الاسلام-الحائر-بين-سياقات-ثلاث

الاسلام الحائر بين سياقات ثلاث

اخبار اليوم الصحيفة, الاسلام الحائر بين اخبار اليوم الصحيفة, الاسلام الحائر بين

احد التصورات غير الدقيقة التي تحملها المخيلة الاسلامية عن الازمة المعاصرة التي تعيشها الامة وعن طبيعة الصراع الدائر في المجتمعات المسلمة هو انه مجرد صراع مابين نموذجين حضاريين: النموذج الاسلامي والنموذج العلماني، وان كلا النموذجين يحملان فلسفة وقيما متعارضة وتقوم عليها مؤسسات اجتماعية متباينة، وهذا التصور قد يكون ملائما للتعبير عن فترة سابقة في تاريخ الامة المسلمة، لكن اظن ان هذه الفرضية الان تحتاج الى المزيد من المراجعة والتركيب، خصوصا وان الكثير من الاطروحات التي بنيت على هذه الفرضية اثبتت عدم فاعليتها بما يدل على قصورها.
الطرح الاخر الذي اراه اكثر جدوى في فهم ازمتنا المعاصرة هو اعادة تصور هذه الازمة على اساس انها ازمة فشل الاستجابة لتحدي تغير السياقات المجتمعية (ايا كان سبب هذا التغير ايجابيا ام سلبيا، مثل: الهجرة، الاستعمار، ثورة المعلومات والاتصالات، العولمة، ..)، وهذا يتطلب اولا ان ندرك مسالتين هامتين: اولهما هو التفرقة بين الجزء الشعائري والعقائدي وبين الوظيفة الاجتماعية الشرائعية للاسلام، فالمهمة الاساسية للدين هو ضبط معتقد وقيم المسلم وارشاده الى الاجابة الناجحة على سؤال الحياة، وهذا ما ينجزه الفقه والفكر الاسلامي من جهة وابتكار المؤسسات والابنية الاجتماعية الفعالة والملائمة من جهة اخرى، وهذا يقودنا الى المسالة الثاني وهي ان ما نعتبره النموذج الاسلامي الحضاري “بتعريف الالف واللام” هو يمثل مجرد “استجابة ناجحة” للامة المسلمة في سياق المجتمعات التقليدية (او ما قبل الحداثية ان صح هذا التعبير) وليس النموذج الاسلامي باطلاقه، فالبناء الشرائعي الفقهي والفكري والعلمي والفلسفي الذي بناه المسلمون سابقا، ثم البناء المؤسسي المتمثل في المؤسسات السياسية (دولة الخلافة والامارة والسلطنة)، والمؤسسات العلمائية (المدارس والمذاهب الفقهية والقضاء)، وغيرها من الابنية الاجتماعية (بيت المال، طوائف الحرف، الاوقاف،..) اظهرت درجات عالية من الرسوخ في عادات وتقاليد الامة المسلمة ومن الفاعلية والقدرة على الانجاز في اغلب المراحل التاريخية الاسلامية.
وهنا ننتقل الى ازمة تغير السياق المرتبط بالحداثة والتي بدات في التاثير على مجتمعاتنا المسلمة منذ اوائل القرن التاسع عشر، والتي حين وفدت الينا صادفت بنية فكرية وشرعية مرهقة شائخة وابنية سياسية واجتماعية متداعية، فكان الصدام مع الحداثة مذهلا ومربكا، وزاد من تازم الوضع ان الحامل الاساس للحداثة الى مجتمعاتنا كان الاستعمار بكل ما تعنيه هذه الظاهرة من سلبية واهانة وجدانية للامة.
والنسق الحضاري الحداثي بالتاكيد مخالف للنسق الاسلامي الذي كان سائدا، سواء في منطقه وقيمه وفلسفته،
او في مؤسساته وابنيته الاجتماعية، فنمط الانتاج الراسمالي وبروز ظاهرة التحضر (الانتقال من الريف الى الحضر)، والتخصص في الوظائف الاجتماعية، ونمط التفكير العقلاني العلماني، ومفهوم الرشادة والمنفعة، والعلم التجريبي والمادية، كل هذه التغيرات وغيرها قد ضربت بشدة مجتمعاتنا المسلمة، وتداعت الكثير من الاعراف والعادات والتقاليد “الممثلة للتنزيل الشعبي للاسلام” لصالح هذا النموذج الجديد، وفُرضت علينا طوعا او كرها المؤسسات الملائمة له، بدءا من الدولة الحديثة، مرورا بالمؤسسات القضائية والمؤسسات التعليمة المدنية، الى غير ذلك من الابنية الحداثية.
وقد تذبذبت استجابة المسلمين لهذا التحدي بين الانماط الثلاثة الكلاسيكية: الرفض والسلفية او الاذعان والتغريب او محاولة التوفيق والتحديث، وانتجت العقلية المسلمة الحداثية الايديولوجيا الاسلاموية
(بديلا عن مقولات السياسة الشرعية التقليدية)، كما ظهرت الابنية الاجتماعية الجديدة، فتراجع دور المؤسسة العلمائية التقليدية والمذاهب الفقهية والمدارس الكلامية وظهرت الحركات الاجتماعية الاسلامية، والاحزاب الاسلامية، والبنك الاسلامي، والدستور الاسلامي وصولا الى الجمهورية الاسلامية.
وبغض النظر عن الاسباب، فان هذه الاستجابات لم تحرز النجاح او الفاعلية المرجوة، ربما لانه لم تكتب الهيمنة لاي من هذه الاستجابات وظل الصراع دائرا بين المدارس الثلاث (التغريبية والسلفية والتحديثية) مما اصاب البيئة الاسلامية بالانقسام والشلل،
او ربما كانت الازمة ان هذه المحاولات التحديثية جرت في مجتمعات ليست حداثية خالصة، بل هجينة بين التقليدية والحداثة، او ربما لان مشروع الحداثة برمته هو مشروع فاقد للشرعية في الضمير والوجدان المسلم نتيجة ارتباطه بصدمة التاخر الحضاري والاستعمار الغربي، بما جعل هنالك شعور عام بالعدائية للحداثة (فكرا وفلسفة وابنية).
ومما زاد الطين بلة، هو دخول مجتمعاتنا تحت تاثير العولمة المتغولة الى حقبة ما بعد الحداثة (ربما مع الالفية الجديدة)، وازعم ان الثورات العربية كانت حدثا مفصليا في هذا الاطار، فالتفكيكية والنسبية الشديدة والسيولة في القيم والمفاهيم، وتراجع مفهوم المرجعيات قد القى بظلاله على مجتمعاتنا، لتزداد حيرة على حيرة، وتيها على تيه، واصبحت الاستجابات الاسلامية الحداثية (المعتلة اصلا) مثل الفكر الاسلامي الحداثي والايديولوجيا الاسلاموية واليات الحزب الاسلامي والحركة الاجتماعية الاسلامية اكثر اعتلالا واقل قدرة على الفعل.
ومن هنا يمكن ان نوجز ان الازمة التي نحن بصددها الان هي ازمة مركبة بشدة، فمن جهة هناك النسخة الاسلامية التقليدية والمتوارثة عبر المؤسسات العلمائية، والراسخة في العادات والتقاليد والاعراف، والتي تستقر في وجدان الامة على انها “الاسلام”، ومع ذلك فان هذه النسخة لا تستطيع الاستمرار وتفتقد الى الفاعلية نتيجة تفكك المجتمعات التقليدية التي انتجتها والتي كانت استجابة لتحدياتها، ومن جهة ثانية فان النسخة الاسلامية الحداثية (الايديولوجيا الاسلاموية والحركات الاسلامية والاحزاب الاسلامية و…..) ولدت معتلة ومطعونا في شرعيتها مما حجّم قدراتها على الفعل، ثم في هذه اللحظة الراهنة اصبحت تشهد تراجعا شديدا تحت وطاة التحولات المابعد حداثية التي بدات تبرز في مجتمعاتنا، واخيرا بخصوص سياق مابعد الحداثة، فان الفاعلين الاسلاميين مازالوا عاجزين عن توليد افكار او ابتكار مؤسسات تستطيع ان تستجيب بشكل فعال لتحدياتها بنسبيتها وسيولتها ومعاداتها لمفهوم المرجعيات والقيم المعيارية، وهكذا غدا الاسلام (فكرا وابنية اجتماعية) حائرا بين نسخ ثلاث: احدها تراثي منتهي الصلاحية، والثاني حداثي مشوَّه ومعتل، والثالث مابعد حداثي لم تتبلور افكاره ومؤسساته بعد.الاسلام الحائر بين سياقات ثلاث

Scroll to Top