الدخواريّون_.-اعظم-اطباء-العصر-الاسلامي-الوسيط

“الدخواريّون”.. اعظم اطباء العصر الاسلامي الوسيط

اخبار اليوم الصحيفة, “الدخواريّون”.. اعظم اطباء اخبار اليوم الصحيفة, “الدخواريّون”.. اعظم اطباء

في القرن (السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي)، ظهرت في دمشق المدرسة الدخوارية التي اسّسها الطبيب مهذّب الدين عبد الرحيم الدخوار (565- 628هـ/1170-1231م)، وهو واحد من المع وانجب اطباء العيون في ذلك العصر، وقد تعلم هذه المهنة التي كان يُطلق على المشتغل بها “الكحّال”، على يد والده، علي بن حامد، وغيره من مشاهير اطباء ذلك العصر مثل رضي الدين الرحبي وفخر الدين المارديني، واهم من اخذ على ايديهم طبيب السلطان صلاح الدين الايوبي اسعد بن الياس بن جرجس موفق الدين المطران[1].
رئيس الاطباء
ترقى مهذّب الدين في وظيفته الطبية، وذاع صيته حتى اصبح طبيبًا خاصّا للسلطان العادل ابي بكر بن ايوب (ت 615هـ/1219م)، وقد عيّنه مديرا لاهم واعظم مستشفى في دمشق وقتها “البيمارستان النوري الكبير”. وسرعان ما ترسّخت مكانته عند السلطان العادل الايوبي الذي كان يراه جديرًا بمكانته في كل ازمة صحّية كانت تلم به او ببعض حاشيته؛ لذا اصدر امره بتعيينه رئيسًا على اطباء مصر والشام باسرها، واعطاه صلاحية تعيين المناسبين من اطباء العيون “الكحّالين” واختبارهم “وان من يصلحُ منهم لمعالجة امراض العين ويرتضيه يكتبُ له خطا بما يعرفه منه ففعل ذلك”[2].
وبعد وفاة السلطان العادل، وتقسيم المملكة الايوبية بين اولاده المعظّم عيسى في دمشق، والاشرف موسى في الرقة والجزيرة، والكامل محمد في مصر، اصدر الملك المعظّم عيسى مرسومًا بتعيين مهذّب الدين الدخوار في المستشفى النوري في دمشق، وان يكون مرجعًا لتعليم الطب في المدرسة الطبية التي كانت ملحقة بالبيمارستان النوري، وكان المؤرخ والطبيب ابو العباس احمد بن القاسم بن ابي اُصيبعة (ت 668هـ/1270م) واحدًا ممن تلقوا العلم في هذه الحقبة على المهذب الدخوار، يقول في موسوعته “عيون الانباء في طبقات الاطباء” “واقمتُ انا في دمشق لاجل القراءة عليه.. وشرعتُ في قراءة كُتب غالينوس وكان خبيرًا بكل ما يقرا عليه من كتب غالينوس وغيرها، وكانت كتب غالينوس تعجبه جدًا، واذا سمع شيئًا من كلام غالينوس في ذكر الامراض ومداواتها والاصول الطبية يقول: هذا هو الطب”[3].
ونفهم مما سرده ابن ابي اصيبعة عن استاذه الدخوار ان طريقة تدريسه للعلوم الطبية حينذاك كانت تقوم على الجانبين النظري والعملي، فنظريا كان يعتمد على مصنفات اطباء اليونان مثل غالينوس وابقراط وغيرهم، وممن سبقوه من اطباء المسلمين مثل الرازي وابن سينا، وكان في ذلك عالمًا بهذه المصادر، ملما بها، قادرًا على تبسيطها لتلامذته، “طلق اللسان، حسن التادية للمعاني، جيد البحث”.
اما القسم العمَلي فكان يتم في المستشفى النوري الكبير الذي انشاه السلطان العادل نور الدين محمود بن زنكي في دمشق، فكان يعالجُ المرضى، وياخذ معه تلامذته في هذه الزيارات للتدرب والتفطن بها، يقول ابن ابي اصيبعة “لازمته في وقت معالجته للمرضى بالبيمارستان، فتدربتُ معه في ذلك، وباشرتُ اعمال صناعة الطب”[4].
ولم يكن الامر يقف على هذا الجانب فقط، بل كانت تُعقد ندوات علمية وبحثية بين كبار الاطباء ومنهم الدخوار، فيدخلون في نقاشات ومناظرات معمّقة على ملا من طلبة الطب، الذين كانوا يستفيدون منها اشد الاستفادة، وهذا ما جاء على ذكره ابن ابي اصيبعة ايضا؛ حيث يقول “كان في ذلك الوقت ايضًا معه في البيمارستان لمعالجة المرضى الحكيم عمران، وهو من اعيان الاطباء واكابرهم في المداواة والتصرّف في انواع العلاج، فتضاعفت الفوائد المقتبسة من اجتماعهما، ومما كان يجري بينهما من الكلام في الامراض ومداواتها”[5].
لم يكتف مهذب الدين الدخوار بتعليم وتدريس الطب في المستشفى النوري الذي كان مخصصًا لعلاج المرضى في المقام الاول، فقرر سنة (622هـ/1225م) ان يجعل بيته مدرسة مخصصة للطب في دمشق، وكان قبلي الجامع الاموي حينذاك، وحين وفاته اوصى ان يدرّس بها الطبيب رضي الدين الرحبي.
في عام (626هـ/1229م) وفي مُلك الاشرف موسى بن العادل الايوبي لمدينة دمشق، اصدر مرسومه بتعيين الدخوار رئيسًا للاطباء مرة اخرى كما كان في عصر والده العادل، وجعل له مجلسًا اشتُهر في دمشق لتدريس العلوم الطبية، لكن الرجل كان قد كبر سنه، وابتُلي في ذلك الوقت بثقل في لسانه حتى كان تلامذته لا يكادون يفهمون كلامه، وربما كان يكتب لهم ما يُشكل عليهم من المسائل في اللوح، وحاول علاج نفسه، فاصيب بحمّى قوية اضعفت قوته، ثم توالت عليه الامراض، حتى توفي في منتصف شهر صَفَر سنة (628هـ/1231م) عن عُمر ناهز الثالثة والستين عاما[6].
ترك الدخوار عددا من المصنفات الطبية المهمة منها “كتاب الجُنينة” وهو مسائل وتعاليق في الطب دونها الدخوار في هذا الكتاب حول الاستفسارات الطبية التي انتشرت في عصره، و”اختصار الحاوي” لابي بكر الرازي و”مقالة في الاستفراغ”[7].
من تلامذة الدخوار
لم يكن الدخوار طبيبًا يسعى للشهرة والمكانة المرموقة فقط، بل حرص على انشاء مدرسة تسير على المنهج العلمي السديد؛ فتخرّج على يديه كثير من مشاهير الاطباء في عصره مثل بدر الدين المظفر بن قاضي بعلبك الذي عُيّن رئيسا على الاطباء سنة (637هـ/1240م) وفق مرسوم اميري من الملك الجواد الايوبي.
ومنهم خليفة الحلبي صاحب اول كتاب يظهر فيه رسم لمقطع تشريح العين والتصالب البصري، وهو كتاب “الكافي الكحل” الذي يثبت ان صاحبه “خليفة” اول من استعمل المغناطيس في اخراج الاجسام المعدنية التي تدخل في العين؛ فقد تمكن من استخراج قطعة صغيرة كسرت ودخلت في عينه عن طريق المغناطيس.
ومن اهم تلاميذ الدخوار ابن ابي اصيبعة صاحب موسوعة “عيون الانباء في طبقات الاطبّاء” وهي من اهم واجل كتب الطبقات التي جاءت على ذكر اطبّاء الحضارة الاسلامية حتى عصره، وتخصصاتهم ومصنفاتهم وبعض من سيرهم وحياتهم العلمية.
ويُعد الطبيب عز الدين السويدي الدمشقي واحد من الاطباء النجباء الذين تلمذوا على يد المهذب الدخوار، واخذ ما عنده من الفوائد الطبية ، واشتغل بصناعة الطب حتى اتقنها اتقانا لا مزيد عليه وتولى التدريس بالمدرسة الدخوارية، وخدم في بعض مستشفيات دمشق في القرن السابع الهجري مثل المستشفى النوري الكبير و”بيمارستان باب البرد”، وقد ترك عددا من المؤلفات الطبية مثل “التذكرة” و”الذخيرة الكافية في الطب”[8].
ابن النفيس.. دخواريّ!
اما اشهر واعظم تلامذة مهذب الدين الدخوار فهو الطبيب ومستكشف الدورة الدموية ابن النفيس، علاء الدين الدمشقي المولد المصري الوفاة، صاحب المصنفات المهمة في علم الطب. وُلد ابن النفيس في دمشق سنة (607هـ/1211م) وتعلم على يد المهذب الدخوار وزميله عمران الاسرائيلي ورضي الدين الرحبي، وهؤلاء الثلاثة اهم اطباء الحضارة الاسلامية في زمنهم يقول عنهم ابن ابي اصيبعة “لم يجتمع في البيمارستان (النوري) منذ بُني والى ما بعده من الزمان من مشايخ الاطباء كما اجتمع فيه في ذلك الوقت من هؤلاء المشايخ الثلاثة، وبقوا كذلك مدة:
ثم انقضت تلك السنون واهلها *** فكانّها وكانّهم احلامُ”[9]
ميدان – الصفحة الاولى من احدى كتب ابن النفيس الطبية (مواقع التواصل)
انتقل ابن النفيس الى القاهرة بعد دمشق، فاستقر بها وعمل بالبيمارستان الناصري اكبر مستشفى بالقاهرة حينئذ، ثم تولى رئاسة البيمارستان المنصوري بعد افتتاحه مباشرة، وقد اظلت شهرته على الناصري، وهو المستشفى الذي بناه السلطان المنصور سيف الدين قلاوون في اوائل العقد الثامن من القرن السابع الهجري، وفي القاهرة نال ابن النفيس شهرة طاغية كطبيب ومؤلف حتى وصفه العلامة السيوطي بـ”العلامة.. شيخ الطب في الديار المصرية.. واحد من انتهت اليه معرفة الطب؛ مع الذكاء المفرط والذهن الحاذق بالمشاركة في الفقه والاصول والحديث والعربية والمنطق. مات في ذي القعدة سنة سبع وثمانين وستمائة (ديسمبر/كانون الثاني 1288م)، وقد قارب الثمانين، ولم يخلف بعده مثله”[10].
لقد كان السيوطي محقا في وصفه لابن النفيس؛ حيث اكد على هذه الاهمية الطبيب المصري محي التطاوي سنة 1924م حين عثر في مكتبة برلين في المانيا على كتاب ابن النفيس المسمى “شرح تشريح القانون”، فجعله اُطروحته في نيل الدكتوراه من جامعة فرايبورغ بالمانيا بعنوان “الدورة الرئوية للقرشي”، فذهل اساتذته والمشرفون عليه، وما كادوا يصدقونه، فلم تكن كشوفات ابن النفيس معروفة لديهم، ولجهلهم باللغة العربية، ارسلوا نسخة الرسالة الى الطبيب والمستشرق الالماني د.مايرهوف، الذي كان مقيما في القاهرة ، فالتمسوا رايه فيها، فايّد مايرهوف ما توصل اليه التطاوي في رسالته، واسرع الى ابلاغ الخبر الى المؤرخ الاميركي المعروف جورج سارتون الذي نشره بدوره في اخر جزء من مؤلفه الاشهر “تاريخ العلوم”. اما الطبيب البريطاني هارفي المتوفى سنة 1658م والذي نسب اليه اكتشاف الدورة الدموية الكبرى فقد اطلع على اول ترجمة لكتاب ابن النفيس الى اللاتينية والتي قام بها الطبيب الايطالي الباغو في البندقية سنة 1547م[11].
ومما سبق نرى ان مهذب الدين الدخوار لم يكن مجرد طبيب حاذق من اطباء عصره، نال حظه من الشهرة والمكانة لدى سلاطين وملوك الدولة الايوبية قبل ثمانية قرون مضت، بل اننا نراه في المقابل علَما من اعلام الطب في الحضارة الاسلامية، وواحدًا ممن انشاوا مدرسة علمية تجلت ثمرتها البحثية بعد وفاة الدخوار بنصف قرن على يد تلميذه النابه ابن النفيس، وقد ظلت المدرسة الطبية الدخوارية تمارس مهامها العلمية مدة قرنين من الزمان تخرج خلالها عشرات من الاطباء الماهرين الذين تركوا بصمات طبية في دمشق في العصرين الايوبي والمملوكي.“الدخواريّون”.. اعظم اطباء العصر الاسلامي الوسيط

Scroll to Top