اخبار اليوم الصحيفة, “مغامرة رابحة”.. شركات اخبار اليوم الصحيفة, “مغامرة رابحة”.. شركات
“من المستحيـل ان يكون هنـاك “تقدم” بدون مبدا “التغييـر”. هؤلاء الذين لا يغيّــرون افكـارهم لا يستطيعـون تغييـر اي شيء”
(جورج برنارد شـو) (1)
قد يبدو الاقتبـاس حكمة برنارديّـة اخرى موجّهـة للافراد بشكل اساسي، لكنها تصلح قطـعا -وربما بشكل اكبر- عند تطبيقها على مستوى المجموعات الذي يعتبر ابرز نمـاذجها العصـرية هو نموذج “المؤسسة”. تقدم المؤسسة وتطوّرها هو النتيجـة النهائية لسلسلة من التغييـرات التي تدفع العجلة الى الامام. لا يوجد “رتابة” تؤدي الى نجاح كبير، ولكن دائما توجد “تغييـرات” تؤدي الى نتائج ثورية.
ومع ذلك، وفيما يخص عالم الاعمال، فمفهـوم “التغييـر” نفسه يحمل في طيـاته عدة اوجه ومعاني متباينة. فالتغييـر في مؤسسة ما قد يعني التغييـر في وسائل ادارتها، والتغيير في مؤسسة اخرى قد يعني التغيير في منهجيـات عملياتها، والتغيير في مؤسسة ثالثة قد يعني تطوير المنتجات والخدمات، والتغيير في مؤسسة رابعة يعني منهجية احلال وتبديل نشطة تقوم دائما على تحديث ما هو قديم، وتنشيط ما هو جديد لمجاراة السوق من ناحية، وتحقيق مكـانة متقدمة في المنافسة من ناحية اخرى.
ويبقى “التغييـر الشامل” واحدا من اخطر انواع التغيير واكثرها رهبة بالنسبة للافراد والمؤسسات على حد سواء. ان يقرر شخص ما يعمل في وظيفة ثابتة لفتـرة طويلة ان يغيّـر مجاله الوظيفي ويقتحم مجالا اخر تماما من نقطة الصفر، هو حتما ليس امرا سهلا. ويزداد الامر صعوبة عندما تقـرر مؤسسة قرارا من هذا النوع، ان تتخلى عن المجال الذي عملت فيه لسنوات طويلة وحجزت مكانا معروفا في اسواقه، وتنتقـل الى سوق مختلف كليا عن السوق الذي كوّنت علامتها التجارية في رحابه. هذا النوع من التغييـر الذي يمكن ان يطلق عليه “التغيير الثوري” الذي اما يقود الى نتائج عظيمة، واما يؤدي الى انهيارات ماسـاوية.
متى يقود التغييـر الشامل الى نتائج عظيمة؟ عندما يكون مبنيا على دراسة عميقة للحقائق التي يفرضها السوق، وعندما يكـون مدفوعا بادارات لديها القدرة على اتخاذ قرارات قد تحمل مخاطـر عالية، تعتبـر الثمـن الذي يجب دفعـه في سبيل الوصول الى النتائج الثـورية والتحول من شركـة “عادية” الى شركة عمـلاقة، ولو بعد حين.
ثلاثة نجوم.. من متجر معكـرونة الى امبـراطورية عالمية
في نهاية عقد الثلاثينيات، وبينما العالم كله مشغول بالحرب العالمية الثانية، قرر شخص بسيط في كوريا الجنوبية اسمه “بيونغ تشول لي” ان يُطلق متجرا لبيع الارز والسكر والمعكـرونة. نمت تجارته، فتحولت لاحقا الى شركة صغيرة لتصدير الاسماك المجففة والخضروات والفاكهـة من كوريا الى الصين وبعض الدول الاسيوية. ربما لم يكن “بيونغ” نفسه يتخيل لحظة تاسيسه لشركته الصغيـرة انها سوف تكون من اكبر اسماء العمـالقة في العالم في نهاية القـرن العشرين، وبداية القـرن الحادي والعشـرين.
لان هذه الشركة كان اسمها “النجوم الثـلاثة”، او “سامسونغ” باللغـة الكورية. من الصعب لابناء الجيل الحالي ان يصدقوا ان شركة التكنولوجيا العمـلاقة التي تعتبر اساسا اقتصاديا من اساسيات كوريا الجنـوبية بدات كمتجـر لبيع المعكـرونة والارز، لكنها الحقيقة المثيـرة التي تعتبر من ابرز امثـلة التحوّل الكامل في مسار الشركـات على الاطلاق.
على مدار الاربعينيات والخمسينيات وبدايات الستينيات استطـاعت سامسونغ الصمـود -رغم المشكلات السياسية والامنية في شبه الجزيرة الكورية في تلك الفتـرة العصيبة- في مجالات متعددة اغلبها غذائي، وكانت شركة عادية تحقق ارباحا عادية تستهدف زبائن عاديين. الى ان جاء وقت التغيير الثـوري الاول داخل سامسونغ في نهاية الستينيات، عندما قررت الشركة واحدا من اخطـر قراراتها على الاطلاق: تغيير المجال بشكل كامل، وترك ارث من ثلاثين عاما في تجارة الاغذية المختلفة، والدخول الى عالم الالكتـرونيات بعد ان بدا في تحقيق نمو كبير حول العالم، خصوصا بواسطة الجـار الياباني
كانت اياما عصيبة بلا شك. دخول الشركة الكـورية الى مجال جديد تماما مختلف عما اعتادته عبر 3 عقود، ولم يكن لديها ادنى خبـرة مسبقة في تصنيع الاجهزة الالكترونية، كانت مغامـرة تعتبر من ابرز مغامرات عالم الاعمال على الاطلاق. لكن الشركة كانت تؤصّل لمنهج “التغيير الكامل” في تلك الفتـرة بجراة كبيرة، نتج عنها صناعة اول تلفزيـون سامسونغ “ابيض واسود” بالتعاون مع احدى الشركات اليابانية.
وبدات العجلة في الدوران، على مدار عقدي السبعينيات والثمانينيات بدات منتجات سامسونغ الالكترونية تتوالى وعلامتها التجارية تنتشر كواحدة من الشركات الواعدة التي تصل الى اسيا والشرق الاوسط وافريقيا واوروبا والعالم، بعد ان قامت ايضا بتوسيع اعمالها في عالم الالكترونيات بصناعة الاجهزة الدقيقة واشباه الموصلات. كانت شركة واعدة تنتج منتجات عادية، ولكنها لم تكن ابدا شركة رائدة او مبدعة او لافتة للنظـر بشكل كبير.
بقدوم التسعينيات جاءت الى الشركة ادارة جديدة قامت بالتغيير الثـوري الثاني -والاهم على مدار تاريخ الشركة-، حيث رفعت شعـار: الجودة اولا. وقامت الادارة بالتركيز على صناعة الرقائق الالكترونية ووقف تصنيع المنتجات المتوسطة، والتركيز بشكل كاسح على تصنيع المنتجات ذات الجودة العالية فقط، وتدمير كافة المنتجات ضعيفة الجودة في المخازن. كان التصريح الاشهـر للمدير التنفيذي للشركة في تلك الفتـرة: “غيـّروا كل شيء ما عدا زوجـاتكم وابنـائكم!”
ربما كانت هذه اللحظة هي لحظة صعـود سامسونغ من مرحلة اللاعب التقليدي في سوق تقليدي ينتج منتجات تقليدية، الى مرحلة الصعـود في الاسواق العالمية التي تهتم بمنتجات عالية الجودة، وبدء ضخ اموال طائلة في ادارات البحث والتطوير -حتى في ظل الازمات الاقتصادية-، ثم دخـولها الى عالم الاجهزة الذكيـة الذي برعت فيه بشكل كبير ما زلنا نعيش في ذروته حتى الان.
الان سامسونغ تعتبر من اكبر الامبراطوريات العالمية متعددة الاتجاهات، حيث تعمل في المجالات التقنية والصناعات الثقيلة والسفن والعقارات، لكن شهـرتها الاكبر مرتبطة دائما بمجال تصنيع الاجهزة الذكية التي تنتشر في كل دول العالم بلا استثناء. بدا كل شيء بمتجـر لبيـع “المعكـرونة والارز”، وانتهى بامبـراطورية عالمية تفوق قيمتها السوقية اقتصاديات بعض الدول. (2، 3، 10)
مصنع الورق الذي غيّـر عالم الاتصـالات!
على الرغم ان حال نوكيـا حاليا يدعو للرثاء في السنوات الاخيرة، لدرجة الاستحواذ عليها بواسط مايكروسوفت بمبلغ 7 مليار دولار فقط في اواخر عام 2013 (4)، بعد ان كانت ملء السمع والبصـر في نهاية التسعينيات والنصف الاول من اول عقد في الالفية الجديدة، فان شركة عريقة كتلك ضاربة في الاصالة كواحدة من اعرق الشركات الاوروبية التي تاسست في القرن التاسع عشر والتي شهد تاريخها تقلبات كبيــرة ما بين نجاح وفشل. هذا التاريخ قد يحمل في طيـاته ما ينبّئ بعـودة نوكيا مرة اخرى في المستقبل القريب او البعيد، كما ينبعث المارد من تحت الرماد.
في عام 1865 تاسست شركة نوكيـا في دولة فنلندا على شكل مصنع صغير لصنـاعة الورق ومعالجة الاخشاب، تطورت الى مجال صنـاعة المطـاط. كانت الشركة مستقـرة طوال النصف الثاني من القـرن التاسع عشر على صناعة الورق والمطـاط، حتى بدات ادارتها -بصعـوبة- في التوجه الى الصناعات الحديثة التي كانت تبرز وقتئذ، وابرزها صنـاعة توليد الكهرباء. في عام 1902 استطـاعت الشركة الدخول في هذا المجال بعد صعوبة بالغة في اقناع مساهمي الشركة في تغيير النشاط.
وعلى مدار النصف الاول من القرن العشـرين بالكامل استطاعت ان تدخل في مجال صناعة الكابلات الكهربائية والتليغرافات وكابلات الهواتف، ومرت بالعديد من الازمات الطاحنة التي كانت تؤدي الى افلاسها، واضطـرتها الى دمج مصانعها عدة مرات للنجاة من شبح الانهيار، خصوصا مع ازمات الحربين العالميتين الاولى والثانية. لكن نوكيا استطاعت الصمـود في هذه المجالات بشكل راسخ، حتى اواخر الستينيات التي شهدت نقلة تغيير شاملة اخرى للشركة.
في بدايات السبعينيات بدات نوكيا -بناء على ارثها الطويل في تصنيع الاجهزة المختلفة- في تحقيق اختراقات تقنية مدهشة في صناعة الاجهزة الكهربائية والهواتف التقليدية التي جعلتها اكثر تطورا، واقتحام سوق صناعة التلفزيونات التي كانت متوسطة الجودة وسريعة الانتشار في دول الاتحاد السوفييتي واوروبا. ومع تراجع الاتحاد السوفيتي والدخول في ازمات اقتصادية بدات الشركة تكثّف تركيزها بشكل اكبر على صناعة الهواتف توجت في مطلع التسعينيات باطـلاق هواتفها النقالة التي انتشرت بشكل هائل حول العالم كله في زمن قياسي.
ما بين عام 1998 حتى 2012 كانت نوكيـا الشركة الاولى عالميا في بيع الهواتف النقـالة بشكل اجمالي يصل الى 83 مليون جهاز هاتف، تجاوزته سامسونغ بدءا من عام 2012. بدا التراجع الكبيـر لنوكيا مع ظهـور الهواتف الذكيـة بتدشين جهاز ابل “ايفون” في عام 2007 ثم دخول الاندرويد على خط المنافسة. ومع ذلك لم تستطع ان تجاري سباق الهواتف الذكية الجديد، الامر الذي ادى الى تراجعها بشكل حاد في السنوات التالية، وتخلفها عن المنافسة الى درجة الاستحواذ عليها بواسطة مايكـروسوفت في صفقة متواضعة. (5، 6)
بدا كل شيء بمصنع للورق والاخشاب في منتصف القـرن التاسع عشر، ثم امبراطورية مترامية الاطراف في نهاية القرن العشرين، ثم عودة للانكمـاش في مطلع القـرن الحادي والعشرين. ما الذي يحمله المستقبل؟
ثري ام.. عندما لا يقودك التعدين الى شيء
تعتبر الان شركة “ثري ام” (3M) واحدة من اهم واعرق الشركات الاميـركية على الاطلاق. تاسست في عام 1902، وتحقق حاليا مبيعات توازي 30 مليار دولار سنويا، ويعمل لديها اكثر من 90 الف موظف حول العالم لبيـع اكثر من 55 الف منتج، تتراوح ما بين ملصقات وطلاءات ومنتجات عناية بالسيارات ومنتجات حماية شخصية وحماية من النيران ومنتجات جلدية وطبية، وحتى مواد كهربائية مختلفة. عدد هائل من المنتجات تقوم الشركة بانتـاجها عبر اذرعها العاملة في 65 دولة حول العالم، ترجع جميعها الى مقـرها الرئيس القابع في ولاية مينيسوتا الاميـركية الذي يضم اكثر من 50 مبنى شاهق موزعين على مساحة تزيد على 450 فدانا.
امبـراطورية عمـلاقة في تصنيـع منتجات مختلفة هي شركة “ثري ام” (3M)، حيث تصل منتجاتها الى اكثر من 200 دولة حول العالم، ولديها 132 مصنعا. وتحتل الشركة مكانا دائما في قوائم افضـل الشركات العالمية باعتبارها من اكثر الشركات التي يزهى بها الاميـركيون في تنشيط الابداع والابتكار في اروقتها على مدار عقود طويلة، وهو كلمة السر في النجاح الكبير الذي حققته الشركة في المجال الصنـاعي، حيث تعتبـر “ماكينة طفـرات” تنتج عددا لا ينتهي من المنتجات المبتكرة.
كل هذا الزخم الهائل لـ “ثـري ام” لم يكن مُتخيّلا اصلا عندما قرر الاصدقاء الخمسة تاسيسها في عام 1902 تحت اسم “شركة مينيسوتا للتعدين والتصنيـع” (Minnesota Mining and Manufacturing Company) التي تم اختصـارها الى “3M”. الحقيقة ان الشركة ابصـرت النور كشركة فاشلة بائسة تماما منذ اولى مراحل تاسيسها، وكان هدف تاسيسها هو العمل على تعدين اوكسيد الالومونيوم “الكوروند” من احد المناجم، لكن المشروع فشل تماما. تنازل بعض المؤسسين عن حصتهم، بينما بقي بعضـهم الاخر يحاول باستمـاتة ان يحمي المشـروع من الانهيار عبر الدخول في مجالات اخرى.
تدرّج شعــار شركة” ثري ام” على مدار القــرن العشــرين، من عام 1906 حتى الشعار الحالي (مواقع التواصل)
كان اقتراح احدهم ان تغير “ثري ام” نشـاطها التعديني بالكامل وتتجه الى تصنيع “الصنفـرة” وعجلات الطحن. وبذلك، وبسبب الياس اولا وليس بسبب التخطيط الاستراتيجي الدقيق، تخلّت “ثري ام” عن عمل المناجم، وانتقلت بشكل كامل الى صناعة الصنفرة وتصنيع مواد الكحت والكشط. وكان هذا التغيير الشامل هو سبب تاسيس امبـراطورية “ثري ام” (3M) على مدار اكثر من قـرن.
على مدار عقود بدات الشركة في تطوير منتجات بطابع ابتكاري مختلف عما هو سائد في الاسواق، واحتلت المقدمة بين الشركات الاميـركية خصوصا في مجال البحث والتطوير وانتاج الاف المنتجات في عشرات المجالات بعيدا عن مجال التعدين الذي اُنشئت اصلا بهدف العمل فيه، لتتحول الى واحدة من اكبر الشركات الاميـركية العمـلاقة متعددة الصنـاعات، باجمالي اصول 33 مليـار دولار تقريبا. (7، 8، 9)
اخيرا، ربما المعنى الاساسي من هذه النمـاذج يتجلى في ضرورة ان يضع رائد الاعمال فكـرة “احتمالية” تغيير نشاط العمـل في الحسبان، باعتبارها احد الحلول البديلة لتعثر الشركة في احد المجالات، او باعتبارها خيارا حتميا يجب اتخاذه لتحقيق نتائج ثورية مميزة في مجال اخر غير المجال الاساسي الذي اُنشئت من اجله الشركة، وذلك بعد الدراسات المستفيضة التي تسبق هذا التحوّل. التحوّل الذي لا يمكن وصفه الا بـ “الصعب” دائما و”الضـروري” احيانا.“مغامرة رابحة”.. شركات جازفت بتغيير مجالها فابهرت العالم