة ما سينطلق هذا السباق في الاتجاه الذي تريده كل التكنولوجيا العسكرية تقريبا، وهو الاستقلالية.
يبحث العميل، وهو هنا عادةً دولة ما ترغب في تطوير جيشها، او ربما قوة غير نظامية تبتغي زيادة قدراتها، عن اسلحة تتمكَّن من السفر نحو الهدف، وتحليل الموقف باعلى القدرات الحسابية، ثم اتخاذ القرار الادق والانسب، وتنفيذه فورا لتحصيل اكبر خسائر ممكنة للعدو، وان تكون اسلحة قادرة على التعلُّم وزيادة خبراتها ودقتها مع الوقت.
الى جانب ذلك، يمكن لهذه المنظومات ان تعمل معا في سياق سياسة “القطعان”، اي ان تتبادل المعلومات والبيانات فيما بينها وتنسق القرارات ايضا بحيث تُعظم الاثر العسكري تلقائيا بحسب الخوارزميات التي تحركها، وهو شكل يشبه ضربات الاسلحة المشتركة التي تنسقها الجيوش النظامية التقليدية، ولكن بصورة اكثر دقة وتاثيرا بفارق كبير.
احد المخاوف الاساسية هو ان انظمة الاسلحة المستقلة تفتقر الى الحكم البشري والمنظور الاخلاقي، وهما امران حاسمان في اتخاذ القرارات بشان استخدام القوة المميتة، فهناك احتمال قائم بالا تتمكن الانظمة المستقلة من التمييز بين المقاتلين وغير المقاتلين بشكل فعال، كما ان اتخاذ قرارات دقيقة في ساحات المعارك المعقدة والفوضوية امر شبه مستحيل.
فاذا ارتكب سلاح مستقل خطا، مثل استهداف المدنيين، فلن يكون واضحا مَن الذي سيتحمل المسؤولية، وهذا يتناقض مع احد الشروط الاساسية للقانون الانساني الدولي الذي يتطلب تحميل شخص ما المسؤولية عن الوفيات بين المدنيين في الحروب. ان اي سلاح يستحيل معه تحديد المسؤولية عن الاصابات او الوفيات التي يسببها؛ لا يفي بمتطلبات قانون الحرب، وبالتالي لا ينبغي استخدامه في الحرب، وهذا احد الانتقادات الاساسية تجاه عسكرة التكنولوجيا المستقلة.
من جانب اخر، قد تتصرف الانظمة المستقلة التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي والتعلم الالي؛ بشكل غير متوقع في مواقف تختبر لاول مرة، وما المعركة الا موقف يحدث لاول مرة، لان كل معركة لها متغيراتها الخاصة جدا، مما يؤدي الى عواقب غير مقصودة.
كل هذا ولم نتحدث عن امكانية تعرض تلك القطع العسكرية للاختراق والهجمات السيبرانية، مما قد يؤدي الى التلاعب بها بشكل يمكن ان يكون مميتًا، الامر الذي يمكن بدوره ان يؤدي الى تصعيدات عرضية او مهاجمة اهداف غير مقصودة، وهنا تتاجج المعركة ويصبح الجانب السياسي اضعف الى حد كبير، ومن ثم يخشى الخبراء ان تساعد الاسلحة المستقلة في اضعاف يد العمليات التفاوضية باخطاء من هذا النوع.
كمثال افتراضي، يمكن ان تستهدف احدى المسيرات الجوية مواقع نووية للاعداء في معركة ما بناءً على بيانات حديثة واردة للتو لم تُعرض على مشغل بشري. وفي الاجواء الفوضوية للمعركة ودقة عامل الوقت، قد تتعامل دولة مثل روسيا او الولايات المتحدة مع هذا كتهديد ذي طبيعة نووية، وتبدا سلسلة الدومينو النووي في التساقط.
لحظة اوبنهايمر
يشير مفهوم “لحظة اوبنهايمر” الى لحظة من الادراك العميق يتمكن فيها شخص ما او ادارة سياسية او فريق من العلماء من ادراك العواقب الكارثية المحتملة لافعال او افكار ينوي المضي قدمًا فيها، وخاصة في سياق التقدم العلمي او التكنولوجي او العسكري، في اشارة الى تلك اللحظة التي قرر فيها الفيزيائي الاميركي روبرت اوبنهايمر، المضيَ قدما واجراء اول اختبار ناجح للقنبلة الذرية في يوليو 1945. واستذكر اوبنهايمر، بعدما شهد على القوة التفجيرية الهائلة للقنبلة، بنص من “البهاغافاد غيتا” (الكتاب المقدس في الهندوسية) يقول: “الان اصبحت الموت، مدمر العوالم”.
كانت “لحظة اوبنهايمر” هي النقطة التي ادرك فيها تمامًا الامكانات الهائلة للدمار العالمي المتوقع الذي تمثله الاسلحة النووية.
نجح مشروع مانهاتن فعلا، لكنه فتح الباب لسباق تسليح نووي ما زلنا نعاني منه الى الان، فما ان اشتعلت الاجواء بين الروس وحلف الناتو على خلفية دخول اوكرانيا، وبين الصين والولايات المتحدة على خلفية دخول محتمل الى تايوان، حتى تحسس الجميع سلاحه. وفي عام 2023 شهد العالم ارتفاعا جديدا في الانفاق على السلاح النووي، وفقا لتقرير نشرته مؤخرا الحملة الدولية لالغاء الاسلحة النووية، ليصل الى 91.4 مليار دولار.
نحن الان نمر بلحظة شبيهة بالنسبة للاسلحة المستقلة، حيث يعرف العلماء المختصون في هذا النطاق انها ذات تاثير سلبي على السلام العالمي، وانها ستفتح الباب لسباق استثنائي يراكم الاسلحة، وبالتالي يؤثر على الاقتصاد كله. كما يعرفون ان هذه الاسلحة يمكن ان تتسبب في تصعيد الصراع العالمي وصولا الى حرب عالمية ثالثة، وانها تمثل لحظة شبيهة بتلك التي بدا معها الصراع النووي في الاربعينيات من القرن الفائت.
هل يمكننا تجاوز مثل تلك اللحظة هذه المرة؟ يبدو للاسف ان البعض لا يتعلم، وبنظرة بسيطة على ما تفعله الصين والولايات المتحدة في هذا النطاق، ومعهما العديد من الدول، فان تلك اللحظة التي ستغمر فيها الروبوتات الحرب قادمةٌ بشكل بات مؤكدا.كلب الصين “الروبوتي” القاتل.. لماذا يخيف اميركا؟