الحشّاشون.-من-الظهور-الى-الاندثار

الحشّاشون.. من الظهور الى الاندثار

اخبار اليوم الصحيفة, الحشّاشون.. من الظهور اخبار اليوم الصحيفة, الحشّاشون.. من الظهور

ظهر الاسماعيليون على مسرح التاريخ اثر وفاة الامام جعفر الصادق في العام 148هـ/765م، وكان من نتائج هذه الوفاة الصراع بين اولاده ومريديه، ومن ثم الانقسام الى عدد من الجماعات المنفصلة، ومن هؤلاء الاسماعيليون الاوائل.
وهناك اتفاق عام بين الدارسين لشؤون الاسماعيلية ان خطّا من القادة المركزيين المتحدّرين من جعفر الصادق قد عملوا في تلك الفترة المبكرة من عدة مراكز قيادية، على تنظيم حركة شيعية مناوئة للحكم العباسي، باعتبارهم “مغتصبين” للحقوق الشرعية للاسرة العلوية في زعامة الامة[1].
ومنذ القرن الثالث الهجري حققت “الدعوة الهادية” نجاحًا بشكل خاص في العراق وفارس وشرقي الجزيرة العربية واليمن، فقد دعا هؤلاء الدعاة الى امامة “المهدي الاسماعيلي” الذي سيخلّصهم من مظالم العباسيين، كما ان حكمه سيؤذن بعودة الخلافة الى العلويين المخلوعين، وتوّج انتصار الشيعة الاسماعيلية المبكّرة باقامة الخلافة الفاطمية سنة 297هـ/909م في شمال افريقية، عندما تم تنصيب الامام الاسماعيلي في تلك الاونة في منصب جديد، وكان الاول من نوعه “الخلافة الشيعية”[2].
انقسام الاسماعيلية
حقّقت الدولة الفاطمية الاسماعيلية تطلعاتها السياسية والفكرية بل والعسكرية في ميدان الصراع امام العباسيين في العراق، فقد اضحت مصر التي دخلها الفاطميون سنة 358هـ/969م، مركز الدعوة والدولة الشيعية في منطقة الشرق العربي، وبالتوازي مع هذا التطور السياسي والتوسعي، ازدهر الفكر الاسماعيلي، والدعوة الاسماعيلية التي تمكنت من تحقيق نجاحات مؤثرة في المشهد السياسي والفكري انذاك.
وقد كُلل هذا النجاح بحركة البساسيري الشهيرة في العام 450هـ، حين انقلب القائد العسكري ابو الحارث ارسلان البساسيري على الدولة العباسية، وحين هرب الخليفة العباسي القائم بامر الله، فاضحت بغداد مركز الخلافة العباسية السنية تابعة لاول مرة الى الخلافة الفاطمية في تحول بدا كارثيًا وغير متوقع انذاك، لكن سرعان ما دخل السلاجقة الى بغداد وطهروا العراق بل ومعظم بلاد الشام من الوجود الفاطمي، وتمكنوا من اعادة الامور الى نصابها، وحملوا على عاتقهم منذ ذلك الحين همّ مناواة الفاطميين على الصعيدين السياسي والعسكري.
الحسن بن الصباح (مواقع التواصل)
وفي العام 487هـ/1094م توفي الخليفة الفاطمي المستنصر، فانقسم الاسماعيليون بوفاتِه الى جماعتين متنافستين النزارية والمستعلية، وذلك بعد ان نجح الوزير الفاطمي القوي الافضل الجمالي صاحب السلطة المطلقة والفعلية حينذاك، في تنصيب الابن الاصغر للمستنصر ولقّبه بلقب المستعلي بالله (487- 495م/1094 – 1101م)، حارمًا بذلك نزار الابن الاكبر للمستنصر وولي العهد من حقه الشرعي في ولاية الخلافة، وقد اعترف اسماعيليو مصر والمناطق التابعة للنظام الفاطمي في تلك الفترة بامامة المستعلي بعد المستنصر فصاروا يُعرفون بالمستعلية، في حين اعتراف اسماعيليو ايران بامامة نزار، فعُرفوا به.
وكان ظهور طائفة الحشاشين -على يد مؤسسها الحسن بن الصباح الاسماعيلي -واستيلاؤهم على قلعة اَلَموت في بلاد فارس- وبالتحديد في جنوب غرب بحر قزوين منذ عام 483هـ/1090م- عاملاً كبيرًا من عوامل القضاء على السلاجقة واضعاف العباسيين فضلا عن خطرهم الداهم الذي استمر يصارع القوى السنية المحيطة بهم مثل الزنكيين والايوبيين والخوارزميين، فضلاً عن الغارات الكبيرة التي كانت تقوم بها هذه المجموعات على المناطق المحيطة والتي كان يسكنها على الاغلب السكان المسلمون السنة[3].
“شملت دعوة ابن الصباح يزد وكرمان وطبرستان ودامغان وولايات اخرى من ايران لم يدخل في عدادها مدينة الري؛ لانه كان يتجنبها اتقاء لشر الوزير نظام الملك الطوسي”
ولد الحسن بن الصباح بالري في ايران عام 430هـ/1039م، وقد ذكر بعض المؤرخين انه ولد في مدينة قُم معقل الشيعة الاثني عشرية، ثم انتقلت عائلته الى الري مركز نشاطات طائفة الاسماعيلية فاتخذ الطريقة الاسماعيلية الفاطمية وعمره 17 سنة.
لقد استمر ابن الصباح في قراءة كتب الاسماعيلية، ناهلاً منها معارفه واطروحاته، كما حرص على تلقي علوم الاسماعيلية من علمائها، ثم ما لبث ابن الصباح ان ادى يمين الولاء للدولة الفاطمية ودعوتها امام داعٍ اسماعيلى نائب عن عبد الملك بن عطاش كبير الدعاة الاسماعيليين حينئذ في غرب ايران والعراق، وفى عام 464هـ/1072م وصل عبد الملك بن عطاش لمدينة الري، فلقيه حسن الصباح وقد وافق ابن عطاش على انضمام الصباح للدعوة الاسماعيلية، وحدد له مهمة معينة في جسم هذه الدعوة/الحركة، ثم طُلب منه السفر الى مصر لكي يسجل اسمه في بلاط الخليفه الفاطمي بالقاهرة[4].
وخرج الحسن بناء على ذلك الى مدينة اصفهان في سنة 467هـ/1075م فاقام بها سنتين يشتغل بالدعوة وكيلا لابن العطاش، ثم خرج منها الى مصر التي وصلها في الثلاثين من اغسطس سنة 471هـ/1079م، وقد استقبله بها داعي الدعاة “ابو داؤود” استقبالا حافلا شاركه فيه جماعة من النبلاء والاعيان الفاطميين، وسرعان ما شمله المستنصر برضاه، واغدق عليه، وامره ان يدعو الناس الى امامته، فقال له الحسن “فمن الامام بعدك؟ فاشار الى ابنه نزار”[5].
ومنذ تلك اللحظة دان ابن الصباح بالولاء لنزار بن المستنصر، وان كان قد اقام بالقاهرة ثمانية عشر شهرا كاملا كثرت فيها دسائس “المستعلي” واعوانه، وخاصة قائد الجيش بدر الجمالي، فاضطر الى مغادرة مصر وركب السفينة من الاسكندرية في شهر رجب سنة 472هـ/1080م، ووصل في النهاية -بعد رحلة خطرة كاد يغرق فيها امام شواطئ الشام- الى مدينة اصفهان في ذي الحجة سنة 473هـ/1081م.
ومنذ ذلك الوقت اخذ ابن الصباح يدعو لنزار (اكبر اولاد الخليفة المستنصر الفاطمي) فشملت دعوته يزد وكرمان وطبرستان ودامغان وولايات اخرى من ايران لم يدخل في عدادها مدينة الري؛ لانه كان يتجنبها اتقاء لشر الوزير نظام الملك الطوسي الذي كان يتحرق الى القبض عليه، كما دلت على ذلك اوامره التي اصدرها[6].
دولة الاسماعيلية بايران!
تنقل الصباح داخل ايران مستكشفا لها لمدة تسع سنوات، ثم قرر نشر الدعوة منطلقًا من اقليم الديلم ومازندران، كما كان يتفادى المدن في تنقلاته ودعوته، ويفضل ان ينتقل عبر الصحراء، حتى استقر في منطقة دامغان[7] وحوّلها الى قاعدة للدعوة الاسماعيلية النزارية، يبعث منها الدعاة الى المناطق الجبلية لجذب الناس الى هذه الدعوة، واستمر على ذلك
لمدة 3 سنوات حتى اصبح خطرًا داهمًا على الوجود السلجوقي في ايران، وقد اتخذ الوزير نظام الملك الطوسي قرارًا باعتقال ابن الصباح؛ لكنه تمكن من الهرب الى صوب قزوين[8].
لم يكن كل هم حسن الصباح في تنقلاته نشر دعوته وكسب الانصار فحسب؛ بل ايضاً للعثور على مكان مناسب يحميه من مطاردات السلاجقة الدائمة، ويتمكن من خلاله من جعله قاعدة مستقرة وامنة لنشر دعاته في ايران؛ لذا عزف الصباح عن المدن لانكشافها وسيطرة السلاجقة عليها؛ وسرعان ما وقع على بُغيته التي وجدها في قلعة الموت المنيعة.
وهذه القلعة كانت حصنًا قديمًا فوق صخرة عالية في منطقة وعرة وسط الجبال على ارتفاع ستة الاف متر او يزيد، وقد بُنيت بطريقة شديدة الاحكام، فليس لها الا طريق واحد فقط للوصول اليها؛ مما يصعّب على الغزاة اقتحام هذه الطريق الوعرة، ولم يعرف على وجه الدقة اول من بنى هذه القلعة، ويقال ان من بناها هو احد ملوك الديلم القدماء واسماها (الوه اموت) ومعناها عش النسر، ثم جددها احد حكّام المنطقة المحليين وكان علويا سنة 246هـ/860م، وبقيت في ايدي عقبهِ حتى استيلاء الاسماعيلية عليها بقيادة ابن الصباح في 7 رجب سنة 483هـ/1090م.
وقد روى ابن الاثير قصة دخولهم هذه القلعة قائلاً “ان الحسن الصباح كان يطوف على الاقوام يُضلّهم فلما راى قلعة الَموت واختبر اهل تلك النواحي، اقام عندهم وطمع في اغوائهم ودعاهم في السر واظهر الزهد ولبس المسح فتبعه اكثرهم، والعلوي صاحب القلعة حسن الظن فيه يجلس اليه يتبرك به، فلما احكمَ الحسنُ امره دخل يومًا على العلويّ بالقلعة فقال له ابن الصباح‏: اخرج من هذه القلعة فتبسّم العلوي وظنه يمزح فامر ابن الصباح بعض اصحابه باخراج العلوي فاخرجوه الى دامغان واعطاه ماله وملَك القلعة”[9].
“اُطلق عليهم لقب الحشاشين لانهم كانوا يختفون وسط الحشائش لاغتيال معارضيهم، وقيل لشربهم “الحشيش” قُبيل عمليات الاغتيال حتى لا يتراجعوا عنها وسط تاثير هذه المادة المخدّرة.”
ظل الحسن الصبّاح في هذه القلعة الحصينة بقية حياته، فلم يخرج منها طوال 35 عامًا حتى وفاته، وكان جل وقته يقضيه في القراءة والمطالعة، والتخطيط لنشر المذهب الباطني الاسماعيلي النزاري، ومراسلة الدعاة وتجهيز الخطط، وكان همّه الاول والدائم كسب الانصار والمؤيدين الجدد، والسيطرة على القلاع والبقاع الجديدة التي تسهم -هي الاخرى- في توسيع النفوذ الباطني في تلك النواحي.
لذلك استمر بارسال الدعاة الى القرى المحيطة برودبار المجاورة، كما ارسل مليشياته للسيطرة على القلاع المحيطة تارة عن طريق الخدع الدعائية، وتارة بالاساليب الدموية والمجازر، وحين تمكن الحسن الصباح من الاستيلاء على قلعة لمبسر عن طريق هجمات مليشياته عليها ما بين عامي 489هـ و495هـ/1096- 1102م بقيادة عامله “كيا بزرجميد” والتي دام حكمه لها عشرين عاما، وقد كانت قلعة استراتيجية مهمة وقائمة على صخرة مدورة تطل على منطقة شاه رود بوسط ايران؛ تمكن من الاستيلاء على كافة منطقة رودبار في شمال ايران.
وفي سنة 484هـ/1091م بعث ابن الصباح دعاته الى منطقة قوهستان الجبليه القريبة من قلعة الالموت، ومن ثم استطاع دعوة سكان تلك المنطقة عن طريق استغلال حالة التذمر التي كانوا عليها ضد حكم السلاجقة فصارت تابعة للاسماعيليين[10].
في المقابل لم يتحمل اهل منطقة ابهر القريبة هجمات الاسماعلية فارسلوا استغاثة الى السلطان السلجوقي بِركيارق بن ملك شاه كانت السبب في ارساله فرقة عسكرية لمحاصرتها واستمر الحصار ثمانية اشهر، وتمكّن من الاستيلاء عليها سنة 489هـ/1096م وقتل من كان بها من الاسماعلية؛ لذا كان العداء مستحكمًا بين السلاجقة والاسماعيلية[11].
دموية الحشاشين
لُقب الاسماعيلية بالباطنية؛ “لدعواهم ان لظواهر القران والاخبار بواطن تجري في الظواهر مجرى اللب من القشر… وهي عند العقلاء والاذكياء رموز واشارات الى حقائق معيّنة”[12]، وان من يملك فهم هذه الحقائق والاشارات هم الذين سقط عنهم التكليف. اما لقبهم “الحشّاشين” او “الحشّاشية”؛ فقد اُطلق عليهم هذا اللقب لانهم كانوا يختفون وسط الحشائش لاغتيال معارضيهم، وقيل لشربهم “الحشيش” قُبيل عمليات الاغتيال لمعارضيهم حتى لا يتراجعوا عنها وسط تاثير هذه المادة المخدّرة[13].
لقد كانت فرقة الحشاشين شديدة الدموية والجراة في مواجهة الخصوم، وكان السنة والصليبيون على السواء يخافون من غيلتهم ودمويتهم، ومهاراتهم غير المتوقعة في الاجهاز والقتل، ففي تقرير ارسله احد المبعوثين للامبراطور الالماني فردريك بربروسا سنة 570هـ/1175م قال “لهم سيد يلقي اشد الرعب في قلوب كل الامراء العرب القريبين والبعيدين على السواء، وكذلك يخشاه كل الحكام المسيحيين المجاورين لهم؛ لان من عادته ان يقتلهم بطريقة تدعو للدهشة”[14]!
وامام هذا الخطر الداهم للوجود الاسماعيلي في ايران، وهي منطقة نفوذ ووجود سلجوقي سني بالاساس، كان العام 485هـ/1092م هو البداية الحقيقية لمواجهة السلاجقة للحسن الصباح؛ حيث بعث السلطان ملكشاه السلجوقي حملتين واحدة على قلعة الموت والثانية على قوهستان القريبة؛ لكن الفرق العسكرية الاسماعيلية المدرّبة تصدت للسلاجقة، وبمساعدة من الاهالي المتعاطفين معهم في رودبار وقزوين اضطر السلاجقة الى الانسحاب، خاصة بعد وفاة السلطان ملكشاه في شوال من العام ذاته.
بل استطاع الحسن الصباح ان يضرب ضربته الكبرى باغتيال الوزير الشهير نظام الملك الطوسي بعد عدة اسابيع فقط من وفاة السلطان ملكشاه من نفس العام 485هـ/1092م، وقد كان اغتيال نظام الملك من اوائل عمليات الاغتيال الكبرى التي قام بها الحشاشون، وهي فرقة فدائية كانت راس حربة الاسماعيلية في الانتقام من خصومهم؛ بل كانت بداية لسلسلة طويلة من الاغتيالات التي قاموا بها ضد ملوك وامراء وقادة جيوش ورجال دين، استمرت حتى احتل هولاكو قلعة الموت وقضى على شوكتهم في الشرق، والتي استمرت حوالي القرنين من الزمان[15].
توفي ابن الصباح عام 518هـ/1124م في الالَموت، واختلفت المصادر عن مصير ذريته فبعض المصادر تذكر انه قتل اولاده في حياته، الا ان جل المصادر التاريخية واغلبها اجمعت على انه مات من غير تلك الجناية، وقد وخلفه بزرك اميد (برزجميد) في زعامة الطائفة، وكان قد كلف اخرين بشؤون الدعوة والادارة وقيادة القوات الاسماعيلية قُبيل وفاته، وطلب منهم التعاون والتازر حتى ظهور الامام المستتر بحسب العقيدة الاسماعيلية[16].
وبالرغم من وفاة ابن الصباح فقد استمرت الصراعات المسلحة بين الاسماعيلية الباطنية والسلاجقة وتوسعت مناطقهم، وتمكن الحشاشون من الاستيلاء على قلاع جديدة؛ لكن السلاجقة استطاعوا احتواء خطرهم سنة 500هـ/1107م عندما استولى السلطان محمد السلجوقي على قلعة شاه دُز بالقرب من اصفهان، وقتل عددًا كبيرًا منهم من ضمنهم ابن العطاش كبير دعاتهم في ايران وولده، لكن بقي خطرهم قائمًا بوجود قلعة الالموت الحصينة.
باطنية الشام
كان اول ظهور للحشّاشين الاسماعيلية في بلاد الشام سنة 498هـ/1105م عندما ارسل الحسن الصباح داعيته لنشر المذهب، ولافساد علاقة الاخوين (دقّاق حاكم دمشق ورضوان حاكم حلب ابني تُتش بن الب ارسلان السلجوقي)، فتحالف الداعية الاسماعيلي مع رضوان واستماله الى المذهب الاسماعيلي، واقام دارا للدعوة الاسماعيلية في حلب، ولكن موت رضوان جعل خلفه الب ارسلان الاخرس ينقلب على الاسماعيلية في تلك المنطقة؛ بل تمكن من قتل رئيسهم ابي طاهر الصائغ، ولم يجد البقية الا الهرب والنجاة.
على ان نفوذهم اشتد ايام داعيتهم بهرام في دمشق وما جاورها في الربع الاول من القرن السادس الهجري، لكن غضب اهل دمشق على هذه الدعوة اضطر بهرام للهرب مع اتباعه، فتمكن من الاستيلاء على قلعة بانياس غربي دمشق، ولم يلبث الا قليلاً حتى بدا خطره ماثلاً من جديد على هذه المنطقة، وكان الاتابك طغتكين -الذي وقف بجوارهم بادئ الامر- قد افاق على صدمة هذا الخطرالقريب منه شخصيًا، غير انه توفي قبل مواجهتهم، وقد خلفه ابنه تاجُ الملوك بوري على حكم دمشق، وفي عهده افرط وزيره المزدقاني الموالي للباطنية في حماية رفاقه، حتى انه عرض على الصليبيين تسليمهم دمشق غيلة مقابل اعطائه هو والباطنيين مدينة صُور بديلا عنها، وحدّد الطرفان احد ايام الجُمع لتنفيذ ذلك الاتفاق، وقت انشغال اهل دمشق بصلاة الجمعة[17].
لكن تم كشف المؤامرة قبل موعدها فقتَل الامير بوري وزيره الخائن، واصدر قراره بتعقب الباطنية في كافة بلاده، وهو الامر الذي تحمس له العامة قبل القادة، ولم يات منتصف رمضان سنة 523هـ/1129م حتى قُتل ستة الاف باطني، وعند ذلك استنجد داعيتهم اسماعيل العجمي بالصليبيين الذين كانوا يتمركزون في الساحل الشامي، طالبًا منهم الحماية واللجوء مقابل تسليمهم قلعة بانياس، وقد كانت هذه الاحداث بمثابة كلمة النهاية للوجود الباطني في الشام[18].
نهاية الباطنية بايران
على الرغم من الاجتياح المغولي الاول للمشرق الاسلامي منذ العام 616هـ/1219م، واستيلاء هؤلاء المغول على ايران من جملة ما استولوا عليه؛ فان الاسماعيلية النزارية “الباطنية الحشاشية” استطاعوا ان يوثّقوا العلاقة بهؤلاء المغول في بادئ الامر؛ بل ورد في بعض المصادر ان الاسماعيلية هم الذين دعوا جنكيزخان الى القضاء على جلال الدين خوارزم شاه سلطان الدولة الخوارزمية التي ورثت دولة السلاجقة في تلك المنطقة؛ لما لحقهم على يديه من العنت والتضييق ومحاولات التصفية.
غير انهم راوا ان مطامع المغول لا تتوقف عند حد معين، وان فتوحاتهم وتوسعهم لا يزال مستمرًا، فخافوا من هذا الخطر الداهم، وسعوا في طلب العون من الصليبيين الذين وثّقوا علاقتهم معهم منذ بداية الحروب الصليبية ضد السلاجقة والزنكيين ثم الايوبيين، ولم يقف الامر عند هذا الحد؛ بل انهم حاولوا عقد تحالف مع جميع الامارات والقوى المجاورة لهم، بما فيهم اعداء الامس لصد خطر المغول القريب، لكن كان السيف قد سبق العذل[19]!
على الجانب الاخر ثمة روايات اخرى تؤكد ان عموم المسلمين الذين كانوا يخضعون في مناطق قزوين والري واصفهان وغيرها لحكم الباطنية الحشاشية، ارسلوا يطلبون النجدة من المغول للقضاء على هؤلاء الذين اذاقوهم الويلات، ولقد وقف المغول على حقيقة العلاقات بين الاسماعيلية وعموم الناس في تلك المناطق، وبالرغم من ايفاد الباطنية بعض سفرائهم الى “قراقورم” عاصمة المغول في منغوليا، لمباركة كيوك حفيد جنكيز خان على اختياره خانا جديدًا لامبراطورية المغول سنة 649هـ/1252م، فانهم لم يلقوا المعاملة اللائقة من الجانب المغولي[20].
وعبثًا حاول ركن الدين خُورشاه اخر زعماء الاسماعيلية في ايران تجنب الغزو المغولي الثاني -الذي قضى على الخلافة العباسية سنة 656هـ/1258م- من خلال الاعتصام في قلعة ميمون الحصينة؛ لكن القائد العسكري المغولي الاشهر هُولاكو ارسل اليه يطلب منه القدوم والخضوع، وهدده بالانتقام والقتل ان رفض هذا الامر، ولم يجد خورشاه امام القوة المغولية الا الاذعان والانقياد وذلك في شوال سنة 654هـ/1256م، ثم لم تلبث ان استسلمت قلعة الموت في ذي القعدة من نفس العام بعد قتال قصير لم يطل من حاميتها[21].
وبعد ان ضمن هولاكو حياة خورشاه -او هكذا بدا له- اراد ركن الدين التوجه الى مونكوخان زعيم المغول في قراقورم، لعله يحصل على معاملة لائقة او ضمانة لحياته، لكن الزعيم المغولي رفض هذ اللقاء؛ واذ لم يبقَ مِن القلاع الاسماعيلية الا اثنتان لم تستسلما للمغول بعد؛ تقرّر الاستعانة بخورشاه في تدبير امر اذعانهما وهو ما تم بالفعل؛ وفي اثناء عودته بعد اخضاع كافة بلاد الحشاشين الى المغول صدر الامر بقتله مع جميع رفاقه.
ثم صدرت الاوامر لهولاكو بالتخلص نهائيا من جميع الحشاشين، فقتلت اعداد كبيرة من اقارب خورشاه، ثم جمع عدد كبير من الاسماعيلية بغرض الاحصاء لكن هؤلاء ايضًا تم قتلهم جميعا، ولم ينجُ الا من اعتصم بجبال فارس، وهكذا تم القضاء على الاسماعيلية النزارية بضربة نهائية قوية بعد وجود في ايران دام ما يقارب القرن والنصف من الزمن[22].
ولا يزال بقايا الاسماعيلية النزارية اليوم في كثير من دول العالم، ولعل من اهمها الطائفة التي يُطلق عليها الاغاخانية، ويُعد امام هذه الطائفة واحدًا من اغنى اغنياء العالم؛ نظرًا لما يتحصّل عليه من اتباع هذه الطائفة التي تبلغ نحو العشرة ملايين شخص في ارجاء العالم[23].الحشّاشون.. من الظهور الى الاندثار

Scroll to Top