اخبار اليوم الصحيفة, “فتنة شنجول”.. الاندلس اخبار اليوم الصحيفة, “فتنة شنجول”.. الاندلس
كان الخليفة الحكَم المستنصر بن عبد الرحمن الناصر (350 – 366هـ/961- 977م) اخر عظيم اموي في الاندلس على الحقيقة، وان جاء بعده امويون ضعفاء. لقد انجب الحكمُ ولدين، هما عبد الرحمن الذي مات طفلاً، وهشام الذي اضطر الحكَم الى اعلانه وليا للعرش قُبيل وفاته سنة 365هـ، حين نزل به مرض الموت منذ عام 364هـ، وما لبث المستنصر ان وفاته المنية سنة (366هـ/976هـ) عن عُمر ناهز الرابعة والستين عامًا.
الحاجب المنصور بن ابي عامر
كان هشام المؤيد بن المستنصر في الثانية عشرة من عمره حين ارتقى الى سدة العرش، وكانت بجواره امه صبح البشكنجية وصية على ولدها الخليفة القاصر، على ان القوة الحقيقية كانت بيد رجلين، الاول جعفر بن عثمان المصحفي الحاجب، وقائد الشرطة محمد بن ابي عامر الذي كان على صلة وثيقة بصبح حين كان وكيلا لاعمال واملاك ولدها هشام الثاني المؤيّد. واثر تنافس محموم بين الرجلين، تمكن محمد بن ابي عامر من استصدار مرسوم من الخليفة القاصر بمساعدة من امه، يامر فيه بعزل المصحفي وسجنه سنة 371هـ، وهو ما تم له، ثم امر ابن ابي عامر بعدما استتب له الامر، باقصاء صبح حليفته السابقة، والحجر على ولدها هشام المؤيّد، ولُقب بالمنصور، ودُعي له على المنابر[1]، وبهذا اطلت الدولة العامرية براسها في الاندلس، منذ تلك اللحظة ولمدة ربع قرن قادم بوصاية على الامويين تشبه ما قام به البويهيون والسلاجقة في المشرق على بني العباس.
تمثال للحاجب المنصور بن ابي عامر الذي لم يهزم قط (327هـ/938م – 392هـ/1002) (مواقع التواصل)
تمكّن المنصور من قيادة الاندلس ببراعة على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية، واتسعت غزواته وفتوحاته في الشمال، حتى انه حين وفاته قد جمع غبار تلك المعارك التي بلغت اكثر من خمسين غزوة واوصى ان تنثر على كفنه.
خلف المظفّرُ عبدُ الملك بن محمد بن ابي عامر اباه في الحجابة في رمضان سنة 392هـ، وهي بمثابة رئاسة الحكومة والدولة على الحقيقة مع وجود الخليفة الضعيف المحجور عليه هشام المؤيّد بن الحكم، الذي اقرّه على ما كان عليه والده المنصور، ولقد شابه المظفر عبد الملك اباه في اليقظة والذكاء والحنكة والمهارات السياسية والعسكرية، غير انه كان اقل منه في المعرفة والعلم، وسار على درب والده في جهاد الافرنج النصارى في شمال الاندلس، فغزاهم ست غزوات في عصره القصير كُتب له فيها الظفر والنصر، لكن باغته الموت وهو ما يزال شابًا في الرابعة والثلاثين من عمره في 16 صفر سنة (399هـ/ اكتوبر (تشرين الاول) 1008م)، وقد قيل ان اخاه عبد الرحمن هو الذي دسّ له السم حسدًا وغيرة[2].
شنجول يُوقد الفتنة!
كان عبد الرحمن الذي لقّب نفسه الناصرَ قد اطلق عليه اهل قُرطبة “شنجول”؛ ذلك انه لم يكن اخا شقيقا للمظفر عبد الملك الذي كانت امهم سلمة حرة، لكن عبد الرحمن كان حفيداً لسانشوغرسية ملك نافار، وكانت امه الاميرة النافارية حينما تزوجت المنصور قد اعتنقت الاسلام، وتسمّت باسم “عبدة”، وكان ولدها عبد الرحمن “اشبه الناس بجده” النافاري الاسباني. وكان لهذه الارومة الفرنجية الواضحة، اثرها في انصراف الناس عن محبته والعطف عليه، وكان يزيد في هذه الوحشة بين عبد الرحمن وبين الشعب، انحرافه وخلاله السيئة، فقد كان فاجرًا كثير الاستهتار والمجون، يقضي معظم وقته في الشراب واللهو[3].
“قرر عبد الرحمن التوجه صوب قرطبة مع نفر من بعض انصاره الاسبان من مقاطعة كريون في جلّيقية، ظنًا منه انه متى ما ظهر في قرطبة فان الناس سينصرونه، لكن هذا القرار كان حتفه”
لم يكن عبد الرحمن يجاهر بالعصيان، ويستهزئ بالشعارات المتبعة، ويحقر من اصحاب المكانة من الاشراف والاكابر، ويجاهر بالطغيان فقط، بل فوق ذلك ارهب الخليفة الضعيف -هشام المؤيد- واضطره الى اعلانه وليا للعهد في سابقة لم تحدث، يريد بذلك نزع الخلافة وانتقالها من بني امية الى بني عامر، وقد كان ابوه المنصور اشد منه قوة، واكثر حنكة وذكاء، قد استمر في حكم الاندلس مع وجود هشام اكثر من ثلاثين عاما، ولم يجرؤ على هذه الخطوة لعواقبها الوخيمة في نفوس الشعب الاندلسي، لكن عبد الرحمن شنجول استصدر الامر، واعلنه على عامة الناس بقرطبة في (15 ربيع الاول 399هـ/نوفمبر 1008م)، بُعيد ايام قليلة على ارتقائه للحجابة ووفاة اخيه المظفر[4]!
رات الاسرة الاموية في قرطبة ان عبد الرحمن بن المنصور العامري قد بلغ من الطيش مداه، فسعت سرًا الى تاليب الناس، وصنع التحالفات ضده، وانتهزت فرصة خروجه لغزو الممالك المسيحية في الشمال، وكانت غزوة فاشلة بكل المقاييس لخروجها في الشتاء، وعدم الاعداد الجيد لها، وكونها مجرد دعاية لشنجول، حتى اعلن احدهم وهو محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر تزعّمه لحركة العصيان والانقلاب على الحاجب عبد الرحمن “شنجول”، وبالفعل نجح الامير الاموي بمساعدة عامة الناس في حركته، فاحتل قصر الامارة في قرطبة، واذعن الحرس له، وتمكن من خلع قريبه الخليفة الضعيف -هشام المؤيد- في (17 جمادى الاخرة سنة 399هـ/ 16 فبراير 1009م)، ولُقّب بالمهدي بالله، وعين ابن عم له وليا لعهده هو سليمان بن هشام بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر، وقد عاث الناس في مدينة الزاهرة التي بناها المنصور العامري حتى استحالت خرابًا[5].
وصل الخبر الى الحاجب عبد الرحمن العامري، فبادر الى خلع نفسه من ولاية العهد والاكتفاء بالحجابة، وارسل الى اهل قرطبة بذلك بُغية التعاطف معه، لكن احدًا لم يابه له، وحاول ان ياخذ العهد على كبار رجال جيشه بنُصرته في المواجهة المرتقبة امام الامويين، لكنهم لم يفعلوا، وتخلوا عنه، حتى ان والي طُليطلة احد اشد الموالين لابيه المنصور لم يقف بجوار شنجول في هذه المحنة، وبدلاً من الفرار والتخفي، قرر عبد الرحمن التوجه صوب قرطبة مع نفر من بعض انصاره الاسبان من مقاطعة كريون في جلّيقية، ظنًا منه انه متى ما ظهر في قرطبة فان الناس سينصرونه، لكن هذا القرار كان حتفه، فما كاد يقترب من قرطبة حتى تمكن الجند الموالي للمهدي بالله الخليفة الجديد من القبض عليه وقتله[6].
خلافة المهدي الطائش
احسّ المهدي بالقوة المفرطة بعد القضاء على خصومه، وكان كما يقول اديب الاندلس ومؤرخها، لسان الدين بن الخطيب “جرار جسور، ثائر مخاطر، خليع، مداخل للصقورة والفتاك، لا يدري في اي واد يهلك”[7]، لم يكن المهدي الاموي مثل سابقيه من الامويين، مثل المستنصر وجده الاكبر الناصر، هؤلاء العظماء الذين حكموا الاندلس بالسياسة الثاقبة، وبالقوة واللين والذكاء، والنظر الى تقديرات المواقف والعواقب.
حرّض المهدي على قتل البربر، وجعل لرؤوسهم اثماناً، ففتكَ العامة بكثير منهم، ومن بينهم عدة من الزعماء، ونهبوا دورهم، واغتصبوا النساء وسبوهن، كل ذلك في مناظر مثيرة من السفك والاعتداء الغاشم (مواقع التواصل)
في تلك الاثناء، استغل المهدي وجود شبه بين موتى احد النصارى في قرطبة وبين الخليفة المخلوع هشام المؤيّد بن المستنصر، فاعلن عن وفاته ليامن عدم الانقلاب عليه، وبالفعل اقنع كبار القوم وعامة قرطبة بهذا الخبر.
حين راى المهدي ان الامور قد استقرت له، اطلق العنان لشهواته ومجونه، بصورة افقدته تاييد اقرب المُقرَّبين له وهو ولي العهد سليمان بن هشام الاموي، الامر الذي اخذ معه قرارًا بسجن ولي العهد وعددا من كبار الاسرة الاموية، وقرر تسريح سبعة الاف جندي من الجيش، ثم انه لم يكتف بهذه العداوات، فجرّ على نفسه عداوة اخرى اطم واعظم حين اعلن عداوة البربر، وكان المهدي بالله يمقتهم اشد المقت لانهم كانوا عضد المنصور ابن ابي عامر على الامويين[8].
راى بعض كبار الاسرة الاموية ان ما يفعله المهدي يضعهم جميعًا على المحك، ويُدخلهم في عداوة مباشرة مع طوائف وقبائل قرطبة وبقية الناس في الاندلس كافة، فقرر هشام بن سليمان والد ولي العهد ان يتحالف مع بقايا القادة العسكريين العامريين الصقالبة والبربر، فارسلوا الى المهدي بالله طالبين منه خلع نفسه عن العرش، والافراج عن ولي العهد سليمان بن هشام، لكن محمد المهدي بالله لم يلتفت لهم، وحين وصل الطرفان الى لحظة الصدام، كانت المواجهة التي لابد منها.
خرج محمد المهدي بالله في جموعه لمواجهة خصومه، ودار القتال بينهم على مدار يومين متواليين في قرطبة، وقد اسفرت المعركة عن هزيمة هشام وجموعه من البربر والعامريين، فاُسر هشام وابنه واخوه ابو بكر ونفر من الزعماء الاخرين، فاصدر المهدي قراره بقتلهم جميعاً. وانهالت الدهماء على دور البربر، فاعملت فيها التدمير والنهب حتى دخل الليل، وكان ذلك في اواخر (شوال 399هـ/يونيو 1009م). ودافع البربر عن انفسهم، ثم انسحب معظمهم الى ارملاط (Guadimellato) ضاحية قرطبة، ووقع القتال بقرطبة بين من تبقى منهم وبين العامة، وحرّض المهدي على قتلهم، وجعل لرؤوسهم اثماناً، ففتكَ العامة بكثير منهم، ومن بينهم عدة من الزعماء، ونهبوا دورهم، واغتصبوا النساء وسبوهن، كل ذلك في مناظر مثيرة من السفك والاعتداء الغاشم؛ واختفى كثير من زعمائهم. وتوجس المهدي من العواقب، فاصدر للبربر امانًا، ونادى بالكف عنهم[9].
في تقريرنا القادم، سنقف مع تطور احداث الفتنة الاندلسية التي اَسقطت الخلافة الاموية، وصراع البيت الاموي على نفسه، بل صراع الاندلس بطوائفها وشعبها على نفسه، لقد كانت حربًا اهلية فيما يبدو، وان انحصرت نارها في قرطبة، لكن شررها طال كافة بلاد وقرى الاندلس، وقد كان لهذا الصراع اثره السلبي على وحدة الاندلس، وحضارتها فيما بعد.“فتنة شنجول”.. الاندلس في اخر ايام الخلافة