اخبار اليوم الصحيفة, القراءة العربية لسوزان اخبار اليوم الصحيفة, القراءة العربية لسوزان
يمثل كتاب سوزان برنار «قصيدة النثر من بودلير الى ايامنا» احد المرجعيات الحاضرة في التاريخ والتنظير المبكر لقصيدة النثر، والمستمر في ايامنا العربية ايضاً، وليس في ايام الباحثة الفرنسية، او وقتها الراهن كما تفضل المترجمة المصرية راوية صادق، في المحاولة العربية الثانية لترجمة الكتاب بعنوان «قصيدة النثر من بودلير حتى الوقت الراهن»، وبتقديم وافٍ وثري من الشاعر رفعت سلّام، بعد اعوام من الترجمة العربية الاولى التي انجزها في العراق زهير مجيد مغامس.
يربو الكتاب على ثمانمائة صفحة في اصله الفرنسي، بينما تُرجم عربياً الى ربع ذلك في ترجمته الاولى، التي قدمت خدمة كبيرة لكتابة قصيدة النثر ونقدها، تخلصاً من فصل خاص بالدادائية والسريالية، واخر بالبحور المستخدمة في الشعر الفرنسي، وكثير من هوامش الكاتبة وملاحظاتها الخاصة بالشعر الفرنسي التي راى المترجم انها لا تعني القارئ العربي كثيراً.
بينما جاء بترجمة راوية صادق عام 2000 في جزاين وبحوالي الف صفحة.
يردد كثير من الشعراء ودارسي قصيدة النثر مقولة متداولة كشائعة، بان الكتاب من كلاسيكيات النقد والبحث الاكاديمي حول قصيدة النثر، متناسين امتداد فرضياتها وتوصلاتها الى خطاب نقد الشعر بالعربية، وان تظاهر بعض مستخدميه باستخفافهم بشروطها الثلاثة التي علقت في ذاكرة الكتابة النقدية بحوثاً وكتباً وفي الابحاث الاكاديمية ايضاً. ويصل الاستخفاف حد قول عبد القادر الجنابي في حِجاج نظري يفند تلخيص ادونيس لبعض مفاصل الكتاب، بان «طالبة دكتوراه اسمها سوزان برنار، انتظر ادونيس ظهور اطروحتها ليكتشف وجود شعر اسمه قصيدة النثر».
هذه (الطالبة) لم ينفد زمن اطروحتها (كتابها بالاحرى) فرنسياً، حتى ليصف تزفيتان تودوروف الكتاب بانه «التاريخ الهائل والموسوعي لجنس الشعر من دون البيت»، ويناقشها في فصل مطول من كتابه «مفهوم الادب» 1987. منطلقاً من ثنائيات ضدية متناقضة تركبت منها قصيدة النثر؛ كالنظام والفوضى، والشعر والنثر، ووحدة المتناقضات، والحرية والصرامة. ويذهب تودوروف عميقاً في تفكيك مفهومها لهذه الخصائص الضدية، وكيفية تكوينها لشعرمن غير بيت، منطلقاً من تعريفها للقصيدة كشيء كلّي تكمن سماته الجوهرية في الوحدة والتكثيف. واضافتها لغرض توسيع وتوضيح مفهوم الوحدة باقتراح علاقة مع الزمن والصور الزمنية التي تقدمها القصائد، وهي علاقة ضدية ايضاً تقترب في رايي من قول سوزان برنار بالمجانية التي لم يستوعبها الخطاب النقدي التبشيري المبكر لقصيدة النثر العربية.
تبدا سوزان برنار كتابها بالتساؤل عن اللحظة التي تتوقف فيها الكتابة عن كونها نثراً بحتاً او جميلاً، وتستحق ان توصف بانها قصيدة، مركزة على العناصر التي تتخفى في قصيدة النثر نظراً لطبيعتها الشعرية، بينما تتوضح بجلاء في الشعر الموزون والنثر الشعري او الشعر المنثور. وهذا ما سنجد له صياغة عربية في مرحلة التبشير التي قادتها مجلة «شعر» التي (بدا معها التاريخ الفعلي لقصيدة النثر العربية) كما يصرح احمد بزون في دراسته «قصيدة النثر العربية – الاطار النظري».
وهي قناعة نجدها في ما كتب النقاد عن قصيدة النثر العربية تاريخياً وفنياً، مثل كمال خير بك ومحمد جمال باروت وكمال ابو ديب ومحمد بنيس وخالدة سعيد وسواهم.
لقد ظهرت وثيقتان عربيتان مبكرتان، هما مقدمة انسي الحاج لديوانه «لن» 1960 ومقال (في قصيدة النثر) منتهياً باسم ادونيس، او علي احمد سعيد اسبر كما ورد في فهرس المقالات عند النشر، وبتسع صفحات من العدد 14 لمجلة «شعر» ببيروت في الاول من نيسان (ابريل) 1960.
يشير ادونيس في الهامش الاول من مقالته الى انه (اعتمد في كتابة هذه الدراسة بشكل خاص على كتاب)، ويورد بالفرنسية اسم سوزان برنار وكتابها ودار النشر وسنة نشر هذا الكتاب 1959. وليس من ذكر في صفحات الدراسة لسوزان برنار، رغم استيعاب ادونيس الذكي لابرز مقومات اطروحتها وتفاصيلها، منها يتوسع بشكل نظري مدعم بالامثلة غالباً لينقض البنية التقليدية لشعر الشطرين او شعر الوزن كما يسميه، وبدون ذكر صلة قصيدة النثر بالشعر الجديد (الحر) القائم على السطر الشعري لا البيت، وعلى تعدد القوافي وتنوع عدد التعديلات في القصدة.
يسمي ادونيس بعض ممهدات التحديث، ومنها الترجمة التي الغت شروط العمود الشعري الموضوعة ليكون النص شعرياً، وقدمت اشعاراً اجنبية بالعربية لا تلتزم بذلك، ويصل في الوقت نفسه ادراك القارئ لشعريتها، مطالباً بنقل هذا الامتياز الى القصيدة العربية.
ويتتبع المزايا التي تحدد قصيدة النثر، معيداً صياغة تساؤل سوزان برنار الذي ذكرناه مطلع المقالة وذكرته هي في مطلع دراسته، فيقول: «ماهو المقياس الذي يسمح لنا ان ناخذ قطعة نثرية ونقول: هذه قصيدة؟». ومن التساؤل يصل لاستعراض المزايا التي ذكرتها سوزان برنار مقترَحاً لتعيين قصيدة النثر، وهي عنده وبحسب استيعابه الشامل والدقيق للكتاب ثلاث خصائص: التنظيم الواعي الذي يجعلها كلّاً عضوياً او الوحدة العضوية، والمجانية التي تعني عدم وجود غاية لقصيدة النثر خارجها، وهي مجانية يحددها بفكرة اللازمنية التي نصت عليها برنار، والكثافة التي يحددها بعدم الاستطراد.
ويعرض لموسيقى قصيدة النثر، متابعاً الكاتبة في اقتراح الايقاعية الخاصة التي يذكر منها ايقاع التكرار والتوازي، والنبرة والصوت، وحروف المد، وتزاوج الحروف، وغيرها.
وهو ينفق جهداً كبيراً لتمييز قصيدة النثر عن الشعر المنثور الذي كان مهيمناً كنوع ثالث بجانب شعر الوزن والشعر الجديد. وينسب للشعر المنثور اغراقه في التفاصيل والاستطراد والغنائية والمناجاة. ولا شك انه يتابع برنار في فصلها الخاص المعنون من الشعر المنثور الى قصيدة النثر، من دون ذكرها دوماً.
وما قدمه ادونيس قريب من تاكيد برنار على الفرق الجوهري بين الشكلين. فهي تعلن ان (الحدود قليلة الوضوح جداً بين قصيدة النثر والنثر الشعري)، لكنها تستجلي مواصفات كثيرة تتصل بلغة النوعين، وموقفهما من الكثافة والتركيز والايجاز.
لم يابه ادونيس بمصطلح قصيدة النثر، وما يحمل من تناقض ضدي لم ترتح له برنار ذاتها. وترك ذلك لفترة لاحقة، سيقترح فيها معترفاً بالبلبلة الاصطلاحية، مصطلحاً لم يكتب له الانتشار، شان كثير من المقترحات الاصطلاحية البديلة، لانها لم تستطع التخلص من الثنائية الضدية.
اما قراءة انسي الحاج فستظهر سريعاً في مقدمته لديوانه «لن» المؤرخة في خريف 1960، اي بعد اشهر من ظهور دراسة ادونيس سالفة الذكر.
يطور انسي الحاج اسئلة برنار وادونيس بصياغته لتساؤله الجوهري: (هل يمكن ان يخرج من النثر قصيدة؟) متعرضاً لمازق التسمية، مجيباً بالتفريق الدقيق بين النثر والشعر والقصيدة. وذلك التطوير مهم في رايي، وقد تفرد به انسي، لانه تفريق بين كتلة الشعر وقوانينه القارّة، وبين القصيدة كابنة متمردة على تلك القوانين بنصيَّتها.
يورد انسي اسم سوزان برنار وكتابها بالعربية «قصيدة النثر من بودلير الى ايامنا»
قائلاً انه يستعير منها ما يجعل قصيدةً ما قصيدةَ نثر، منوِّهاَ في الهامش بان (ادونيس كان اول من تناول هذا الموضوع بالعربية في عدد مجلة شعر) اي دراسته في قصيدة النثر عام 1960. ويذكر الشروط الثلاثة: الايجاز او (الاختصار)، والتوهج والمجانية. مؤكداً افتراق قصيدة النثر عن اسلوب الشعر المنثور، ومنوهاً بممهدات الانتقال الحديث كما ذكرها ادونيس.
وبهذا توسَّع ما طرحتْه برنار عربياً ولكن سيناله التكرار والانحباس في الشروط والجدل حولها. تلك الشروط والقوانين التي سيعلن انسي الحاج في ندوة اذاعية عام 2011 ندمه على تبنّيها، لان الشعر لا تحده شروط او قواعد او قوانين مسبقة، كما يقول في تبرير ذلك الندم.
اما المعترضون على حضور سوزان برنار في التنظير العربي لقصيدة النثر والحماسة لقوانينها التي شكّلت محور الخلاف حول القيمة المرجعية لكتابها، فهم ايضاّ لا يستغنون عن مصطلحاتها ومقترحاتها، سواء مصطلحها (قصيدة النثر) او القوانين والمزايا التي اقترحتها، وهي في سياق الاجابة عن تساؤل بدات به اولى صفحات كتابها، وظل صداه يتردد في الكتابة النقدية العربية.
حتى الجنابي نفسه يكرر بعض مقترحاتها – مقترحات طالبة الدكتوراه! ــ فيذكر الوحدة العضوية، والجملة بديلاً للبيت والكثافة وتجنب الاستطراد. وفي مناسبة اخرى يذكر (الايجاز والتوتر والجُزاف) بديلاً للمجانية والكثافة. وللجنابي مجهود هائل يهمنا الاشارة اليه، عبر ما قدمه من نماذج نصيّة وتحليلات معمقة وعروض تاريخية لقصيدة النثر العالمية والعربية. وها هو باحاطته النصية والتاريخية يتساءل: (هل يمكن ان يخرج من النثر قصيدة؟). وبهذا يستبق الشاعر تشخيص مازق التسمية الذي تنبه له من بعد شعراء قصيدة النثر انفسهم، كما فعل منظّروها الفرنسيون اذ صرحوا بقلقهم من المصطلح، وهم في مهاد ظهورها شعرياً.
ويعلن الجنابي في كتابة لاحقة ان واضع مصطلح (قصيدة النثر) عربياً هو شوقي ابي شقرا؛ لانه وصف قصيدته (رب البيت الصغير) المنشورة في جريدة «النهار» البيروتية في 28 نيسان (ابريل) 1959، بانها (قصيدة نثر)، واثبت الوصف مع القصيدة المنشورة. والجنابي هنا لا يلتفت الى ان شوقي ابي شقرا لم يشفع التسمية باي مبرر او توسيع، ولم تطّرد لديه تلك التسمية.
المصدر: القدس العربيالقراءة العربية لسوزان برنار وتجلياتها النظرية