غَرامُ-القهوة.-حين-تصارع-الفقهاء-حولها

غَرامُ القهوة.. حين تصارع الفقهاء حولها

اخبار اليوم الصحيفة, غَرامُ القهوة.. حين اخبار اليوم الصحيفة, غَرامُ القهوة.. حين

“انا المعشوقةُ السمرا … اجلى في الفناجين
وعُود الهند لي عِطر … وذكري شاعَ في الصين!”
(عبد الرؤوف الواعظ في هيامه بالقهوة!)
لم تكن شجرة البن قد اكتُشفت حتى القرن الخامس عشر الميلادي، وكان اكتشافها على يد الشيخ الصوفي العارف ابي بكر بن عبد الله الشاذلي العيدروس (ت 909هـ/1504م)
حين كان يمرُّ في بعض سياحاته، فقد راى شجرة البن، فاقتات من ثمرها، وقد اعجبته هذه النبتة؛ اذ راى فيها جلبًا على السهر، وتنشيطًا للعبادة، فاتخذه قوتا وشرابًا، وارشد اتباعه ومريديه الى ذلك فانتشرت في اليمن ثم في بلاد الحجاز ثم في الشام ومصر، واصبح العيدروسي “مبتكر القهوة المتّخذة من البن المجلوب من اليمن” بحسب وصف المؤرخ ابن العماد الحنبلي (ت 1089هـ/1679م).
القهوة بين الحِل والحُرمة
في عام 917هـ/1511م وحين كان يمر ناظر الحرم الشريف في مكة المكرمة الامير المملوكي خاير بك من الكعبة الى بيته راى جماعة ليلة 23 ربيع الاول تحتفل بالمولد النبوي الشريف، وقد وجد بينهم شيئًا يتعاطونه على هيئة الشربة الذين يتناولون الخمر ومعهم كاس يديرونه ويتداولونه بينهم، “فسال عن الشراب المذكور فقيل هذا شراب اتخذ في هذا الزمان، وسُمي القهوة يُطبخ من قشر حبّ ياتي من بلاد اليمن يُقال له البُن، وان هذا الشراب قد فشا امره بمكة وكثر وصار يُباع في مكة على هيئة الخمّارات، ويجتمع عليه بعض الناس بالرهن وغيره مما هو ممنوع في الشريعة المطهّرة”.
لقد اقلق هذا الامر ناظر الحسبة وهو المسئول عن الاخلاق والاداب العامة، فدعا في اليوم التالي القضاة والعلماء وطلبة العلم وغيرهم مثل قاضي القضاة صلاح الدين بن ظهيرة الشافعي – واسرة ال ظهيرة كان لها باع في الفتيا والقضاء في مكة المشرفة في ذلك العصر -والقاضي نجم الدين بن عبد الوهاب المالكي وغيرهم، وشرعوا في مناقشة هذه القضية/النازلة الجديدة، وفي نهاية الجلسة اتفق الحاضرون على التمييز بين القهوة نفسها وبين ما يُصاحب شربها من مظاهر واحوال، بيد انهم تركوا الامر للاطباء كي يُدلوا برايهم في هذا “النبات” وتاثيره على البدن او العقل، وبالفعل احضر الامير المملوكي اكبر طبيبين في مكة حينها الاخوين نور الدين الكازروني وعلاء الدين الكازروني، اللذين شهدا بان المشروب المتخذ من قشر البن بارد يابس مفسد للبدن المعتدل!
لكن احد الفقهاء الحاضرين في تلك الجلسة الساخنة اعترض على هذا القرار معلقًا بان البن مباح ومفيد، فردوا عليه بانه “لو كان مباحًا فقد جرّ الى معصية وكل طاعة جرّت الى معصية سقطت”. لذا اصدر الامير خاير بك قراره واشهر النداء في مكة وضواحيها وطرقها بالمنع من شرب القهوة، وصدر القرار في 28 ربيع الاول سنة 917هـ، لكن قرار خاير بك كان الطلقة الاولى لقرن قادم ظل الجدل فيه ساخنا بين المؤيدين والمعارضين من الفقهاء والقضاة، ورجالات الدولة من السلاطين والولاة وغيرهم.
لقد كانت “القهوة” اسمًا على الخمر منذ عصر الامويين والعباسيين، وهو مصطلح نراه في بطون المعاجم العربية، فابن منظور في لسان العرب، المؤلَّف قبل اكتشاف البن بقرنين تقريبا، يقول: “القهوة: الخمر، سُميت بذلك لانها تُقهي شاربها عن الطعام اي تُذهب بشهوته”. لذا كانت دلالات الكلمة سلبية عند عموم الفقهاء والناس، وسرعان ما اظهر المؤيدون حقيقة الفارق بين “القهوتين”، فتلك قهوة تُذهب بالعقل، وهذه قهوة تنشط الذاكرة، وتُعين على اداء المهمات!
سرعان ما صارت تجارة البن رائجة، بل ساعدت على النهوض الاقتصادي داخل الدولة العثمانية التي كانت قد استولت على الاقطار العربية حينذاك (رويترز)
حين ارسل الوالي المملوكي ذلك المحضر الى السلطان قنصوه الغوري في القاهرة، صدّق على ما تم في ذلك الاجتماع، ومنع شربها، وسرعان ما ايده احد اكبر فقهاء الاسلام في عصره الامام زكريا الانصاري (ت 926هـ/1520م)، لكن محبي هذا المنتج الجديد سرعان ما انطلقوا للانصاري وهم مجموعة من فقهاء المالكية، فاراد الرجل ان يقف على حقيقة الامر كما يخبر صاحب “النور السافر عن اخبار القرن العاشر” فاحضر قشر البن، ثم امر بطبخه/غليه ثم امر هؤلاء المدافعين عن القهوة وحلّها بشُربها “ثم فاتحهم في الكلام فراجعهم فيه ساعة زمنية فلم يرَ منهم من الكلام لا تغيرا ولا طربًا فاحشا بل وجد منهم انبساطًا قليلا”. ولم يلبث الانصاري ان صنّف في حلّها مصنفا قاطعا بالحل.
صراع المؤيدين والمعارضين!
لكن ذلك لم يُعجب المعارضين في مكة والقاهرة ودمشق، مثل الشيخ الكازروني الذي الّف رسالة في تحريمها، في المقابل ايّد بعض العلماء تحليل القهوة كالشيخ ابي بكر المكي الذي الف رسالته “اثارة النخوة بحُكم القهوة”، ثم رد برسالة اخرى “اجابة الدعوة بنصّ القهوة”.
سرعان ما صارت تجارة
البن رائجة، بل ساعدت على النهوض الاقتصادي داخل الدولة العثمانية التي كانت قد استولت على الاقطار العربية حينذاك، وحين توارت مصر كمركز اساسي في تجارة الترانزيت كوسيط حصري في تجاره البهارات “الكارم” بين الهند واوروبا لمدة عدة قرون – والتي اكتشفت طريقا اخر غير مصر في نهاية العصر المملوكي هو طريق راس الرجاء الصالح ما ادى الى اضمحلال هذه التجارة – فان زراعة القهوة وتجارتها اعادت الزخم مرة اخرى للتجارة الداخلية بين اقطار الدولة العثمانية، وراينا ان كبار التجار مثل اسماعيل ابو طاقية شهبندر تجار مصر في القرن السابع عشر الميلادي يجني الالوف من ورائها، بل اسهم ابو طاقية في رواجها من خلال بنائه مقهى في وسط القاهرة في بداية ذلك القرن!
انشد الفقهاء والادباء المؤيدون لحلّية القهوة شعرا، والّفوا في الدفاع عنها رسائل ضد الممانعين في ذلك القرن،”قرن الجدل حول القهوة”، العاشر الهجري/السادس عشر الميلادي، فهذا الشيخ عبد الرؤوف بن يحيى الواعظ تلميذ العلامة ابن حجر الهيثمي يقول فيها:
قد شَرِبنا قهوة بُنية … ولها شربنا غَدا بالنيِّه
لَوْنهَا قد حَكي اذا يبَمِسْكٍ … اَو زبَاد وسط الزباد الجلية
ويقول على لسانها هائمًا:
انا المعشوقة السمرا … اجلى في الفناجين
وعُود الهند ليعطر … وذكري شاع في الصين!
والمتتبع لسير “العاشقين والمغرمين” للقهوة في ذلك القرن يجد عجبًا، فقد روي عن شمس الدين ابي عبد الله محمد السُّودي اليمني (ت 932هـ/1526م) انه كان “مولعا بشرب القهوة ليلا ونهارا، وكان يطبخها بيده ولا يزال قدْرها بين يديه” وكان ينسى رجله تحتها في النار!
لكن يبدو ان القهوة كانت تجر الفريقين الممانع والمؤيد الى حلبة الصراع، ففي دمشق كان الشيخ ابو الفتح المكي (ت 975هـ/1567م) الذي يصفه بعض المؤرخين بانه كان “مغاليا في نُصرة القهوة”، مشاهد ومواقف مع شيخ الاسلام يونس العيثاوي المناوئ للقهوة، والمفتي بحرمتها؛ فقد حصل بينهما شقاق “طال امده، وتاجّج حسده”، وحين اجتمعا مرة لدى قاضي الشام العثماني علي افندي الرومي وتناقشا فيما يتعلّق بالقهوة، وذكر كل منهما دليله فظهر الشيخ ابو الفتح المكي في البحث على الشيخ يونس حيث لم تكن ادلة التحريم واضحة، وقد تصاعد الخلاف بين العالمين المؤيد والمعارض للقهوة خلال عهد الوالي العثماني الجديد لدمشق لالا مصطفى باشا الذي بقي في المدينة خمس سنوات (971- 976هـ/1563- 1568م)، وكان هذا الوالي شديدا عسوفا، لكنه محترم للفقهاء، ويبدو انه كان من انصار القهوة، لذا امتدحه الشيخ ابو الفتح، بينما اعترض عليه الشيخ يونس العيثاوي.
وبينما كانت القهوة تشق طريقها في صفوف المجتمع كله، واصبح لها بيوت/ اماكن مخصصة لشربها (القهاوي)، انقلب الوضع فجاة سنة 968هـ/1572م حين صدر حكم سلطاني من السلطان سليمان القانوني جاء الى القاهرة “يقضي بمنع المنكرات والمسكرات والمحرمات، ويُغلق ابواب الحانات والخانات، ومنع استعمال القهوة، والتجاهل بشربها، وهدم كوانينها وكسر اوانيها”، وصحب تنفيذ هذا الفرمان السلطاني بطشا وشدة من “العسس”، ويروي المؤرخ الجزيري المعاصر لهذه الاحداث، والمؤيّد لشرب القهوة بمرارة قائلاً: “وضربوا واشهروا، وهدموا البيوت، وكسروا اوانيها المحترمة الطاهرة التي هي مال لرجل مسلم … ولم يبلغنا فعلهم مثل ذلك في اواني الخمر والحشيشة”.
انتصار القهوة!
لكن سرعان ما تراخت الدولة عن هذه الفرمانات، وانتصر اخيرا عشّاق القهوة من الفقهاء والادباء على خصومهم الذين صاروا في نهاية ذلك القرن قلة، ظاهرة الانتصار هذه ارّخها الاديب شاعر القاهرة في زمانه برهان الدين بن المبلّط (ت 991هـ/1583م) الذي انشد قائلاً:
ارى قهوة الّبنِّ في عصرنا … على شُربها النّاسُ قد اجمعوا
وصارت لشرابها عادة … وليستتضرّ ولا تنفع
لقد افتتح اول محلين لتقديم القهوة باستانبول عام 1554م، وكان صاحباهما من الشام، حيث جاء الاول من حلب، والاخر من دمشق، وعند نهاية القرن كانت القاهرة تعج بالمقاهي، وهو ما لاحظه احد الرحّالة الاوروبيين – ويُدعى هنري كاستيلا (Henry castela) -الذي زار القاهرة عام 1600 – 1601م، وراى “وجود العديد من الحانات التي يشرب فيها الناس طوال النهار ماءً ساخنا اسود اللون” مما يدل على انه لم ير القهوة من قبل، ولاحظ رحالة اخر – يدعى يوهان فيلد Johan wild
– الذي زار مصر في 1606- 1610م، اثناء وجوده في دمياط وجود ما اسماه “قهوة خانات”، اي مقاهي، حيث كان الناس يترددون عليها – على حد قوله – ليشربوا ماءً مغليا اسود اللون، ليترسخ وجود القهوة في المنطقة العربية والمقاهي منذ ذلك الحين.غَرامُ القهوة.. حين تصارع الفقهاء حولها

Scroll to Top