خيط-رفيع-يفصل-بين-الواقع-والخيال.-جرائم-مروعة-الهمت-هؤلاء-الكتاب-لكتابة-قصصهم

خيط رفيع يفصل بين الواقع والخيال.. جرائم مروعة الهمت هؤلاء الكتاب لكتابة قصصهم

اخبار اليوم الصحيفة, خيط رفيع يفصل اخبار اليوم الصحيفة, خيط رفيع يفصل

هناك نوعان من الناس يمضون اليوم بطوله في التفكير في القتل.. انهم كتاب ادب الغموض والقتلة المتسلسلين.. * ريتشارد كاسل، بطل مسلسل الجريمة والغموض
قد تكون قراءة عمل ادبي يحكي تفاصيل جريمة مروعة امرًا مرعبًا، ولكن الشيء الاكثر رعبًا هو ان يلمح القارئ في نهاية العمل هذه الجملة «هذا العمل مقتبس من قصة حقيقية». وللدهشة؛ فانه من بين الانواع الادبية العديدة يعتبر ادب الجريمة شديد الارتباط بالحياة الواقعية اذ يستلهم ادباؤه من الاحداث الحقيقية اعمالهم التي تحبس الانفاس مما يضعنا امام حقيقة مفزعة مفادها انه مهما حلق الاديب بخياله فانه قد لا يستطيع ان يتخيل كم القسوة والجنون والتعطش للدماء التي يحملها بعض البشر بداخلهم.
في البداية مثلت النشرات التي كان يوزعها سجن نيوجيت، الاسوا سمعة في بريطانيا في القرنين الثامن والتاسع عشر حيث كان يضم كل المحكومين بالاعدام، وتتضمن السير الذاتية والاعترافات والشهادات التي ادلى بها المجرمون الذين اودعوا به ونُفذ بحقهم حكم الاعدام لاحقًا بداية وجود علاقة ارتباطية بين ادب الجريمة والجرائم التي حدثت على ارض الواقع، حيث اعتاد الشعراء استلام هذه النشرات والتوجه نحو ساحات الاعدام ونظم قصص شعرية ذات ايقاعات صاخبة يظل يرددها الناس لتكون بمثابة انذار لهم من المصير المرعب الذي ينتظرهم ان سلكوا طريق الجريمة. وقد قيل ان السير ارثر كونان دويل مؤلف قصص المحقق شارلوك هولمز قد اعتمد اسلوب هذه النشرات في قصصه، من حيث تركيزه على الجريمة وتفاصيلها وحياة مرتكبيها.
صورة ماخوذة من نشرة سجن نيوجيت تضم بعض من مساجين السجن مقيدين بالسلاسل استعدادًا للترحيل
اما في امريكا فقد نثر الطهوريون بذور محصول امريكا الضخم من ادب الجريمة، حيث كانوا يقومون بتوزيع نشرات مكتوبة باسلوب ادبي تتضمن لمحات من حياة المحكوم عليهم بالاعدام وكذلك كانوا يلقون خطبًا عند تنفيذ الاعدام لردع الناس عن ارتكاب الجرائم. وعلى الرغم من ان الاعدامات العلنية قد توقفت واصبحت تتم في سرية داخل اسوار السجن، الا ان الجرائم الحقيقية ظلت هي مستودع الالهام لكتاب ادب الجريمة فخيالهم لم يستطع ان يصور لهم جرائم ابشع من تلك الحقيقية، ولكنهم قد احدثوا بعض التغييرات في مجريات الاحداث فنجدهم احيانًا يغيرون النهايات ليحققوا قصاصًا لم يتحقق في الواقع واحيانًا اخرى يحاولون اخذ القارئ في رحلة في عقل كل من الجاني والمجني عليه معًا ليستكشفوا سويًا دوافع الاول ويستشعروا رعب وخوف الاخير، وفيما يلي نماذج على بعض الاعمال المقتبسة من قصص حقيقية مروعة:
«جريمة في قطار الشرق السريع»
تدور احداث هذه الرواية للكاتبة اجاثا كريستي على متن القطار المتجه من اسطنبول الى لندن وعلى متنه 12 راكبًا اضافة الى المحقق هيركيول بوارو الذي اضطر لقطع اجازته في اسطنبول والتوجه الى لندن، وصديقه السيد بوك، وكذلك السيد راتشيت الرجل الغني الذي التقاه بوارو سابقًا في قاعة طعام فندق التوكاتيلان في اسطنبول ولم يشعر بارتياح تجاهه.
على متن القطار يخبر السيد راتشيت المحقق بانه يستشعر وجود خطر ما على حياته ويطلب مساعدته الا ان الاخير يرفض ويرد عليه ببساطة قائلًا: «وجهك لا يعجبني يا سيد راتشيت». وفي ليلة اليوم الثاني للرحلة يتعطل القطار في يوغوسلافيا بسبب تراكم الثلوج في شهر ديسمبر (كانون الاول) ويُعلن في الصباح عن العثور على السيد راتشيت مقتولًا في غرفته وفي جسده اثنتا عشرة طعنة ويُكلف المحقق بوارو بالتحقيق في الجريمة والعثور على القاتل الذي لا يزال على متن القطار.
عند معاينة جثة ومقصورة راتشيت يجد المحقق بوارو ورقة صغيرة تحمل اسم «ديزي ارمسترونج» فيعود بالزمن الى الوراء ويتذكر حادثة اختطاف وقتل الطفلة ديزي ارمسترونج من قبل مجرم يُدعى كاسيتي وهروبه بعد ذلك من امريكا، ويستنتج ان ريتشيت وكاسيتي ما هما الا شخص واحد وان قتله قد تم بدافع الانتقام للطفلة الصغيرة التي قتلها قبل سنوات رغم قيام والديها بدفع الفدية.
بمواصلة التحقيق يكتشف بوارو ان كل ركاب القطار قد اشتركوا في قتل راتشيت، وانهم قد كذبوا عليه بشان مشاهداتهم ليلة الجريمة وكذلك بشان هويتهم الشخصية ويُدهش حين يعلم انهم كلهم تربطهم صلة بعائلة ارمسترونج، التي تمزقت بعد وفاة الطفلة الصغيرة فقد ماتت الام كمدًا على ابنتها وانتحر الاب، مما يجعلهم جميعًا يمتلكون الدافع لقتل ريتشيت. وفي النهاية يتعاطف بوارو مع الاقارب والاصدقاء المكلومين ويقرر تحقيق العدالة التي لم تتحقق على ارض الواقع ويدعي قيام شخص غريب باقتحام القطار وقتل راتشيت والهرب ومن ثم تقيد الحادثة ضد مجهول.
اجاثا كريستي
استلهمت كريستي احداث هذه الرواية من حادثة ماساوية حقيقية تمت عام 1932 حين تم اختطاف وقتل طفل الطيار الشهير، تشارلز ليندبيرغ اول من حلق بطائرته منفردًا فوق المحيط الاطلسي، مقابل فدية قدرها 50 الف دولار، اي ما يعادل نصف مليون دولار في وقتنا الحالي. وعلى الرغم من المحاولات المضنية التي بذلتها الشرطة للعثور على المختطف، الا انها
كلها قد باءت بالفشل مما ادى بالمختطف الى رفع مبلغ الفدية الى 70 الف دولار.
وبذلك لم يعد امام الاب مفطور الفؤاد حلًا سوى ان يدفع الفدية، وفي الثاني من ابريل (نيسان) عام 1932 ارسل الوالد الفدية للخاطفين مع وسيط متفق عليه من الطرفين وبدورهم وعدوا بارسال الطفل الى المنزل. الا انه في الثاني عشر من مايو (ايار) في نفس العام وجد سائق شاحنة جثة مشوهة لطفل عمره 20 شهرًا اكتُشف لاحقًا انها جثة الصغير تشارلز ليندبيرغ، الامر الذي كان له اثار مروعة على العائلة فقد انسحق الاب تمامًا تحت احزانه بينما انتحرت مربيته. وعلى الرغم من ان كريستي قد حاولت تحقيق العدالة التي لم تتحقق حينها على يد ابطال روايتها التي كتبتها عام 1933، الا انه شاءت الاقدار ان يتم العثور على قاتل الطفل الحقيقي عام 1934 وتم اعدامه على الكرسي الكهربائي عام 1936 وكان هذه الرواية قد تنبات بالنهاية الحتمية لهذا القاتل.
«الفتاة ذات وشم التنين»
لم يكن الكاتب السويدي، «ستيج لارسوني» يتخيل ان روايته التي ستنشر بعد وفاته،«الفتاة ذات وشم التنين»، سوف تحقق نجاحًا مدويًا وتضعه في مصاف المؤلفين الاكثر مبيعًا حيث بيعت منها ملايين النسخ حول العالم منذ نشرها في عام 2005، وتم اقتباسها في فيلمين احدهما سويدي والاخر امريكي يحمل نفس اسم الرواية وحقق نجاحًا هائلًا.
في صباه شهد لارسون جريمة اغتصاب جماعي لفتاة مراهقة، ومنذ ذلك الحين اصبح هذا المشهد يطارده وسبب له نفورًا لازمه طوال حياته من ممارسة العنف ضد النساء، ونذر كتاباته للدفاع عن المراة ضد العنف وسوء المعاملة فجاءت رواياته، وبالاخص «الفتاة ذات وشم التنين» المبنية على قصة حقيقية، بمثابة وثيقة دفاع عن المراة ضد الاذى النفسي والجسدي.
جريمتا عنف ضد المراة كانتا الدافع الاساسي وراء كتابة لارسون لهذه الرواية. اولهما كانت الجريمة الوحشية التي شهدتها العاصمة السويدية ستوكهولم في صيف عام 1984 حين عثرت الشرطة على اجزاء من جسد فتاة موزعة على اكياس بلاستيك ملقاة على الطريق السريع، وقد تم التعرف على هوية الفتاة من بصمات اصابعها واتضح انها لبائعة هوى تدعى كاترين داكوستا. وقد جرى الاعتقاد ان هذه الفتاة، التي لم يتم العثور ابدًا على راسها او اي من اعضائها الداخلية او التناسلية، كانت ضحية طبيبين احدهما طبيب شرعي معروف بكثرة تردده على بيوت البغايا الا انهما قد تم الافراج عنهما بعد فترة من التحقيق لعدم كفاية الادلة.
اما الجريمة الثانية – التي لم تغب ابدًا عن بال لارسون – فقد كانت جريمة الاغتصاب الجماعي التي شهدها في صباه؛ فكانت النتيجة انه جعل بطلة روايته فتاة غريبة الاطوار تُدعى ليزبيث سالاندر جسدها مليء بالاوشام ومشكوك في سلامتها العقلية مما يجعلها خاضعة لوصاية رجل يتحرش بها ويغتصبها في النهاية، ولكنها استطاعت تجاوز هذا الامر البشع الذي حدث بحقها وانتقمت لنفسها وانضمت للصحفي ميكائيل بلومكفيست وعملت مساعدة له في بحثه عن وقائع الاختفاء الغامض لفتاة تُدعى هاريت فاجنر -المقصود بها كاترين داكوستا- منذ ما يزيد عن 36 عامًا.
وهكذا اطلق لارسون صيحة استغاثة عالية ضد الانتهاكات الواقعة ضد النساء وحاول ان يخفف العبء النفسي الذي الم به منذ سني صباه الاولى بان جعل الفتاة التي تعرضت للاغتصاب تاخذ حقها من مغتصبها، وكذلك تظل قادرة على العيش والعمل باعتبارها مساعدة محقق، ولكن تظل الحقيقة المفزعة قابعة في الصفحة الاخيرة من الرواية حين تلمح جملة «هذا العمل مقتبس من قصة حقيقية».
«صمت الحملان»
في عام 1988 نشر توماس هاريس روايته النفسية «صمت الحملان» التي تحمل ابعادًا جديدة للجريمة السيكوباتية؛ فهو قد قدم فيها شخصية شديدة الذكاء والخطورة ستصبح من اشهر شخصيات ادب الجريمة، وهو الطبيب الجراح هانيبال ليكتر المجرم الخطير والقاتل المتسلسل اكل لحوم البشر. والغريب في الامر ان ذلك القاتل، الذي وُضع في مصاف شخصيات الرعب والغموض الشهيرة كدراكولا و فريدي كروغر، لم يكن يعرف معظم الناس حتى وقت قريب انه مقتبس من شخصية حقيقية.
هذا الامر اقره الكاتب توماس هاريس في مقدمة كتبها عام 2013 بمناسبة احتفاله بمرور 25 عامًا على صدور الرواية، اذ صرح بانه استلهم شخصية الدكتور هانيبال ليكتر من شخصية سفاح حقيقي اجرى مقابلة معه في سجن توبو شيك بالمكسيك حين كان يعمل مراسلًا. كان السفاح الذي قابله هاريس يعمل طبيبًا جراحًا ويُدعى «الفريدو بالي تريفينيو» وقد ارتكب جريمة بشعة بحق صديقه اذ قتله بعد ان خدره وحز حلقه وافرغ دماءه في حوض الاستحمام ثم استخدم مهارته كجراح في تقطيع جسده الى اجزاء صغيرة متساوية، وهكذا جاءت شخصية ليكتر تحمل قدرًا كبيرًا من الذكاء الذي استشعره هاريس في ذلك السفاح الذي اعتقدت الشرطة انه قد قتل الكثيرين قبل صديقه ولكنها لم تستطع اثبات الامر بالادلة الكافية.
«القلب الواشي»
هو شخص لا نعرف له اسمًا يمقت العين العمياء ذات اللون الازرق الغائم لجاره العجوز ويخافها لاعتقاده بانها عين شريرة، فيقرر ان يطلق عليها النار وهو نائم. وما ان يتاكد من ان العجوز قد مات، يعمد الى تقطيع اعضائه وتصفية دمه في حوض الاستحمام ويتخلص من بقاياه تحت الالواح الخشبية في ارضية الغرفة.
ولكن يحدث ما لم يكن في الحسبان اذ تاتي الشرطة على خلفية ابلاغ احدهم عن سماع صرخة حادة في جوف الليل؛ فيقنعهم بدهاء ان هذه الصرخة لم تكن الا صرخته هو بسبب كابوس تراءى له في نومه بل ويستضيفهم في حجرة العجوز مفسرًا غيابه بانه ذهب الى قريتهم البعيدة.
ولكن لمَ يستمر قلب العجوز في الخفقان؟ اترى ضباط الشرطة يسمعون ضربات قلبه ويعلمون ان اشلاءه قابعة هنا في ركن من اركان الغرفة؟ اتراهم يسخرون منه ويعلمون انه القاتل وان خداعه وتظاهره بان شيئًا لم يكن لم ينطل عليهم؟ لا ان صوت دقات القلب لم يعد يُحتمل حتى كاد ان يخرق اذنيه فيصرخ فجاة قائلًا لقد قتلت العجوز وبقاياه هنا اخرجوها ولكن دعوا دقات القلب اللعينة هذه تتوقف، ولكن دقات القلب لن تتوقف ابدًا، لانها دقات قلبه المرتعد الخائف الذي وشى به وليست دقات قلب العجوز المقتول!
كتب ادجار الان بو «القلب الواشي» عام 1843 ليسجل بذلك سبقًا في الكتابة في علم النفس الجنائي؛ فهو قد قدم شخصية مريضة مصابة بجنون الشك تعتقد ان الجميع يتامر عليها مما يسول لها اطلاق النار على ما يشكل لها تهديدًا، حتى لو كانت عين، مجرد عين! وقد بنى الان بو حكايته على جريمة حقيقية حدثت في مدينة سالم عام 1830، حيث وُجد العجوز الثري، الكابتن جوزيف وايت، مقتولًا في منزله وقد هشمت راسه وبجسده عدد من الطعنات، الا ان ممتلكات او اموال العجوز لم تمس مما جعل الراي العام وقتها يقف حائرًا امام الدافع الحقيقي وراء هذه الجريمة.
ولكن المدعي العام، دانيل ويبستر، لم يكتف بتقييد الجريمة ضد مجهول وبحث في عائلة العجوز عن اي شخص قد تكون بينه وبين العجوز عداوات واحقاد قديمة ليكتشف ان ابني شقيق العجوز قد استاجرا قاتلًا ماجورًا لقتل عمهما بعد علمهما بقيامه بتغيير الوصية وحرمان جميع اقاربه من ميراثه، فعزما امرهما على ان قتله وسرقة الوصية الجديدة – التي لم يكن يعلم بامرها احد الا هم – وبالتالي تؤول كل ثروته اليهما.
ويُقال ان ادجار الان بو قد اعجب بشدة بفصاحة دانيل ويبستر في الخطبة التي القاها قبل محاكمة المتهمين وحاول ان يحاكي بلاغته وجزالة اسلوبه في هذه القصة، كما انه قد اوضح ايضًا انه لا فرار لمجرم من جريمته اذ سوف يشي به كل شيء حتى قلبه!خيط رفيع يفصل بين الواقع والخيال.. جرائم مروعة الهمت هؤلاء الكتاب لكتابة قصصهم

Scroll to Top