اخبار اليوم الصحيفة, من دافنشي لستيف اخبار اليوم الصحيفة, من دافنشي لستيف
الاهم من “الفكـرة العبقـرية” هو كواليس ايجاد هذه الفكـرة. بلا شك مرّت عليك لحظة تساءلت فيها عن كيفية تكوّن الفكرة لدى المبدعين. مثلا، كيف تمكّن البرت اينشتاين من الوصول الى فكـرة النظرية النسبية التي خلّدت اسمه؟ كيف تمكّن موتسارت من التوصل الى الحـانه العبقـرية؟ ما الطريقة التي جعلت ستيف جوبز يحوّل شركته الى مسار التطوير الذي خلق الايفون؟ من اين جاءت افكـار لوحات دافنشي الباهـرة؟
يعتقد اغلبنا ان الافكـار الابداعية تقتصر على فئة من الناس دون غيرهم، وان الابتكار محصـور على العباقــرة وذوي معدلات الذكاء المرتفع فقط، وانهم جميعا يمرّون بلحظة الـ “ايـرويكا” التي تجعلهم يهتفون فجاة: وجدتها، وجدتها! وكان الافكار تاتي فجاة لهم حصرا. في الواقع ما يغيب عن اذهاننا ان هؤلاء المبدعين والاستثنائيين يستحضرون افكارهم بادوات واساليب من الممكن ان نمرّ بها جميعا، ونحقق من ورائها النتائج نفسها. على مسرح “تيد”، اُلقيت مجموعة من المحاضرات المتفرقة التي تُسلّط الضوء على اجابات لهذا السؤال المحير: من اين تاتي الافكـار الجيدة؟ وهل يمكن لنا جميعا ان نُنتج هذه الافكـار بالفعل، ام انها مقتصـرة على فئة معينة من الناس؟
كيف ادّت افكـار بسيطة الى اكتشافات علمية مذهلة؟
حينما كان ريتشارد فاينمان -عالم الفيزياء الشهير- فتى يافعا في مدينة كوينز ذهب ليتنزّه رفقة والده وعربته وكُرة، فلاحظ انه حينما يجر العربة تتجه الكُرة صوب مؤخرة العربة، فسال والده: “لماذا تتجه الكُرة صوب مؤخرة العربة؟”، فاجابه والده: “انه القصور الذاتي”، فساله: “ما القصور الذاتي؟”، فاجابه والده: “انه الاسم الذي اطلقه العلماء على ظاهرة توجه الكرة صوب مؤخرة العربة”. الحقيقة ان هذا السؤال -على بساطته- كان السبب في جعل فاينمان يفهم ان ابسط الاسئلة تدفعك الى المعرفة، وهذا ما دفعه في النهاية الى الحصول على جائزة نوبل في الفيزياء.
احيانا، تبدو الامور معقدة وغير مفهومة على الاطلاق، كيف استنتج نيوتن قوانين الحركة، على الرغم من انه كان يعيش منذ قرون طويلة، وانا وانت حتى الان لا نعرف الكيفية التي استنتجها بها؟ كيف توصل اينشتاين الى معادلاته؟ كيف استطـاع ذلك العالم او المخترع او المبدع الوصول الى اكتشاف او اختراع او الكتاب او الفيلم المذهل الذي وصل اليه؟ من اين جاءته الافكـار، ومن اين استلهمها؟
في هذه المحاضـرة القصيرة الشهيرة من “تيد”، والتي نالت -على قِصَـرها- عددا هائلا من المشاهدات اقترب من المليوني ونصف مشاهدة يشرح ادم سافاج مثالين لـ “كيف تستطيع الوصول الى اشياء باهرة بابسط الامكـانيات”. المثال الاول للعالم اليوناني اراتوستينس الذي استطاع حساب محيط الارض قبل نحو 200 سنة قبل الميلاد بادوات شديدة البساطة، ثم يشرح مثالا ثانيا للعالم هيبوليت فيزو الذي استطـاع قياس سـرعة الضوء عام 1849 بادوات بسيطة للغاية.
قد يبدو ان الابداع او الاختراقات المدهشة تتطلب تعقيدات كبرى، ولكن الحقيقة ان البساطة هي المفتاح الاول للوصول الى اكتشافات مذهلة، سواء كانت تلك البساطة في الادوات او المبادئ نفسها.
من اين تاتي الافكـار الجيدة؟
اكثر من اربعة ملايين شخص شاهدوا هذه المحاضـرة في منصة “تيد” الرسمية التي اُلقيت عام 2010، واعتُبرت من اهم المحاضرات التي تضرب بجذورها في محاولة فهم واحدة من اكثر القضايا المحيّـرة للجميع: من اين تاتي الافكـار الجيدة المنطقيـة والابداعية التي تخلق تغييرا كبيرا في مسار اصحابها، والذي قد يتحوّل الى تغيير كبير ايضا في مسار الحيـاة والتاريخ؟
ستيفن جونســون يتحدث في هذه المحاضـرة عن فكـرة الالهـام، او عن لحظـة “الايـرويكا” او لحظة “وجدتها!” الشهيرة في التاريخ. يستعرض العديد من الامثلة والنماذج، ويبدا في تحليلها بدءا من المقـاهي اللندنية العريقة مرورا بافكـار دارون ونظـرياته وليس انتهـاء بالفكـرة العبقرية التي ادت الى وجود شبكـة الانترنت عالي السـرعة الذي نستخدمه في ايامنا هذه.
بشكل عام، يبدو الامر معقدا جدا من الخارج، ولكن الحقيقة المنهجية تقول ان اكثر الافكـار ابداعا تاتي من خلال “التواصل”. نحن نستقي افكارنا من الاخرين دون معرفة منا، ودون نقاش مباشر. جلسة على مقهـى مع صديق، او دعابة صباحية مع جار، او حديث جانبي مع زميل عمل قد تؤدي الى انتاج افكـار ابداعية مذهلة. فقط نوعية هؤلاء الاشخاص الذين نجدهم في طريقنا هي من ستحدد ان كان الابداع سياتي ام سيتاخر كثيرا، او ربما لن ياتي للابد!
عندما تمارس الافكـار الجنس!
عندما كنت طالبا في اكسفورد في السبعينيات، كان مستقبل العالم يبدو كئيبا. انفجار سكاني لا يتوقف، المجاعة العالمية على الابواب، ووباء السرطان يحصد اعمارنا، والتصحر العالمي قادم، والبترول سينفد، والشتاء النووي في الافق. حسنا، لم يحدث اي شيء من هذه الاشياء (ضحك)، بالعكس، لاحقا ارتفع معدل دخل الفرد عالميا، معدل العمر الطبيعي ارتفع 30% خلال هذه الفترة، وانخفض معدل موت الاطفال بالثلثين، وارتفع معدل انتاج الغذاء للثلث، كل هذا حدث مع زيادة السكـان ايضا، كل هذا بسبب ان الافكـار تمارس الجنس!
في حديثه الهادئ على مسرح “تيد”، يشرح الكاتب مات برادلي عبر محاضـرته التي منحها عنوانا مثيرا للجدل وهو “عندما تمارس الافكـار الجنس” (when ideas have sex) ان البشـرية في الواقع تنجـو بفعل تطوّر العقل الجمعي للبشر، وليس من خلال تطوير مهارات الافراد. البشر استطـاعوا النجاة من الكثير من الازمات والمشاكل لا لشيء سوى لافكار واختراعات وابتكـارات حديثة وجديدة كان يفـرزها العقل الجمعي بشكل مستمر، حتى لو كان بشكل غير مباشر او يبدو انه بسبب ابداعات افراد بعينهم.
المحاضـرة التي حققت اكثر من مليوني وربع مشاهدة، تركز على مبدا ان التقدم البشري قائم على افكار تتلاقح طوال الوقت لتطوّر افكـارا جديدة تؤدي في النهاية الى تحقيق اختراقات كبرى تحل اهم مشاكل العالم، حتى لو بدا المستقبل غائما في الافق.
كيف يمكن للملل ان يقودك الى افضل الافكار؟
بدات اتساءل: ماذا يحدث حقا حينما نشعر بالملل؟ بدات بالتحدث الى علماء الاعصاب وعلماء النفس المعرفي، وكان ما قالوه لي مذهلا. اتضح انه حينما تشعر بالملل فانك تشعل شبكة اعصاب في دماغك تُسمى “الوضع الافتراضي”، اذن فاجسادنا تكون على الوضع الالي ونحن نطوي الملابس او ونحن نمشي الى العمل، لكن في الواقع في هذه الاوقات يكون الدماغ مشغولا جدا، في هذا التوقيت بالضبط، يمكنك ان تخرج بافكـار مذهلة!
في المحاضرة التي القتها في ابريل/نيسان 2017 وحققت عددا كبيرا من المشاهدات قارب سقف المليوني مشاهدة، تشرح مانوش زومـردي واحدة من اشهر الظواهر التي نمرّ بها جميعا ولكن لا يكون لدينا الفرصة الكافية لتحليلها او محاولة ايجاد اسبابها ودوافعها. ذلك الموقف الذي تقفز في ذهنك الافكـار الممتازة وانت تمارس اكثر الاعمال مللا مثل غسيل الملابس او الصحون، او ربما لا تفعل شيئا على الاطلاق وتكتفي بتامل المارة في الطريق او النظر الى الحائط.
بشكل عابر، قد يبدو وضع الملل هو اكثر الاوضاع الانسانية ازعاجا لنا جميعا، والشعور بالخواء وعدم الرغبة بعمل اي شيء، وعدم وجود اي شيء لعمله اصلا، ولكن الحقيقة ان هذه اللحظة تحديدا هي اللحظة التي يُفعّل فيها العقل وضعا استثنائيا في ربط الافكار وحل المشـاكل والازمات، بشكل قد ينتج عنه افكـار ابداعية تحوّل مسار حياتك بالكامل على المستوى الشخصي.
المتحدثة مرّت بشكل شخصي بهذه المرحلة، خصوصا بعد انجابها لطفلتها الاولى وانغماسها في كافة الاعمال الروتينية المعتادة للامهات، ولاحظت ان مرحلة الملل ساعدتها في انجاز مشروعات وافكار ممتازة، مما جعلها تشعر بالفضول لمعرفة ما الذي يحدث بالضبط عندما نكون ملولين، والاهم: كيف نستفيد من تلك اللحظة التي نتعامل معها باعتبارها من اكثر لحظات حياتنا استفزازا وضيقا.
العادات المميزة للمفكرين المبدعين
اذا ما نظرت الى كافة المجالات فان المبدعين العظماء هم الاكثر عرضة للفشل، لانهم يحاولون اكثر من غيرهم. فلناخذ ملحّني الموسيقى الكلاسيكية مثلا، النخبة منهم، لماذا يحتلّ البعض منهم صفحات في الموسوعات اكثر من غيرهم؟ ومؤلفاتهم ايضا، لماذا يُعاد تسجيلها اكثر من مرة؟ السبب هو الكم الهائل من المؤلفات التي ينتجونها. كلما زاد انتاجك، حصلت على تنوّع اكثر، وتزداد بذلك فرصك في الاتيان بشيء مبدع حقا. اذا ما اردنا ان نصبح مبدعين اكثر، يجب علينا توليد الكثير من الافكار.
ادم غرانت المتخصص في علم النفس يلقي محاضـرة شيّقة تتبع منابع الافكـار العظيمة التي ياتي بها المبدعون، سواء رواد الاعمال والاثرياء من ناحية او العلمـاء والفنانين والموسيقيين من ناحية اخرى. في كل الاحوال، لا بد ان يكون هناك قالب معيّن يشترك فيه جميع هؤلاء المبدعين ولو اختلفت توجهـاتهم ومجالاتهم، لكن القانون يبقى واحدا.
في محاضرة “العادات المميزة للمفكرين المبدعين” التي حققت مشاهدات هائلة تجاوزت سبعـة ملايين مشاهدة، واعتُبرت من اهم محاضرات “تيد” التي تُسلّط الضوء على مفهوم الابداع والابتكار وتدفق الافكـار. هنا يطرح غرانت 3 عادات معينة رصدها في كل المبدعين بلا استثناءات تقريبا، ثلاثتهم غير متوقعين. ابرز هذه العادات واهمها هي قدرة المبدع على ان يحتضن الفشل، لانه يكون -بعكس المتوقع- عرضة للفشل اكثر من غيره، وهذا الفشل المتكرر هو الذي يقوده الى خلق ابداعات مدهشة لا يستطيـع الاخرون الاتيان بمثلها.
تركز المحاضرة على محور “انت بحاجة الى الكثير من الافكار السيئة للتوصل الى عدد قليل من الافكـار الابداعية الباهرة!”.
ابحث عن عبقريتك المبدعة المراوغة!
14 مليـون مشاهدة لهذه المحاضـرة التي اُلقيت عام 2009 على مسرح “تيد” بواسطة الكاتبة والاديبة العالمية اليزابيث غيلبرت التي حازت شهرتها الضخمة بعد كتابها الشهيـر الذي حقق مبيعات كبرى حول العالم “طعام وصلاة وحب” والذي تحوّل الى فيلم سينمائي لاحقا. هنـا تشرح غيلبرت عبر حديثها المرح ما تحاول ان تنقله الى الجمهـور من الغوص في ابعاد الابداع منطلقة من قاعدة: العبقـرية غير مقتصـرة على الاخرين، كل منا له عبقـريته الخاصة ولكنه لم يعثـر عليها بعد.
ككـاتبة مخضـرمة ذات شهـرة عالمية، ترى غيلبـرت ان الخوف يعتبـر دافعا مهما لنشوء وتطور الابداع. قبل ان تدخل الى عالم الكتابة، كانت تخاف من الفشل في هذا المجال. بعد دخولها الى عالم الكتابة، كانت تشعر بخوف هائل من فشل رواياتها التي تصدرها. عندما صدرت روايتها الاشهر وتحولت الى كاتبة عالمية تحقق مبيعات ضخمة، راودها الخوف مجددا من المستقبل، هل القادم اسوا ام سيمكنها كتابة شيء اخر جديد مميز.
سلسلة من المخاوف، اتضح في النهاية انها هي المحرّك الاساسي لعبقـرية الفنانين والعباقرة على مدار التاريخ في مختلف المجالات، الخوف من الفشل يدفعهم الى النجاح، الخوف من السكون يدفعهم الى الحركة، الخوف من الانهيار يدفعهم الى التركيز، الخوف من السقوط يدفعهم الى الصعود!
المحاضرة مزيج من رؤى وتصورات شخصية من جهة، وتسلسل تاريخي ومعلوماتي من جهـة اخرى لشرح مفهوم العبقـرية والابداع التي تصمم انهمـا عنصـران مغروسان في كل واحد منا، ولكن البعض اكتشفه مبكـرا والبعض الاخر اكتشفه متاخرا، والبعض الثالث -وهو الاسوا حظا قطعا- لم يكتشفه على الاطلاق.
اين يختفي الابداع الذي بداخلك؟
واحد من مبادئ الابداع ان تتعرض لصدمة في الطفولة، عندما كنت في الرابعة عشرة اكتشفت ان اخي في عام 1967، وبعده بستة اشهـر فقط ابي، كليهما مصاب بسـرطان المخ. لم استوعب انا وامي هذه الحقيقة، ومع ذلك كانت هذه الصدمة هي نفسها سبب اسئلتي الكبيرة التي سالتها لنفسي منذ ذلك الوقت وحتى اليوم: لماذا تحدث هذه الاشياء؟ وكيف تحدث؟
الكاتبة الاميـركية من اصول صينية “امي تان” لها راي مغاير بخصوص الابداع، قد يكون مُقبضا قليلا ومع ذلك له مبرراته. القت الكاتبة والروائية محاضـرتها على مسرح “تيد” في عام 2008 بعنوان “اين يختفي الابداع؟”، وحققت نسبة كبيرة من المشاهدات تجاوزت المليوني مشاهدة على منصة “تيد” الرسمية، واعتُبرت من اهم المحاضرات التي تسلط الضوء على منابع الابداع واستجلاب الافكـار المميزة.
الصدمة، ترى امي تان ان الصدمة لها دور شديد الاهمية في بدء شرارة العملية الابداعية لاي شخص في اي مجال ممكن، بدءا من المجالات الفنية وليس انتهاء بالشركات والاعمال والتميز المهني والوظيفي. من الصعب جدا الا يوجد مُبدع لم يعانِ من صدمة في فترة ما في حياته، ناهيك ان لم يتعرّض لها في مرحلة مبكرة من حياته تجعله يدخل في الخطوة الاولى لدائرة الابداع: التفكيـر خارج المعتاد، وطرح السؤالين الابديين: لمـاذا؟ وكيف؟
في المحاضـرة تشرح امي تان العديد من المحـاور التي رصدتها خلال تجربتها ككـاتبة وروائية بخصوص العملية الابداعية، وكيف راقبت هي نفسها بنفسها بخصوص تطوّر ابداعها في مجالها، ومقارنتها بنماذج ابداعية اخرى بدا واضحا انها تشاركها في اجزاء كبيـرة من تجـربتها الشخصية التي -رغم الامها ومشاكلها- كانت سببا في وصولها الى ما وصلت اليه.
في النهاية، يبدو الاجمـاع واضحا في كل هذه المحاضـرات ان الافكـار المبدعة في حياتنا تكون وليدة العديد من العوامل المختلفة، لحسن الحظ انها متاحة لنا جميعا دون استثناء، ولحسن الحظ ايضا ان الذكـاء الخارق ليس احداها!من دافنشي لستيف جوبز.. كيف تتولد افكار المبدعين؟