اخبار اليوم الصحيفة, قلاع الحديث النبوي اخبار اليوم الصحيفة, قلاع الحديث النبوي
كان الفقيه ابو ابراهيم المالكي القرطبي معظّماً عند الخليفة الناصر وابنه الحكَم المستنصر في الاندلس، وقد حكى الفقيه ابو القاسم بن مفرّج قال: كنتُ اذهب الى الفقيه ابي ابراهيم رحمه الله تعالى، فيمن يذهب للتفقّه ورواية الحديث النبوي، فانّي لعنده في بعض الايّام في مجلسه بالمسجد الذي كان يصلي به قرب داره قرب قصر الخلافة في قرطبة، ومجلسه حافل بجماعة الطلبة، اذ دخل عليه فتى من اصحاب رسائل الخليفة، جاء من عند الخليفة الحكَم المستنصر، فوقف وسلّم، وقال له: يا فقيه، اجب امير المؤمنين ابقاه الله، وها هو قاعد ينتظرك، وقد اُمرتُ باعجالِك، فالله الله، فقال له: سمعاً وطاعة لامير المؤمنين، ولا عجلة فارجع اليه وعرّفه -وفقه الله عني- انّك وجدتني في بيت من بيوت الله تعالى معي طلاب العلم اُسمعهم حديث ابن عمّه رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فهم يقيّدونه عني، وليس يمكنني ترك ما انا فيه حتى يتم المجلس المعهود له في رضا الله وطاعته، فذلك اوكد من مسيري اليه الساعة، فاذا انقضى امر من اجتمع اليّ من هؤلاء المحتسبين في ذات الله الساعين لمرضاته مشيت اليه ان شاء الله تعالى[1].
حافظا العصر المرابطي!
ظهر في شبه الجزيرة الاندلسية، من اعلام المحدثين والفقهاء، في العصر المرابطي، جمهرة كبيرة، بلغ بعضهم في ميدانه ارفع مكانة. وكان في مقدمة هؤلاء اثنان لمع احدهما في شرقي الاندلس، ولمع الثاني في غربي الاندلس، وكان لهما اكبر اثر في ازدهار علوم السنة والفقه في ذلك العصر[2].
اولهما العلامة الحافظ ابو على حسين بن محمد بن فيرُّه الصدفي. اصله من سرقسطة من اهل الثغر الاعلى، وبها كان مولده ونشاته، ودرس في سرقسطة وبلنسية والمرية، وكان من اساتذته ابو الوليد الباجي، وابو العباس العذري، وابو عبد الله بن المرابط. ثم رحل الى الشرق في سنة 481ه/1088م، وحج ودرس بمكة وبغداد ودمشق والقاهرة، على اشهر علماء العصر.
عاد الصدفي الى بلاده الاندلس سنة 490هـ/1097م، فاقام في مدينة مرسية جنوب شرق الاندلس، وقد ذاع صيته العلمي، واشتهر بتبحره في علوم السنة النبوية. وولي قضاء مرسية مدة، ولكنه استعفى فاعفي، وانقطع لنشر العلم وتدريسه، فهرع الناس لسماعه والاخذ عليه، وكان اعظم حفاظ عصره، وقد ترك عدة مصنفات مهمة[3].
وفي سنة 514هـ/1120م ذهب الى مدينة شاطبة واقام بها، وكان دائب الحث على الجهاد، ولما سار الامير ابراهيم بن يوسف بن تاشفين غازياً الى الثغر الاعلى لانقاذ منطقتي دورقة وقلعة ايوب من الاراغونيين، كان الصدفي ضمن العلماء الذين انضموا للجهاد في هذه المعركة، فقد استشهد في موقعة كتندة، التي نشبت على اثر ذلك بين المرابطين وبين الارجونيين، بقيادة الفونسو المحارب، وذلك في ربيع الاول سنة 514هـ (يونيه 1120م)[4].
(مسلسل ربيع قرطبة)
اما الحافظ الثاني فهو القاضي ابو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن العربي المعافري، وهو من اعظم فقهاء العصر المرابطي وحفاظه، ولد باشبيلية سنة 468هـ/1076م وبرع في الحديث والادب، ورحل الى المشرق مع ابيه حينما ارسله الامير يوسف بن تاشفين سفيراً عنه الى الخليفة العباسي المستظهر والامام الغزالي، وذلك في سنة 485هـ/1092م، ودرس بمكة والقاهرة وبغداد ودمشق.
عاد ابن العربي الى الاندلس سنة 493هـ/1100م، يسبقه صيته العلمي، ويصفه تلميذه ابن بشكوال “بالامام العالم الحافظ، المستبحر، ختام علماء الاندلس، واخر ائمتها وحفاظها”[5]. وتولى ابن العربي قضاء بلده اشبيلية لاول مرة في سنة 508هـ/1114م، ولبث به مدة وعرف بحزمه ونزاهته، وتحريه العدل والحق والتزام الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى اوذى بسبب ذلك وانتهبت امواله وكتبه. ثم صرف عن القضاء وانقطع للتدريس ونشر العلم. وكتب عدة مؤلفات منها “كتاب ترتيب الرحلة “، وكتاب “العواصم والقواصم”، وكتاب “انوار الفجر” في مدح الرسول، وكتاب “قانون التاويل”، وكتاب “التلخيص في النحو”، وكتاب “القبس في شرح موطا مالك” وبلغت مؤلفاته نحو الاربعين كتاباً[6].
عالم ومحدّث!
ومن الظواهر اللافتة في الاندلس، انك تجد علماء متخصصين في الطب والنبات والهندسة والفلك كلهم تعلموا الحديث النبوي الشريف في فترة من فترات حياتهم العلمية، لكن اللافت ان بعضهم اشتهر فيه مع تخصصاتهم العلمية.
فهذا اعظم النباتيين والعشابين في العصر الموحدي، ابو العباس احمد بن محمد بن مفرج الاموي، المعروف بابن الرومية، وبالعشاب، والنباتى. ولد باشبيلية في المحرم سنة 561هـ/1166م، واصله من قرطبة، ودرس الحديث على جماعة من اقطاب عصره، وتجول في طلب العلم، وسماع الحديث، حتى صار فيه اماماً حافظاً، ناقداً، ذاكراً تاريخ المحدثين وانسابهم وموالدهم، ووفياتهم، وتعديلهم وتجريحهم، ومال الى علم النبات ودراسته، وتمييزه، وتصنيفه، وتجول من اجل ذلك في ربوع الاندلس، والمغرب وافريقية، ثم رحل الى المشرق، بعد سنة 580هـ/1184م، وتجول في مصر والشام والعراق والحجاز، فدرس الكثير من اصناف النباتات غير المعروفة، ووقف على كثير من غوامضها[7].
وانك لتجد للنباتي المحدث ابن الرومية مصنفات في كلا العِلمين، منها في علم الحديث، “رجالة المعلم بزوائد البخاري على مسلم”، و”اختصار حديث مالك للدارقطنى”، و”نظم الدرارى فيما تفرد به مسلم عن البخاري”، و”الحافل في تدليل الكامل” وغيرها. ومن مصنفاته في النبات “شرح حشائش دياسقوريدس” و”ادوية جالينوس”، و”التنبيه على اوهام ترجمتها” و”التنبيه على اغلاط الغافقي”، و “الرحلة النباتية” و “المستدركة ” وغيرها[8].
اما محمد بن بكر بن محمد عبد الرحمن بن بكر الفهري من اهل بلنسية، فقد كان من اهم علماء بلنسية والاندلس في الحساب والهندسة، ومع ذلك كان اماما في الحديث، ودرس على اقطاب عصره مثل ابي عبد الله بن نوح، وابي الخطاب ابن واجب، وابي عمر بن عات[9].
(برنامج على اطلال الاندلس لعبد العزيز العويد)
اندلسيون في المشرق
ومن اللافت ظهور علماء اندلسيين في المشرق واستقرارهم لتدريس الحديث النبوي بين المشارقة في مصر والشام والعراق بل وفي وسط اسيا، وهذا دليل على مدى الامتزاج الحضاري والثقافي بين العالم الاسلامي قبل ظهور الدولة الحديثة.
فمنهم هؤلاء ابو العباس احمد بن عمر القرطبي، من قرطبة، صاحب كتاب “المفهم في شرح مسلم”، كان فقيها محدثا مدرس، ولد بقرطبة سنة 578هـ/1182م وسمع بها، ثم انتقل الى المشرق وقدم مصر واختصر بها الصحيحين، توفي بالاسكندرية سنة 656هـ/1258م.
ومنهم المحدث ابو عبد الله محمد بن سراقة، من شاطبة، انتقل في طلب العلم الى الشام والعراق، واستقر بمصر حيث تولى رئاسة اهم كلية لدراسة الحديث النبوي في مصر حينها، مشيخة دار الحديث الكاملية سنة 643هـ/1245م في عصر السلطان نجم الدين ايوب حفيد صلاح الدين، وظل في رئاسة هذه الكلية الى ان توفي في شعبان سنة 662هـ/1264م في عصر السلطان المملوكي الظاهر بيبرس[10].
ومن علماء وحفاظ الحديث النبوي الذين استقروا في مصر وعملوا في التدريس ابو عمرو عثمان بن الحسين، من اهل مدينة دانية جنوب شرق الاندلس، كان حافظا للغة العربية، انتقل الى القاهرة وعينه السلطان الايوبي الكامل محمد بن العادل استاذا في دار الحديث الكاملية، وكانت اهم كلية لعلوم الحديث النبوي في مصر حينها، وبقي بها الى ان توفي سنة 634هـ/1237م[11]. ومنهم ابو سلمة البياسي، من بياسة جنوب الاندلس، كان عارفًا بعلم الحديث ظاهري المذهب، استوطن القاهرة وبها توفي سنة 703هـ/1304م.
ولم يكتف الاندلسيون من علماء الحديث بسكنى مصر، بل كان لبلاد الشام موقع خاص في نفوس المغاربة والاندلسيين لما ورد في فضلها من احاديث صحيحة، هاجر اليها عبر القرون عدد كبير من خاصتهم وعامتهم، قبل سقوط غرناطة وبعدها. منهم ابو محمد عبد العزيز بن عبد الله السعدي من اهل شاطبة، قدم دمشق وصنف بها كتابه “غريب الحديث على حروف المعجم”، وقد توفي بحوران (درعا) سنة 465هـ/1073م (12).
ومنهم الامام المحدث الزاهد زكي الدين ابو اسحق ابراهيم بن عبد العزيز، من مدينة لورة التابعة لاشبيلية، سمع بمصر ودمشق وحلب وافتى ودرس، وهو اول عالم اندلسي يدرّس في كلية ظاهرية دمشق مشيخة الحديث، توفي بدمشق سنة 687هـ/1288م(13).
ومن مشاهير الاندلسيين الذين هاجروا الى افغانستان ابو محمد عبد الله بن عيسى بن ابي حبيب، من اهل مدينة شلب جنوب البرتغال الان، من بيت علم ووزارة، كان غزير العلم في الفقه والحديث والادب، وولي القضاء بالاندلس مدة، ثم دخل الاسكندرية والقاهرة وجاور بمكة المكرمة، ثم قدم بغداد، ثم انتقل الى خراسان حيث اقام بنيسابور وبلخ واستقر بهراة حيث توفي سنة 548هـ/1153م.
ومن مشاهير الاندلسيين الذين هاجروا الى اسيا الوسطى المحدث ابو الاصبغ عبد العزيز بن عبد الملك الاموي، من اهل قرطبة، سمع عن جماعة في مكة ومصر ودمشق وغيرها، ثم استقر في مدينة بخارى
محدثا بها، وبها توفي سنة 365هـ/976م(14).
وهكذا كان لعلم الحديث النبوي مكانته العالية في نفوس الاندلسيين، الذين تلقفوه على علماء المشرق والمغرب، ولم يتوانوا عن تعليمه وتدريسه ونشره، حتى اشتهر منهم عدد من كبار علماء الحديث مثل الحافظ ابي عمر بن عبد البر القرطبي وغيره، وفي تقاريرنا القادمة سنقف مع العلوم الانسانية والاسلامية والعقلية ومظاهر الاهتمام بها في بلاد الاندلس على مدار ثمانية قرون هي عمر الاسلام في هذه البقاع.قلاع الحديث النبوي في الاندلس